في جريدة الخبر الجزائرية
الاربعاء 6 آذار (مارس) 2013
بتواضع كبير استقبلنا الرئيس التونسي، محمد منصف المرزوقي، في قصر قرطاج، حيث خص ’’الخبر’’ بحوار شامل، تحدث فيه عن مساعي تونس للحصول على ودائع مالية من الجزائر، وكشف عن مجمل التطورات السياسية والتداعيات المرتبطة بحادث اغتيال شكري بلعيد، وتشكيل الحكومة الجديدة، وأكد على أن مثوله أمام قاضي التحقيق كان فعل ’’مواطن’’. وأوضح أن التونسيين لم يعد لديهم الكثير من الصبر على الحكومة. وكشف عن مبادرته إلى الاستقالة من منصبه بعد تسليم المحمودي البغدادي إلى ليبيا، وعن الانفلات الإعلامي في تونس، والتشويه الذي يقوم به جزء من الإعلام الفرنسي على تونس، وعاد إلى بعض المحطات في مسيرته النضالية.
لم نتعود في سياقنا العربي على مثول رئيس جمهورية أمام قاضي التحقيق وهو في منصب المسؤولية، ما هي الرسالة التي أردتم توجيهها من خلال مثولكم الأخير، وهل لنا أن نطلع على مضمون شهادتكم في قضية اغتيال الفقيد شكري بلعيد ؟
أولا الرسالة هي أننا اليوم في نظام يمارس الشفافية المطلقة وليس لي ما أخفيه عن الرأي العام، وثانيا نحن نريد أن نكون في نظام تتوضح فيه هيبة القضاء، وأن رئيس الجمهورية هو مواطن له كل الحقوق وكامل الواجبات، وبالتالي أمام القضاء عليه أن يتصرف كأي مواطن، هذا فهمي للديمقراطية، طلب مني أن أدلي بشهادتي، لأن ثمة أشخاصا قالوا إنني كنت على علم بأن المرحوم كان يتعرض للتهديد، وأنني كنت عرضت عليه الحماية، وأراد السيد قاضي التحقيق أن يستفسر مني، أعطيته الإجابة، لكن ولسرية التحقيق لا أستطيع كشفها الآن.
كنتم متواجدين في البرلمان الأوروبي عندما تلقيتم خبر الاغتيال، ما كان شعوركم لحظتها وهل ساوركم شك في أن تونس تتجه إلى المجهول…؟
طبعا كانت لحظة صعبة بالنسبة لي، لأنني كنت أعرف المرحوم، وشارك معنا أكثر من مرة في التقليد الذي دأبت عليه منذ أكثر من سنة ونصف السنة، حيث تعودت منذ فترة على جمع، في أول جمعة من كل شهر، كل قادة الأحزاب حول طاولة العشاء، يجتمع حولي كل الذين يشتمونني ويشتمون بعضهم البعض، وأنا قلت لهم إنكم تدخلون معارضين وتخرجون معارضين. كنت أعرف شكري بلعيد وكنت أحبذه كشخص، ولذلك حزنت لعائلته ولحزبه، لكنني حزنت أكثر لتونس، لأننا لم نعرف في تونس الاغتيال السياسي إلا نادرا، كاغتيال الهادي شاكر وصالح بنت يوسف وفرحات حشاد. بعد الاغتيال كنت خائفا، وفي الواقع كنت خائفا قبل ذلك، لأن العنف اللفظي تصاعد كثيرا في هذه البلاد وحدث ما حدث. وكنت أخشى أن يكون الأشخاص الذين فعلوا هذه الفعلة النكراء مستعدين لإدخال البلد في صراع يمكن أن يؤدي إلى تهديد الوحدة الوطنية. الحمد لله طوقنا الوضع، وسنلقي القبض قريبا على هذا المجرم الذي ارتكب هذه الجريمة في حق تونس.
