في الجزيرة نت
هل بقي لنا خيار آخر غير الثورة
السبت 30 كانون الثاني (يناير) 2010
في تقرير عن تبعات الكارثة البيئية القادمة على الأمن القومي الأميركي في الثلاثين سنة المقبلة, يقول ليون فيورت المستشار الأمني لنائب رئيس الولايات المتحدة السابق آل غور، إنه نتيجة ارتفاع الحرارة وشحّ الأمطار، فإن الزراعة ستنهار في كثير من المناطق منها منطقة “شمال أفريقيا والشرق الأوسط” التي ستعرف فوضى غير مسبوقة نتيجة انتشار الجوع والعطش ومحاولات الفرار باتجاه شمال مغلق بالأساطيل. لكن السيد بلخادم والسيد مبارك مشغولان، لا بالهول الذي ينتظر بلديهما، وإنما هذا بالشرف الجزائري وذاك بالشرف المصري، حيث أصرا على أن يكونا طرفا في خصومة غوغائية مشينة لم تشرّف شعبين من أكبر شعوب الأمة. لا غرابة أن تتصدّر مقالتي عن تقرير 2009 لبرنامج التنمية للأمم المتحدة الجزيرة نت أسبوعا، فلا يعلّق عليها إلا ستون قارئا، بينما تدافع المئات في يوم واحد للتعليق على الخصومة التي فضحتنا لأنفسنا. إنه وضع من يصيح “الحريق.. الحريق” فيواصل سكان العمارة، والدخان يخنق الأنفاس، خصامهم حول من بدأ ضرب الآخر: طفل زيد أم طفل عمر؟
الأكثر إحباطا نوعية الردود على المقالة. كأنّ العقل العربي لم يعد يعرف أمام أي إشكالية إلا إجابات أوتوماتيكية تخرج إما من بؤرة عقدة التفوق والحلول السحرية (أعزنا الله بالإسلام ويكفي أن نعود إليه إلخ) أو من بؤرة الإحباط الشامل وعقدة النقص المرضية (إذا عربت خربت، نحن أمة انتهت إلخ). لحسن الحظ تجد قلة تطرح السؤال الوحيد الذي يستأهل أن يلقى: ما العمل؟
* لنحاول الرد عليه بإلقائه كالتالي: ما المطلوب (هكذا في المطلق) لمواجهة الوضع الذي يصفه التقرير الأميركي وخاصة تقرير الأمم المتحدة، أي أن الأمة مهدّدة بتفاقم سبعة أخطار هي الخطر البيئي (من جفاف وتصحر ونقص حاد في الماء وانهيار الزراعة) وخطر الدولة (تفاقم القمع) وأخطار النمو الاقتصادي الضعيف وسوء التغذية والجوع وتكاثر الأمراض وتزايد هشاشة المجموعات الضعيفة، ناهيك عن الحروب الأهلية والاحتلال الخارجي. الإجابة البديهية: بجملة من الإجراءات العاجلة والهيكلية، منها على سبيل العد لا الحصر.
تسخير الإعلام والتربية لحملة متواصلة تشرح التقرير وأبعاده حتى ينتشر الوعي والشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية.
استنفار طاقات المجتمع بتشجيع وتمويل المبادرات في أيّ من الحقول الحيوية المذكورة أعلاه.
