في الجزيرة نت
نهضاتنا اليوم والبارحة وغدا
الاثنين 26 تموز (يوليو) 2010
كم حبّرنا من كتب ومقالات في إشكالية النهضة، هذا الهاجس الكبير الذي يسكننا منذ أكثر من قرن!…. كل هذا لأن الأسطورة القومية التي نسكنها وتسكننا تقسّم تاريخنا لأربعة فصول: الجاهلية فترة الظلام المطبق، ثم فترة النور الساطع التي مثّلها الإسلام، بعدها الانحطاط الذي ما زلنا نعيش فيه ويجب الخروج منه للوصول إلى النهضة هذه المرحلة الرابعة التي ستتوج مسار أمتنا بأروع “هابي إند”.
وبانتظار أن يولد لنا مؤرخون عظام يفككون هذه الأسطورة (كما فعل الإسرائيلي شلومو صاند مع أسطورة الشعب اليهودي، مظهرا ما تحفل به من أغلاط ومغالطات ومن وراء الفبركة وكيف صنعت ولأي أغراض سياسية)، يجب العودة للمنطلقات لتسليط الضوء على مستوى آخر من الإشكالية أملا في زيادة الفهم لا البلبلة. النهضة مفهوم أخذناه من الغربيين وهم يطلقونه على فترة من تاريخهم هي القرون 14-16، (يسمونها الولادة الجديدة) وقد تميزت بظهور رجال أفذاذ قادوا ثورة ثقافية، مثل ليوناردو دا فينشي ومايكل آنغلو ومكيافيلي وجاليلي، وآخرين فتحوا البحار مثل الأمير هنري الملاح وكريستوفر كولومبوس وفاسكو دي جاما، وهو ما مهّد لتفوّق فكري واقتصادي وعسكري مكّن الغرب من بسط سيادته إلى نهاية القرن العشرين.
لا أحد يعرف وصفة النقلة النوعية المفاجئة، وهل هي نتيجة بروز شخصيات فذة أم تضافر الإرادات الصامتة للملايين أم بفعل الصدفة عند اكتشاف تكنولوجيا جديدة، أم كل العوامل مجتمعة. كل ما نعتقده أنه حدث جلل في حياة الشعوب، إنها لا تحصل إلا مرة واحدة ، إنها طريقنا الوحيد للخروج من البؤس الذي نحن عليه. لذلك نريدها بكل قوانا، لا ننفك في الجري وراءها بأحلامنا وأفكارنا وخططنا.
لكن ماذا لو كنا كبطل القصة البوذية الشهيرة الذي انطلق يركض في كل اتجاه بحثا عن الفرس.. التي يركب؟ ماذا لو كانت النهضة التي لا نعي أننا نعيش في خضمها.. واحدة من بين نهضاتنا الكثيرة؟ لنتصوّر أنه قيّض لنا مرقب خيالي نسلطه لمدة قرون على شبه الجزيرة العربية نتابع ظهور بقع حرارة ونور نعرف ارتباطها الوثيق بنهضة بشرية تشمل العمران والأفكار والتنظيم والقيم. لنطلق الآن عداد القرون بدءا من القرن العاشر قبل الميلاد ولنبدأ الرصد.
سنفاجأ بطول الظلام ثم ببروز بقعتين كبيرتين من النور، واحدة في الشمال هي مملكة الأنباط تظهر في القرن الرابع قبل الميلاد في منطقة الأردن، وواحدة في الجنوب هي مملكة حمير في اليمن بين 115 قبل الميلاد و599 بعد الميلاد . تدريجيا تنطفئ أنوار البقعتين. ها قد عاد الظلام لقرون طويلة. فجأة يشتعل نور خاطف يضيء كل المنطقة متوسعا بسرعة مذهلة لحدود العالم المعروف. إنه الإسلام. بعد أقل من قرنين تغرق شبه الجزيرة في الظلام والقبائل البدوية تتوقّف عن كل نشاط خلاق يذكر وعن كل تأثير في الحضارة وذلك طيلة اثني عشر قرنا. هل ماتت المنطقة نهائيا؟ كلا، ها هي الأضواء تشتعل مجددا من الخليج إلى البحر تدل على تحولات مذهلة، وذلك في أقل من خمسة عقود ابتداء من منتصف القرن الماضي.