اغتيال بلعيد خلق وضعا سياسيا جديدا في تونس وبرز استقطاب سياسي حاد، إلى أي حد تعتقدون أن حركة النهضة تتحمل جزءا من المسؤولية، وإلى أي حد تتحمل المعارضة بدورها جزءا من المسؤولية..؟
أنت تضع الأصبع على الإشكالية الكبرى في تونس. طول الوقت كنت أسعى إلى منع حدوث استقطاب ثنائي، هذا البلد يجب أن يُحكم في الوسط من قبل إسلاميين معتدلين وعلمانيين معتدلين، وأن يعملوا مع بعضهم، لأنه لو حدث هذا الاستقطاب الثنائي فسنعود إلى وضعية التسعينات، حكومة إسلامية ضد علمانيين تضعهم في السجون، أو العكس، العلمانيون يأخذون السلطة ويقمعون الإسلاميين. نجحنا في أن الحكومة التي تتشكل ستحافظ على نفس التشكيلة، علمانيون معتدلون وإسلاميون معتدلون. وأنا دوري أن أحاول الحديث مع الإسلاميين والسلفيين والعلمانيين ’’المتشددين’’، لإقناعهم بأنه ليس لدينا خيار آخر غير ذلك، حتى نصل إلى الانتخابات المقبلة، وحينها سيفرز الشعب الأغلبية التي يريد أن تحكمه. هل تحييد وزارات السيادة كاف لإرضاء المعارضة وتجاوز الانسداد الحالي والوصول إلى حكومة تعيد الاستقرار السياسي؟ نجحنا في إقناع الإخوة في حركة النهضة بالموافقة على تحييد وزارات السيادة، لكونه مطلب المعارضة وأغلبية الشعب، لكنني لست متأكدا من أن المعارضة لن تواصل إطلاق مطالب أخرى، أتفهم أن دور المعارضة هو تعجيز السلطة، لكن ما يهمني ألا نذهب كثيرا في هذا، لأنه سيؤدي إلى الغلو والشطط. العنف اللفظي إذا تجاوز الخط الأحمر يصبح دعوة إلى العنف الجسدي، وبعد أن حدثت الصدمة بدأ الجميع يفهم أنه من حق كل من المعارضة والسلطة أن تمارس دورها، لكن المهم أن نصل إلى الانتخابات المقبلة.
هل اتضحت أجندة صياغة الدستور والانتخابات المقبلة باعتبار أن المعارضة تعتقد أن تأخر ذلك هو أحد أسباب الأزمة الراهنة؟
هذا مؤكد، ولهذا اقترحت أن تكون الانتخابات التشريعية في أواخر أكتوبر المقبل والانتخابات الرئاسية في أواخر سبتمبر، وأنا أدفع بكل قواي الأطراف في المجلس التأسيسي لإكمال الدستور في أفريل المقبل، والمرور إلى الانتخابات، خاصة أن الدورة الاقتصادية في تونس تدور ببطء، وهذا ينعكس على معيشة الناس. صحيح أننا، رغم الوضع غير المستقر، حققنا نسبة نمو بـ6,3 بالمائة، وهذا أمر طيب، غير أن محافظ البنك المركزي الذي استقبلته، أمس، أبلغني أننا يمكن أن نحقق من 5 إلى 6 بالمائة إذا استقر الوضع السياسي. لدينا اقتصاد قابل للتطور، الانتهاء من الدستور والذهاب إلى انتخابات وتشكيل حكومة مستقرة لمدة خمس سنوات، أصبح ضرورة حياتية لحل مشاكل الناس.
بالنظر إلى الكلفة الاجتماعية الغالية للأزمة الراهنة في تونس، هل تعتقدون أن التونسيين يمكن أن يصبروا أكثر على الحكومة؟
التونسيون لن يصبروا علينا كثيرا إذا بقيت الأمور غامضة وضبابية، وإذا لم تكن هناك مواعيد سياسية محددة، ولهم الحق في ألا يصبروا، وأنا معهم وأتعاطف مع مطالبهم، كل ما أتمناه أن تبقى هذه المطالبات في حدود اللاعنف، وإلا فإنها ستكون كارثة، خاصة على المناطق الداخلية الفقيرة التي تعيش في دوامة الفقر والبطالة، التي تؤدي إلى تصاعد الاحتجاجات، وتصاعد الاحتجاجات يؤدي إلى عدم الاستقرار، وعدم الاستقرار يؤدي إلى أن رأس المال الداخلي لا يذهب للاستثمار في المناطق الداخلية، والناس لا تفهم أن الدولة لا تشغل، ومن يشغل هو القطاع الخاص، والقطاع الخاص بحاجة إلى الاستقرار للعمل، هذه الدوامة انتحارية للجميع، أنا لا أعد الناس بأننا سنتغلب على البطالة، لكن نستطيع أن نحسن ظروف حياة الناس.
