يوم 4 مايو 1990 حصلَت المصافحة الشهيرة بين مندلا ودوكلارك، ويوم 13 سبتمبر 1993 حصلت المصافحة الشهيرة الأخرى بين عرفات ورابين. اعتقادي الجازم أن المصافحة الأولى كانت من أهم العوامل التي مهدت وساعدت على وقوع المصافحة الثانية.
والآن تخيّلوا ما الذي كان سيحصل لو أن متطرفا أبيض أقدم على قَتل دوكلارك لأنه سلّم “للإرهابيين” السود في الحقوق المقدسة للشعب الأبيض، وأنّ المتطرفين البيض استطاعوا تسميم مندلا عشية خروجه من السجن الذي قضى فيه سبعة وعشرون سنة. ما الذي كان سيحدث؟ الذي نراه الآن في الشرق الأوسط، أي حربا طاحنة بين البيض والسود داخل وخارج حدود جنوب أفريقيا.
والآن تصوروا العكس، أي أن اليمين الإسرائيلي المتطرف فشل في اغتيال رابين وتسميم عرفات، وأن معاهدة أوسلو -على نواقصها وحتى ظلمها للفلسطينيين- مكّنت من بناء دولتين جارتين اضطرَّتهما الأزمة البيئية للتعاون في مجال الماء والزراعة إلخ. مِن الممكن أننا كنا سنشهد وضعا قريبا لما عليه جنوب أفريقيا حاليا: بلدٌ غارق في المشاكل، لكنه ليس غارقا في الدم.
2
تساءل الكثيرون قبلي لماذا لم يأخذ التاريخ في فلسطين المنحى الذي أخذه في جنوب افريقيا؟
ليس هناك سبب واحد وإنما حزمة من الأسباب التاريخية والدينية والثقافية والسياسية، بالغة التعقيد والتداخل، من بينها عامِل الصُّدف وسوء الحظ، وهو يلعب في التاريخ دورا أهم مما يتصوره الكثيرون. لكن العامل الأساسي بما لا يدع مجالا للشكّ هو انتصار اليمين الإسرائيلي منذ التسعينيات ممثَّلا في نتنياهو، والتحاق اليمين العنصري المتطرف به في هذه الحكومة التي تدير حرب إبادة وتطهير عرقي في غزة، وحربَ استيطان في الضفة، وحرب سجونٍ على آلاف من المحبوسين ظلما وعدوانا.
3
يقول عالم الاجتماع الإيطالي كارلو سيبولا إن أيّ حكم موضوعي على البشر، لا يكون إلا على أفعالهم وبما تنتج هذه الأفعال.
حسب هذا المؤشّر يقول الرجل إن البشرية تنقسم إلى أربعة “أعراق”:
الذين تُنتج أفعالُهم المصلحة لهم والمصلحة لغيرهم وهم الأذكياء
الذين تنتج أفعالهم المصلحة لهم والمَضرة لغيرهم وهم الخبثاء
الذين تنتج أفعالهم المَضرة لهم والمصلحة لغيرهم وهم الأغبياء
الذين تنتج أفعالهم المضرة لهم والمضرة لغيرهم وهم الحمقى.
ما نشاهده اليوم هو سطوة الحمقى من اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، وكل أعمالهم لا تنتج إلا مزيدا من المضرة لشعبهم وللشعب الفلسطيني ولكل شعوب المنطقة وربما لكل شعوب العالم.
4
انظر لنتائج سياستهم، لا على صعيد غزة والضفة -وهو أمر لا يهمهم كثيرا- وإنما على مشروعهم الصهيوني الذي يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن نجاحه، بل إنهم بصدد إنجاحه.
هذا المشروع مَبني على ذكرى آلام الاضطهاد التي عانى منها اليهود، وذروتها المحرقة الفظيعة التي هي حقا وصمة عار في جبين الإنسانية.
لكن ألا يدمِّرُ الصهاينة المتطرفون كل القيمة الرمزية لهذه الآلام وهم يُلحقون آلاما فظيعة بشعب بريء من أي جريمة في حقهم؟ هل ستواصل شعوب العالم قبول منطق “ما دمتُ ظُلمت تاريخيا فيحق لي أن أَظلم لنهاية التاريخ”؟
المشروع الصهيوني مَبني أساسا على آمال خَلق وطن لليهود -لا يهمّ على حساب شعب آخر- يكون الملاذَ الآمن لليهود المضطهَدين والمكان الذي يتمتع فيه سكانه اليهود بالأمن والأمان. هل تَحقق هذا المشروع؟ طبعا لا، العكس هو الحاصل.