كم سيدوم الوضع؟ ألن يصبح العمران مدن أشباح تذروها رياح الصحراء وتسكن خرائبها قبائل بدوية عادت إلى مرحلة ما قبل البترول؟ حتى لو حصل هذا، لا شيء يمنع نهضة جديدة ولو بعد قرون تعيد للمنطقة سالف حيويتها، لكن بوجه قد يفاجئ بنفس الكيفية التي كان يفاجأ بها الشعراء الصعاليك وهم يكتشفون كورنيش الدوحة وأبراج دبي. ألا يعني هذا أن تاريخنا سلسلة نهضات وكبوات لا أحد يعرف متى بدأت ومتى ستنتهي ؟ إنها ظاهرة عامة. انظر لمسار قرطاج ودمشق وبغداد وكيف كبت ونهضت أكثر من مرة. لفهم الظاهرة، لا بد من وضعها في إطار عمل القوتين الجبارتين المتحكمتين في وجود العالم ووجودنا أفرادا وشعوبا وأجناسا: الخلق والتدمير.
انظر حولك وستكتشف فعلهما الدائم، على صعيد الشخص، هما اللتان تتحكمان في الصحة والمرض، في الحياة والموت. على صعيد العمران نجدهما وراء بناء البيوت والمدن ووراء خرابها، على صعيد الأنظمة والدول والحضارات وراء صعودها وسقوطها. هاتان القوتان موجودتان ضرورة في نفس الوقت وفي كل كائن وكيان إنما باختلاف في قوة التأثير من لحظة لأخرى، فالنهضة سواء كانت نهوض شخص من فراشه بعد وعكة صحية أو نهوض شعب من مرحلة خمول دامت قرونا، هي غلبة آنية ومؤقتة لقوى الخلق على قوى التدمير. أما مرض الشخص أو انحطاط مجتمع، فنتيجة انتصار قوى التدمير على قوى الخلق.
كل هذا يدعو للتفاؤل وبذور النهضة كامنة داخل أكبر كبوة تنتظر ساعتها، مثلما يدعو للتشاؤم، وبذور الخراب موجودة في كل نهضة حتى في أوج تألقها. هذا ما يجعل العاقل لا يعيش إلا الموقف الذي أوصى به إميل حبيبي: التشاؤل. **** المهم، لماذا يمكننا القول إننا نعيش مرحلة غلبة قوى الخلق على قوى التدمير وبالتالي نهضة جديدة (رقم؟).
إذا كان كاتب هذه السطور يدين بالحياة لوالدين من لحم ودم، فإنه يدين بصياغة فكره وروحه لرجال عظام أكثرهم تأثيرا عمر بن الخطاب وأبو العلاء المعري وأبو بكر الرازي ومحيي الدين بن عربي وعبد الرحمن الكواكبي والطاهر الحداد. ترى ما الذي كانت الروح تخبر به هؤلاء الخالدين الذين نهتدي بهم كالتائهين وراء خير الأدلة؟ ربما شيء من هذا القبيل وقد عقد التهيب مني اللسان.
“أبشر يا فاروق، إن الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا لم يعودوا عبيدا يباعون على قارعة الطريق ولا جواري بالآلاف في قصور الطغاة … أبشر يا أبا العلاء فالعقل الذي جعلته في مصاف النبوة قوام حضارة اليوم… أبشر يا أبا بكر اكتشفنا كيف نقي ونعالج الجدري والحصباء والسل والطاعون… أبشر يا محيي الدين فالتسامح تقدّم خطوات جبارة … أبشر يا عبد الرحمن، مات المستبدون في العقول والقلوب ومراسم دفنهم في الواقع على قدم وساق… أبشر يا طاهر، بناتنا الأغلبية في الجامعات، أصبحن طبيبات ووزيرات وقائدات طائرات”.
تقول نسيت مشاكلنا وتخلفنا وتبعيتنا؟ أبدا، بل يجب أن نتذكر دوما تقرير 2009 لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي, وأن لنا ستين مليون أمي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، أننا مهددون بالتصحر وبالجوع وبالعطش، أن دولنا أصبحت أكبر خطر يتهدد أمننا القومي وأمن كل واحد منا وأننا نكاد لا ننتج شيئا يذكر من العلوم والأفكار والقيم. لكن هل تعي بالقفزة الهائلة التي حققناها في أقل من قرن وأدت لانتهاء الرق وخروج المرأة للعلم والعمل والثورة في العلاقة بين الحاكم بالمحكوم؟ انظر الانفجار السكاني والعمراني وانتشار التعليم والصحة وتوسع العربية وبروز مدارس غير معروفة في الفنون والعلوم وظهور شخصيات مجددة.