الدعوة، نظرا لاستحالة حلّ مشاكل الماء أو البطالة في إطار حدود سايكس بيكو، إلى مؤتمرات قومية قطاعية تضم خيرة المختصين والسلطات المعنية والمجتمعات المدنية، وخبراء أجانب (مؤتمر الماء، التصحر،التلوث، الزراعة، الطاقات البديلة، التعليم، البحث العلمي، البطالة، الصحة… إصلاح الدولة إلخ ….) . وهذه بالطبع ليست مؤتمرات أكاديمية تنتهي برجوع المشاركين إلى بيوتهم، وإنما هياكل قارة تجتمع باستمرار للتشخيص واقتراح العلاج ومتابعة تنفيذ التوصيات على الأرض من قبل السلطات المختصة. لقائل أن يقول كل هذا غير وارد إلا في ظل دولة عربية فدرالية، ديمقراطية، صالحة وفعالة. ويمكنه أن يضيف أليس طلب شيء كهذا إسراف في الدلال على الدنيا ومتى وفّرت لشخص أو مجموعة الأداة المكتملة الشروط والجاهزة لحلّ مشاكله؟ ليكن. يبقى أنه لا بدّ على الأقل من دول لها الحد الأدنى من إرادة التنسيق بينها، من الصلاح والفعالية والدعم من شعوبها وخاصة من الوعي بمسؤولياتها تجاه الأجيال القادمة. لنتفحص الآن الخصائص التي ابتلينا بها ولنبدأ بالتذكير بأن الدولة هي الأداة التي يخلقها مجتمع للسهر على أمنه الخارجي والداخلي، وقد وُسّعت صلاحياتها على مرّ التاريخ لتشمل تنظيم الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وتقاض وغيرها عبر المؤسسات المختصة. حقا هي ليست الربّ الذي يقول للشيء كن فيكون، لكنها الوحيدة القادرة بحكم مركزيتها في المجتمع وصلاحياتها وإمكانياتها على بلورة وقيادة مخططات التصدي للكارثة التي تتلامح في الأفق، ناهيك عن التواصل والتنسيق مع مجتمعات أخرى مهددة مثلنا في عالم لسنا إلا جزيرة من أرخبيله.
هذه الأداة يشّغلها محرّك اسمه النظام السياسي وهو جملة الأشخاص الذين يتتابعون -بالغصب أو بالتفويض الديمقراطي- لقيادتها حتى تخدم وطنا هو ماضي الآباء وحاضر الأبناء ومستقبل الأحفاد. ماذا الآن عن خصائص المحرك الذي يشغّل عندنا الأداة؟ معروف أن نواته (وإن تغلّفت بالبرلمانات والانتخابات وحاولت الاختفاء وراء دخان المصطلحات السليبة مثل الوطنية والإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون إلخ) هي إرادة وأهواء الزعيم الأوحد وحق العائلات والعصابات المرتبطة به في المال العام وحكم الأجهزة القمعية وهوس الحفاظ على المزرعة الخاصة في حدودها الموروثة بمنطق “قبضايات” الشام و”فتوات” مصر الساهرين على أمن الحارات ومداخيلها. ومن طبائع هذا النظام الهيكلية أيضا أنه ضيّق الأفق بالمعنى الزمني لا يرى أبعد من حياة الدكتاتور، وضيّق الأفق بالمعنى السياسي حيث الحكم عنده في التسلّط أطول وقت ممكن والتنعّم بملذاته الرخيصة والتغطية على اللافعالية العامة الناجمة عن انتشار فساده في كل المؤسسات نتيجة قانون “الناس على دين ملوكها”. أما معالجة المشاكل الضخمة من جذورها، فما بالك بالإعداد للأجيال المقبلة، فآخر ما يقدر عليه أو يرغب فيه وهو أول من يعلم أنه أكبر عوامل الخلل. لا غرابة أن يعتبر التقرير الدولة العربية الحالية بشكليها الأساسيين، الملكية و”الجملكية”، جزءا من المشكل لا من الحل، وأن يضعها في ثاني مرتبة الأخطار التي تهدد أمن كل عربي. فهذه الدولة أو بالأحرى النظام الذي يسيرها هي اليوم مثل الأسلحة الفاسدة التي كانت سببا في ثورة يوليو/تموز 1952، ثقيلة الحمل، عديمة الفائدة، لا تصدّ عدوا ولا تحمي صديقا، وقادرة على أن تنفجر كل لحظة لتقتل من تدعي خدمته. معنى هذا أننا عندما أفرطنا في الدلال على الدنيا ونحن نطالب لحل مشاكل تتهدد وجودنا ذاته بدولة فدرالية ديمقراطية صالحة وفعالة، فإن الدنيا أسرفت علينا بالقسوة والسخرية وهي لا توفر لنا