ليس من المبالغة القول إن أخطر مكان على اليهود هو إسرائيل والحروبُ لا تتوقف بل وتزداد حدة وضراوة. لكن إسرائيل تحت قيادة الحمقى الخطِرين هي أيضا خطر على اليهود خارج إسرائيل والفظاعاتُ المرتكبة في حق أهل غزة تثير عداءً لليهود ليس فقط في العالم العربي والإسلامي وإنما أيضا حتى في الغرب نفسه، حيث تَجد مخفيا وراء أطروحات اليمين الغربي المتطرف نفس اللاسامية، تعلقَ الأمر بكره بني إسرائيل أو بكره بني إسماعيل.
5
عندما يقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن كارثة 7 أكتوبر لم تنفجر من فراغ يُطالَب برأسه. ينفجر في وجهك كم من محلل سياسي غربي تقول له إن التوقف عند هذا اليوم بكل ما يصفون من فظاعة، مثل التوقف عند صورة من فيلم ورفض مشاهدة الصور المتحركة قبلها وبعدها.
هم لا يريدون رؤية خنق مليونَي نسمة على امتداد أكثر من سبعة عشر عاما، ولا ما ارتكبه المستوطنون من جرائم، ولا وضْعَ آلاف من المساجين منهم نساء وأطفال، ولا التعدي على مقدسات مليارَي مسلم. هم يرفضون رؤية بقية الفيلم وكل ما حدث لغزة بعد السابع من أكتوبر وما الذي سيتضمنه من مشاهد مرعبة إذا تجددت الحرب. هم يرفضون خاصة الرجوع للأسباب الهيكلية التي أدت لانفجار العنف الذي يدينون، والعنف الذي يقللون من أهميته، أو لدَور الحمقى الخطِرين الذين يساندون.
هؤلاء الحمقى الخطِرين هم الذين منعوا فرصة إسرائيل الذهبية لحل الدولتين، وهم ككل الحمقى لا يتعلمون من التاريخ.
يواصلون التشدق بمقولة “حماس منظمة إرهابية” جاهلين ومتجاهلين أن الفرنسيين جلسوا مع مَن كانوا ينعتونهم بالإرهابيين لإمضاء اتفاقية أيفيان في مارس 1962 التي أنهت حرب الجزائر، أن الأمريكيين جلسوا في باريس في يناير 1973 لاتفاق سلام مع دولة فيتنام الشمالية ومِن ورائها من كانوا يسمونهم الإرهابيين الفيات كونج، أن مارجاريت تاتشر في الثمانينات كانت تَنعت مندلا بالإرهابي، إلى أن تم استقباله رسميا وبصفة فاقت الخيال في 9-7-1996.
الأخطر من هذا أنهم لم يفهموا الدرس الحقيقي لما وقع يوم 7 أكتوبر.
الذي حدث ذلك اليوم -بغض النظر عما سبقه وصاحبه وتبعه من عنف- تصديقٌ لقانون أزلي وهو أنه لاشي يشحذ همم الأفراد والشعوب قدر التحديات التي تواجههم.
ما كان صحيحا البارحة بالنسبة للإسرائيليين صحيحٌ اليوم وغدا بالنسبة للفلسطينيين.
هم مَن رفعوا التحدي الاستخباراتي وانتصروا.
هم من رفعوا التحدي القتالي وانتصروا.
هم من رفعوا التحدي الإعلامي وانتصروا.
هم من رفعوا التحدي السياسي وانتصروا.
هم من رفعوا تحدي اكتساب الرأي العام الدولي وانتصروا.
كل هذا بفضل أفعال الحمقى الخطِرين الذين لا يُتوقَّع منهم إلا مواصلة نفس النهج، أي تعهد وتطوير القِوى التي قد تدمرهم يوما وقد تدمر -لا قدر الله- كامل المنطقة.
السؤال طبعا، ما العمل حتى لا نصل لمثل هذه الكارثة. استعراض سريع للمتوَفّر من الحلول.
1- عجبي لمن يواصلون الحديث عن حلّ الدولتين كأنهم لا يرون خارطة الضفة. ألا يتحمّلون مسؤولية التفريط في هذه الفرصة التاريخية، سواء تعلق الأمر بالإدارات الأمريكية المتتابعة والحكومات الغربية التي سكتت عن سياسة نتنياهو وحلفائه في منع قيام دولة فلسطينية بكل وسيلة، وأساسا بزرعها للمستوطنات التي تمنع أي تواصل جغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية؟
اِفرض أن قوى دولية وإقليمية تجندت لمثل هذا الحلّ. هذا يعني اقتلاع نصف مليون ومائتي ألف مستوطن من حزام القدس الشرقية، وهو أمر شبه مستحيل إلا بثمن حرب أهلية إسرائيلية. أما القول بإقامة دولة فلسطينية بالخارطة الحالية للضفة وقطاعٍ مدمَّر تحت الوصاية، فضربٌ من التفكير السحري الذي يجب الدعاء لأصحابه بالشفاء العاجل.