إلى أين وصل مسار العدالة الانتقالية في تونس ومساعي استرداد الأموال المهربة وإحضار الرئيس بن علي من السعودية وباقي المطلوبين من الخارج؟
هذه ثلاث مسائل سلبية، في العدالة الانتقالية لم نتقدم كثيرا، وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى اهتزاز الحكومة، استرداد الأموال سلبي أيضا، لأننا لم نجد التعاون الكافي من قبل الدول، والمجرمون عرفوا كيف يخفون الأموال، ونحن لا نملك التقنيات الكافية لتتبع مسارها، لكن الثابت أننا لن نتخلى عن هذا الموضوع، نحن في خضم مشاكلنا ليست لنا القدرة لمتابعة هذه المسائل، لكن حين تستقر الدولة بعد الانتخابات سنعمل على تحقيق ذلك، أما بالنسبة لاسترداد المجرمين الموجودين في السعودية وفي دول الخليج، فطلباتنا مازالت معلقة، نحن نواجه تسونامي من المشاكل الداخلية، والأولوية الآن لصياغة الدستور وإجراء الانتخابات ومحاربة ارتفاع الأسعار، وبعدها سنتفرغ لتلك الملفات
.
برزت في الفترة الأخيرة جملة من التحديات الأمنية في تونس، تزامنا مع اغتيال شكري بلعيد، تم الكشف عن مخابئ سلاح وبروز التيار السلفي المتشدد، ما تفسير وجود هذه الكميات من السلاح؟
ما أنا متأكد منه أن تونس مجتمع ودولة قوية، حدثت هزات كبيرة ومع ذلك تونس لم تنفجر ولم تدخل في حرب أهلية، أنا عشت من منصبي هذا الكثير من الهزات، عشت أزمة في 14 سبتمبر في أحداث السفارة الأمريكية، وفي 23 أكتوبر الماضي عندما قالوا بانتهاء الشرعية، وفي 6 و8 فيفري في حادث اغتيال شكري بلعيد وجنازته، لكن في كل مرة كنت أشعر أن الدولة متماسكة وبجيش قوي جمهوري وأجهزة أمنية استرجعت عافيتها، ومجتمع متماسك. أما بالنسبة للظاهرة السلفية، يمكن أن تشكل إزعاجا كبيرا، لكنها لا يمكن أن تشكل خطرا على الدولة أو المجتمع، السلفية هي من مخلفات العهد البائد، لأن بن علي عندما قضى على النهضة كحركة إسلامية معتدلة وسلمية، فتح المجال لقوى إسلامية تدربت وتعلمت الحرب في أفغانستان ثم رجعت إلى تونس، كما أن السلفية لها جذور اجتماعية بسبب الفقر المدقع، وإذا أضيف ذلك إلى طفرة السلاح بعد سقوط نظام القذافي والحرب في مالي، فهذا يجعل من هذا التيار مشكلة، والتعامل معه يجب أن يكون على أصعدة متعددة، التيار السلفي ليس كله متشددا، هناك تيار تقليدي وهناك تيار إصلاحي، أنا أردت أن أفتح الحوار مع التيار السلفي التقليدي والتيار الإصلاحي، أما التيار السلفي المسلح فسنقاومه، وهذه مسؤولية الجيش وأجهزة الأمن. أشدد هنا على أن ذلك يجب أن يتم في إطار القانون، ولا سبيل للعودة إلى أساليب بن علي.
ما صحة التقارير التي تحدثت عن وجود 21 ألف تونسي يقاتلون في سوريا مع المجموعات المسلحة؟
الحديث عن التونسيين المتواجدين في سوريا كلام فارغ، ولا صحة لهذا الرقم، وأكذبه تكذيبا قاطعا، عددهم لا يتجاوز بضع مئات، هذه من الأشياء التي أكذبها تكذيبا قطعيا، هذه المعلومات غير صحيحة.