ونحن في أصعب ظرف في تاريخنا إلا دولة قطرية استبدادية فاسدة غير فعّالة… أي أن الموجود هو النقيض المطلق للمطلوب ولأشد ما نحتاج إليه. * كلمة عابرة عن الإصلاح الذي آمنا طويلا بأنه حلّ مثالي لأزمة المحرّك الفاسد. يستعمل علماء الفلك مفهوما هو نافذة الإطلاق أي أنه نتيجة تحرك الكواكب لا توجد إلا فترة زمنية محددة لإطلاق صاروخ يصل مرماه. كذلك الإصلاح السياسي لا إمكانية له قبل الوقت أو بعد فوات الأوان. للأسف الشديد كانت هناك نافذة إطلاق للإصلاح دامت من الثمانينيات إلى 11 سبتمبر/أيلول 2001. إبان هذه الفترة التي نمت فيها المجتمعات المدنية العربية ووقع فيها انتقال السلطة في بعض الملكيات لجيل جديد من القادة وسقط جدار برلين وداهمت موجة الديمقراطية العالم، كان كل شيء ممكنا. لكن هذه النافذة أغلقت بفعل عاملين: عجرفة المتسلطين ودعم الغرب لهم نتيجة دهاء تكتيكي عميق الأسرار وغباء إستراتيجي سحيق الأغوار. قد يكون حكم المؤرخين كالآتي: إن مشروع إصلاح النظام الاستبدادي العربي -أو قل وهمه- ولد في تونس في أواخر السبعينيات وتجوّل هنا وهناك وأفاق بعد فوات الأوان في نجد والحجاز ثم مات مأسوفا عليه في موريتانيا في “انتخابات” 2009. إذا كان هذا هو الوضع، فماذا بقي لنا لكي لا نواصل انتحارنا البطيء؟ طبعا الخيار الوحيد الذي عهدت له شعوب وصلت هي الأخرى الحضيض مثل الشعب الفرنسي في القرن الثامن عشر والشعب الروسي والصيني في القرن العشرين…. الثورة. * ليطمئن قرائي المحافظون فلست بصدد التحريض عليها لا لشيء إلا لأن المثقف مجرّد لسان للتعبير عن أفكار نضجت قبله وخارجه في الوعي الجماعي، وعلى كل حال فالثورة بدأت منذ زمن بعيد وقلّ من يعي.
” ما يجب أن ينتبهوا له أن الخيار اليوم لم يعد بين الإصلاح والثورة وإنما بين الثورة المسلحة والثورة المدنية. الأولى هي التي أخمدها بالقوة النظام الاستبدادي في حماة والصعيد وجبال الجزائر. لكنها لم تهجر المراكز الكبرى إلا للتموقع على التخوم في اليمن والسودان والصومال والصحراء في انتظار استغلال محكم لما كدّس الطغاة من الحطب اليابس. والثانية هي المقاومة السلمية التي تواجه بها المجتمعات المدنية من الخليج إلى المحيط النظام الفاسد من الكتابة على الجدران أو في الإنترنت، إلى تنظيم المؤسسات المدنية والسياسية المستقلة، إلى افتكاك حرية الرأي، إلى المظاهرات، وصولا في يوم من الأيام إلى الإضراب العام تتويجا للعصيان المدني. الثابت أننا نعيش تسابقا محموما وتنافسا غير مرئي بين الثورتين المتصاعدتين ولا أحد قادر على التنبؤ بمن ستتحمل أعباء مواجهة الإعصار القادم. مما يعني أنه لم يعد من خيار لكل عربي, اللهم إلا إذا كان فاسدا أو من نوع “بقر الله في زرع الله”، غير الانخراط بالقلب أو باللسان أو بالفعل في إحدى الثورتين. إن كان لهذا المقال صبغة تحريضية فللدعوة بقوة إلى الانخراط وبأعداد متزايدة في الثورة المدنية وذلك لجملة من الأسباب أهمها:
أن التاريخ يثبت أنه بقدر ما الثورة المسلحة شرعية وفعالة في مواجهة الاحتلال الخارجي بقدر ما هي سلبية المردود في مواجهة الاحتلال الداخلي حيث تستبدل استبدادا باستبداد آخر كما فعلت الثورة الفرنسية التي جاءت بنابليون والثورة الروسية التي جاءت بستالين والثورة الصينية التي جاءت بماوتسي تونغ المتسبب في أكبر مجاعة عرفتها الصين في القرن العشرين وفي أكثر الثورات عبثية. أي الثورة الثقافية في نهاية الستينيات.
أن من يقود الثورة المسلحة دوما عقائديون أحاديون لا أخطر منهم على مجتمع تعددي بطبعه، ناهيك عن تشبعهم بالعنف وإيمانهم الأعمى بأنه الحل السريع والحاسم لكل مشكلة.