انظر كيف تتقارب الشعوب العربية كما لم تتقارب في تاريخها الطويل بفضل وسائل الاتصال الحديثة وانتشار الفصحى وتزايد الوعي بضرورة التنسيق والترابط. انظر عنف قوى التدمير في تعاملها مع تنظيم سياسي عافه وعفا عليه الزمان مثل الحكم الفردي، انهار في كل مكان ويتراجع في البقايا التي ما زال يوجد فيها وهي للأسف بلداننا. أخيرا لا آخرا هل حقق الغرب المدينة الفاضلة بعد نهضته أم غيّر فقط نوعية مشاكله؟ مجددا، النهضة ليست اختفاء قوى التدمير وإنما حيوية قوى الخلق وتفجرها، وهذا بالضبط ما نعرف. وفي كل الأحوال لنتذكر أن تعقيد العالم يمنع التعامل معه بمنطق إما، إما، والتعاطي الفعال معه لا يكون بقراءة ترى في نفس الوقت النصف الفارغ من الكأس ولا تغفل عن نصفه الملآن. ****
إذا كنا إذن في مرحلة نهضة فما معنى حديثنا عنها وكأنها شيء غائب يجب أن نخلقه بمزيد من العلم والعمل؟ تمعن في كل ما يكتب منذ قرن وستكتشف أن موضوع التفكير (فالخلاف) هو المشاريع، أي برامج غزو السلطة المعنوية والسياسية للتحكم في تغييرات مجتمعية تخدم مبادئ ومصالح جهات معينة. لكن هل كنا نفكر ونتناقش ونتخاصم حول هذه البرامج لولا وعينا أننا في خضم مرحلة انتقالية جبارة قد تكون أهم ما عرفنا في تاريخنا. ما الوضع إذن؟ نحن كملاحين ينتبهون لهبوب الريح بعد طول السكون والتحدي أمامهم اغتنام الطاقة التي جادت من السماء لدفع المركب، لكن في أي اتجاه وما المرفأ؟
المشكلة في تحديد الوجهة وحشد القوى عبثية الصراع الإسلامي و/ أو القومي الذي لا يرى نهضة إلا في الرجوع للإسلام “الصحيح” أو للإمبراطورية الأموية، وبين العلمانيين التقدميين الذين لا يرون طريقا سالكا إلا الذي يقلد النهضة الغربية بعلمها وعلمانيتها وتكنولوجياتها ومؤسساتها الديمقراطية. هذا الخصام عبثي لجهله أو تجاهله أن كل نهضة تواصل وقطيعة.
لنذكّر أن من أهم دعامات الأسطورة التي تهيكل علاقتنا بالتاريخ تقريرها أن الجاهلية ظلام مطبق أنهاه نور الإسلام الساطع حال ظهوره. صحيح أن هناك هوّة بين مؤسسات وقيم الجاهلية والتي أتى بها الإسلام… بعد صراع مرير وطويل.
لا شكّ أن علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين أحسن من أثبت أن الجاهلية تواصلت داخل الإسلام وحتى انتصرت عليه ردحا من الزمان. هو يبين بقراءة تاريخية نافذة البصيرة أنه باستثناء فترة عمر بن عبد العزيز(التي لم تدم إلا سنتين وصفّي صاحبها بالسم على الأرجح)، كان كل العهد الأموي بمنزلة ثأر أرستقراطية قريش من الرسول وآل بيته، إننا لا نفهم شراسة يزيد ضد الحسين إن لم نضعها في إطار الثأر القبلي لموتى القرشيين في بدر وأحد، خاصة أنه تحت الغطاء الشفاف للدين الجديد تواصلت كل قيم الجاهلية والشعر الذي شجعه الخلفاء الأمويون حامل الإيديولوجيا الحقيقية التي لم يستطع الإسلام محوها وإنما تغطيتها. إنها القيم التي يتردد فينا صداها إلى اليوم ونحن ننتشي لقصائد النرجسية والكبرياء والفخر والتعصب للقبيلة والذات. ربما نحن جاهليون أكثر مما نتصور.