على ذكر سوريا، كيف تقرأون ما وصلت إليه الأزمة الدامية في سوريا؟ هي مأساة كبرى بكل المقاييس، لم أكن أتصور أن يصل هذا البلد إلى هذا الوضع، أنا قلت في مقابل رحيل الأسد لتعط له ضمانات بعدم المحاكمة، وذهبت حتى إلى أن عرضت على بشار الأسد أن يأتي إلى تونس إذا أراد اللجوء، طبعا هذه أمور تجاوزتها الأحداث، كل ما أتمناه الآن أن تسعى الشعوب العربية إلى مساعدة الشعب السوري الذي كان شعبا مضيافا، وعلى المستوى السياسي نحن مستعدون لأن تكون تونس مكانا للقاء وللتحاور ولوضع حد لهذه المأساة.
كيف يمكن للجزائر أن تساعد تونس على تجاوز هذه المرحلة الحساسة ؟
فكرنا في الكثير من طرق مساعدة تونس من قبل الجزائر، فكرنا مثلا في أن تودع الجزائر قدرا من الأموال الوقفية (ودائع) في البنوك التونسية، فكرنا في مساعدتنا من خلال المساهمة أيضا في تنمية المناطق الحدودية باعتبارها المناطق الأكثر فقرا في تونس، وإذا نجحنا في تنمية هذه المناطق سنكون قد خففنا ضغطا كبيرا على تونس. العلاقات السياسية بين تونس والجزائر لم تكن أبدا في وضع أفضل مما هي عليه الآن، هناك توافق تام في النواحي السياسية وفي تنمية المناطق الحدودية، والعلاقات على الصعيد الأمني والعسكري في مستوى جيد جدا، وتفعيل هذه العلاقات مرتبط بالأساس بنا نحن في تونس، لأننا في وضع انتقالي، لكن لدي قناعة بأنه حالما تنتهي هذه الفترة في غضون ستة أو سبعة أشهر ستكون العلاقات مثالية.
هل طلبت تونس رسميا من الجزائر ودائع مالية ؟ تناقشنا في الموضوع مع الإخوة الجزائريين، وربما سنعود إلى الحديث فيه في وقت لاحق، الأمر مرتبط بنا نحن في داخل تونس، لأنه يتعين علينا أن نضبط أمورنا وأن نضع الدستور والهياكل السياسية وحينها سيصبح كل شيء ممكنا. إلى أين وصلت مبادرتكم المتعلقة بالحقوق الخمسة الواجب منحها لرعايا دول المغرب العربي ؟ بالنسبة لي، الحقوق الخمسة هي (الدخول والخروج من دون جواز سفر، والتملك، وحرية الاستقرار، والعمل، والمشاركة في الانتخابات البلدية)، ثلاثة من هذه الحقوق أصبحت تحصيل حاصل للرعايا المغاربيين في تونس، الاستقرار والتملك والعمل، أما فيما يتعلق بالانتخابات البلدية، فأنا شخصيا سأقترح على البرلمان، سواء كنت في السلطة أو كنت في المعارضة، سن قانون لإعطاء هذه الحقوق لكل الرعايا المغاربيين المقيمين في تونس.
كان مقررا عقد قمة مغاربية في العاشر أكتوبر الماضي لكنها تأجلت، ما هي أسباب التأجيل وهل هناك مشروع لإعادة تفعيل المبادرة؟
متمسكون بهذا المشروع، وأعتقد أن كل المغاربيين متمسكون به، لكن وضعنا صعب ومشاكلنا الداخلية استوعبت كل جهدي وطاقتي، وحالما تستقر الأوضاع في تونس سأعيد الكرة وسنمهد لعقد هذه القمة. في كل مناطق العالم، في آسيا وأوروبا وحتى في إفريقيا، نسبة الاندماج بين دول المناطق تصل إلى 40 بالمائة، بينما لا تتجاوز نسبة الاندماج بين الدول المغاربية 2 بالمئة، هذا غير منطقي، نحن منطقة شاذة، لذلك مشروع الاندماج المغاربي ضرورة لتحسين معيشة كل المغاربيين، لدينا في تونس مثل يقول: ’’الدوام ينقب الرخام’’، وأنا سأواصل العمل لعقد هذه القمة.