أن الثورة المسلحة من فعل نخب تعتبر المجتمع المحرّر مجتمعا مغزوا وتعامله على هذا الأساس وهو ما يفسر سرعة عودة الفساد، بينما الثورة المدنية من فعل قطاعات واسعة من المجتمع ولا مكان فيها لأفضلية أو مزية طرف على آخر، ويمكن للحرية التي تؤطرها وضع كل الآليات الفعالة لمحاربة عودة هذا الفساد.
أن التغييرات التي تفرضها بالقوة الثورة المسلحة هي دوما سطحية وشكلية بينما لا تقوم الثورة المدنية إلا على أسس ثورة في العقول ومن ثمة بقاؤها أضمن.
أن الثورة المسلحة الإسلامية، التي تسميها السلطات الاستبدادية والاستعمارية إرهابا، لم تضعف النظام العربي الفاسد بل مدّدت في أنفاسه وهي تضفي عليه شرعية الدفاع عن الحداثة والاستقرار. على العكس من هذا استطاعت الثورة المدنية عبر الإعلام وحده كسر شوكة المستبدين و”قتلهم” في العقول والقلوب وهي المرحلة التي تسبق نهايتهم في فضاء “الواقع”.
أن بوسع الثورة المدنية التي تفرّق بين النظام والدولة التعويل على الدعم والتعاطف حتى من داخل أجهزة الدولة الرهينة، في حين يؤدي الخلط عند الثورة المسلحة إلى تجميد هذا الزخم أو دفعه للالتحام بصف العدو.
أن الدولة التي تنبثق عن المقاومة المدنية أثبت وأطول عمرا من التي تأتي بها الثورة العنيفة وهل ثمة دليل أبلغ من انهيار الاتحاد السوفياتي بعد سبعين سنة من البلشيفية.
أن لمثل هذه الدول نجاعة أكبر في التعامل مع تحديات بمثل خطورة التي نواجهها حيث تنجح لا فقط في تجنيد المؤسسات وإنما أيضا في إشراك مجتمع حرّ هو أكبر عوامل النجاح. * ” لقائل أن يقول، لنفترض أن الحياة كفّت عن السخرية منا وأننا ارتقينا لمصاف التحديات ونجحنا في ثورتنا المدنية موفرين على أمتنا المنهكة حمامات بل شلالات من الدم، فهل سينتظر التصحر والجوع والبطالة قيام الدولة الديمقراطية في كل قطر ثم الاتحاد العربي لمواجهة الأخطار الزاحفة علينا زحف الجراد؟ طبعا لا، فكل هذه المشاكل تتفاقم ونحن بصدد الصراع من أجل إيجاد الأداة الكفيلة بمواجهتها. يمكن للمتشائم الإضافة: إذن الطامة الكبرى مؤكدة سواء عجزنا عن توفير الأداة أو وصلت متأخرة؟ ممكن، لكن الاستنتاج ليس لننتظر الطوفان مضطجعين، وإنما لنتحرك بسرعة أكبر لتفاديه أو للتقليل من أضراره. يتطلب هذا:
أن نعلن نحن الشعوب، حالة الطوارئ التي بدت دوما من اختصاص السلطة المستبدة.
أن نصعّد جهودنا من داخل الدولة الأسيرة ومن خارجها للانتهاء من النظام الاستبدادي الفاسد وبناء الدولة الديمقراطية الوطنية في أقرب الآجال.
أن نعود لمشروع الوحدة لكن في شكل اتحاد دول ديمقراطية على غرار الاتحاد الأوروبي.
أخيرا لا آخرا أن تستولي كل المجتمعات المدنية حتى وهي ترزح تحت الاحتلال الداخلي، على ملفات التصحر والجفاف والماء إلخ. كل هذا مساهمة في الثورة المدنية التي يجب على كل عربي له الحس الأدنى من المسؤولية تجاه الجيل المقبل الانخراط فيها بعقله وقلبه ولسانه وذراعه، الراية “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم”…. وإلا فمن الأحسن أن نكف عن الزواج والولادة لمجرد تبرئة الذمة عملا بقول المعري: هذا جناه أبي عليّ .. وما جنيت على أحد