نفس الشيء اليوم في شبه الجزيرة بل وفي كل شبر من الوطن الكبير: تواصل الإسلام فينا في العمق تواصل الجاهلية في الإسلام، وقطع معه بفعل تغييرات جبارة فرضها علينا الغرب بأيديولوجيته المبغوضة وتكنولوجيته المعبودة. نحن أمام قانون عام، فأوروبا لم تخرج من جاهليتها (العصور الوسطى المفترى عليها هي أيضا كثيرة) بالعودة لروما وأثينا كما كان مخططا، وإنما بحفاظها على جزء من التراث وقطع جذري مع جزء آخر أعطى قاليلي الذي سخر من أرسطو وباراسلز الذي تهكم على قالينوس وشكسبير الذي ضرب بعرض الحائط قواعد المسرح الإغريقي.
معنى هذا أن كل الذين يتصورون القدرة على إملاء إرادتهم على الريح لكي يكون الطريق والمرفأ قطيعة بلا تواصل أو تواصلا بلا قطيعة يبددون طاقتهم التي نحن بأمس الحاجة إليها. كذلك المراهنون على النظام الاستبدادي والدولة القطرية والنظام العقائدي وكل هذا “الخرم” الذي تعمل فيه قوى التدمير أنيابها وأظافرها منذ أكثر من نصف قرن. ثمة لحسن الحظ ربابنة مهرة يرصدون الاتجاه الصحيح لهبوب الريح ويرفعون الشراع لتنفخ فيه طاقتها الجبارة. إنهم كل من يراهنون على التغييرات الاجتماعية العميقة التي تؤدي للديمقراطية. إنهم الذين يعلمون أن وحدة العرب لن تكون “بعثا” لإمبراطورية تفوح برائحة الجور والجواري وإنما خلقا جديدا لكيان لم يعرف له العرب مثيلا: اتحاد/رابطة/ فدرالية الشعوب العربية الحرة.
وفي آخر المطاف إلى أين سننتهي والمركب حافل بكل الأنواع من الركاب والملاحين بإراداتهم المتناقضة؟ لسوء الحظ أو لحسنه لا أحد قادر على التنبؤ وهل ستأخذ نهضتنا هذه هذا الاتجاه أو ذاك وهل نحن نسرع لكبوة جديدة، فالمستقبل ما نصنعه كل يوم أفرادا وجماعات وهو مفتوح على كل الاحتمالات من أروعها إلى أفظعها.
******
وبما أننا بدأنا المقال بتوسيع أفق تاريخنا إلى بعض آلاف السنين لفهم مصطلح النهضات فلنوسعه إلى أبعد الحدود الممكنة لنفهم بعدا آخر لمن يريدون النهضة أولا وأخيرا ثأرا تاريخيا من الغرب.
يقاس تاريخ الأشخاص بالعقود وتاريخ الدول والحضارات بالقرون. أما تاريخ البشرية فيقاس بمئات الآلاف من السنين. لكن تاريخ الأرض يقاس بمئات الملايين منها.
ما يظهره مؤرخو الكوكب وهم كبار علماء الأحياء مثل بيتر وارد في كتابه المرعب الشيّق، Under a green sky (تحت سماء خضراء) أن الأرض عرفت إبان الخمسمائة مليون سنة الأخيرة خمسة انقراضات بالجملة أي اختفاء 80% من كل الأجناس الحيوانية والنباتية التي كانت تتزاحم فوقها … وبعد كل كارثة جبارة تستعيد الطبيعة صحتها محققة ولو بعد عشرات الملايين من السنين “نهضة” بالمفهوم البيولوجي أي ظهور أجناس من الكائنات الحية أكثر تعقيدا وطاقة على مواجهة معركة البقاء.
المرعب في هذا الكتاب تقدمه بأكثر من حجة تنذر بأن البشرية جمعاء قد تكون انخرطت في مسلسل الانقراض الجماعي السادس وهي تحفر قبرها بأيديها عبر ما ترتكبه من عدوان على التوازنات الدقيقة للكوكب آخر وأخطر مظاهرها التلوث المؤدي للاحتباس الحراري.
معنى هذا أن كل نهضة عربية ليست جزءا من النهضة البشرية الشاملة وانخراطا فيها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تكرار للخطأ الذي ارتكبه الغرب ونهضته مثل تزيين كابينته لتكون أفخر كابينات الباخرة والمحافظة على أولويتها حتى بالسطو على بقية الركاب بل بكسر ألواح هذه الباخرة …لا يهم أن يكون الغرق مصير الجميع. *