2- قبل أكثر من عشر سنوات كتبتُ في هذا الموقع مقالا أقول فيه إن حل الدولتين تجاوزه الزمن. لمنع المنطقة من الكارثة لم يبق إلا حلّ مندلا، أي دولة يتعايش فيها العرب واليهود كما يتعايش السود والبيض في جنوب أفريقيا، والناطقون بالفرنسية والإنجليزية في كندا، أو الناطقون بالفرنسية والهولندية في بلجيكا، وهذا لا يكون بالطبع إلا في ظلّ دولة ديمقراطية علمانية.
ما كان ممكنا قبل عشر سنوات أصبح اليوم غير ممكن، لا بسبب تصاعد الضغائن والأحقاد بعد 7 أكتوبر في الجانبين فحسب، ولكن لأن الديمقراطية في تراجع في كامل المنطقة وخاصة داخل إسرائيل. أضِف لهذا أن الريح تنفخ حاليا في صواري المتدينين من الجانبين وهو ما يجعل فكرة الدولة الواحدة إما وصلت متأخرة أو وصلت عقودا قبل زمنها.
3- يقول بعض الذين يدّعون في السياسة معرفة إنه يجب تجميد المشاكل التي لا يمكن حلها. هم يذكّرونني بمن يقول لك إن عليك تجاهل السرطان الذي لا تجد له علاجا فذلك أحسن من أن تكسر رأسك في محاولات علاج فاشلة.
ما جنته إسرائيل ومَن يساندونها من مثل هذه السياسة، تلك الهدنات التي تدوم فترات متقطعة من الزمن يتخللها تتابع الحلول السحرية مثل صفقة القرن وتوافقات أبراهام. وفي الأثناء يتزايد عدد وتعقيد المشاكل، وتتزايد خاصة الضغائن والأحقاد. إذا كان للإسرائيليين أسبابا لكره الفلسطينيين بعد أحداث 7 أكتوبر فإن للفلسطينيين اليوم عشرة أضعاف أسباب لكره الإسرائيليين بعد ما فعلوه في غزة والقطاع والقدس، وما رشح من المعاملات غير الأخلاقية وغير الإنسانية لآلاف الأسرى في السجون الإسرائيلية.
السؤال الرئيسي إذن، هل لا مفرّ من حرب أزلية تتزايد فيها ضراوة الصراع وكلُّ طرف يرفع تحديات الطرف الآخر بمزيد من الخبرة العسكرية والاستخباراتية والإعلامية، إلى أن تنفجر كامل المنطقة في كارثة تذهب بأحلام ومشاريع الجميع؟
للأسف هذا هو الطريق الذي يدفع إليه الحمقى الخطِرون الذين يحكمون اليوم في إسرائيل، والذين لا يستطيع إلا الإسرائيليون التخلص منهم. لكن ما الحل حتى ولو جادت السماء بمعتدلين فهموا عبث مواصلة التعلق بسرديتهم السحرية حول أرض بدون شعب لشعب بدون أرض، والتنكر لوجود شعب له هو أيضا الحق في الاستقلال والأمن والعيش الكريم؟
عِوض مواصلة التعلق بحلول وهمية، يبدو لي من الضروري أن ينطلق تفكير من خارج الصندوق بين المثقفين والسياسيين والحقوقيين من الطرفين ومن كل العالم، لاقتراح تصورات جديدة لمعضلة قديمة يمكن أن تقود الإقليم وربما العالم إلى كارثةٍ واجبُنا جميعا أن نمنع وقوعها، وإلا لن يكون هناك غزة واحدة وإنما عشرات ومئات الغزات.
وفي الأثناء لا خيار لنا جميعا غير مواصلة الوقوف مع الشعب البطل والالتزام بما يقرره، فلا قرار في النهاية غير قراره والتجند لوقف الحرب الهمجية التي يشنها الحمقى الخطِرون ضده، لأنه كلما تواصلت كلما ارتفع ثمنها كلما تباعدت وصعبت إمكانية السلام الذي نحن كلنا بأمس الحاجة إليه وفي أسرع وقت.
**