الحرب في مالي تلقي بظلالها على الجزائر وتونس ودول الساحل، هل أخطأت فرنسا بتدخلها في مالي؟
موقفنا كان نفس الموقف مع الإخوة الجزائريين، كنا نفضل أن تبقى المسألة إفريقية – إفريقية، والآن وقد تدخلت فرنسا وفرضت واقعا آخر، الحرب بدأت وهي لن تنتهي قبل حل المشاكل الرئيسية، وهي أن تكون حكومة قوية منتخبة في مالي وحل مشكل الأقليات، ثم الملف الإرهابي الذي يجب متابعته بالوسائل اللازمة. الثابت أن تونس والجزائر على نفس الموقف، وهناك تنسيق أمني رفيع بين البلدين، وتنسيق سياسي، وأنا تحدثت مع الوزير الأول الجزائري، عبد المالك سلال، في ذلك، ويجب أن نبقى منتبهين لأي تهديد إرهابي لبلدينا.
أثارت تصريحات وزير الداخلية الفرنسي بشأن تونس موجة سخط، هل تم تجاوز هذه الأزمة بين البلدين؟
العلاقات بين تونس وفرنسا هي علاقات هيكلية لا تخضع للنزوات، لدينا 600 ألف تونسي في فرنسا، وفرنسا الشريك الاقتصادي الأول لتونس، هناك 1300 شركة فرنسية تعمل في تونس، إضافة إلى علاقات تاريخية قديمة. صحيح أن تصريحات وزير الداخلية الفرنسي تزعج، لكن لا يمكن أن تؤثر على علاقاتنا، وأنا لدي علاقات قوية وطيبة مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وهو سيزور تونس في 13 ماي المقبل.
لاحظنا تحمسا كبيرا من الاتحاد الأوروبي لدعم تونس بعد الثورة، لكن الكثير من هذه الوعود لم يتم الوفاء بها، هل لوصول النهضة إلى الحكم صلة بذلك ؟
الدعم السياسي هام أيضا مثل الدعم الاقتصادي، وأنا ألقيت خطابا في البرلمان الأوروبي وكان هناك ترحيب كبير بالتجربة التونسية، ألمانيا قبلت أن تحول 60 مليون أورو من ديونها إلى استثمارات في تونس، الدعم الاقتصادي موجود، لكن المشكلة فينا نحن التوانسة، حينما نعطى كمية من المعونات، لا نستطيع تصريفها، لأن هناك عراقيل البيروقراطية والقوانين وقلة الكفاءة، نحن لم نوظف حتى الآن إلا 30 أو 40 بالمائة من المعونات التي مكنتنا منها أوروبا.
الإعلام الغربي ينقل صورة عن تونس فيها الكثير من المخاوف على الحريات المدنية وحرية المرأة وبروز المجموعات الدينية، هل الوضع سوداوي إلى هذا الحد؟
أنا لا أتحدث عن الإعلام الغربي بمجمله، أنا قرأت في ’’الأندبندنت ’’البريطانية لأحد مشاهير المعلقين، يسخر من طريقة تعامل بعض الصحف الغربية مع التجربة التونسية، ويتساءل كيف يطلب من التونسيين أن ينجحوا بين عشية وضحاها. جزء من العتب موجود على الصحافة الفرنسية وخاصة المرتبطة بالأساس بجزء من المعارضة التونسية، والتي تنقل صورة مغلوطة، هؤلاء يتصورون أن تونس محكومة بنظام إسلامي، إن النهضة فعلا هي القوة الأكثر تمثيلا في البرلمان وتقود الحكومة، لكنها لا تحكم وحدها، رئيس الجمهورية ’’علماني’’ ورئيس المجلس التأسيسي ’’علماني’’، هذا لا ينتبهون إليه، ويقدمون تونس على أنها على طرف الأسلمة وهذا غير صحيح، ويمكن لمن يتجول في تونس أن يتأكد من ذلك، يقدمون تونس على أنها ستنهار تحت ضربات التيار السلفي، ويروجون لأكاذيب عن حرية الرأي والتعبير، لا يوجد بلد فيه حرية الرأي والتعبير مثل تونس، أصبحت حرية الشتم ليلا نهارا لرئيس الجمهورية، ومع ذلك لا يوجد صحفي واحد في السجن، ولم تحجز صحيفة ولم تغلق قناة تلفزيونية.
لن نعالج الانفلات الإعلامي بالأساليب البوليسية، لدينا شعب ذكي أصبح يستهجن هذا الإعلام لمغالاته
على ذكر الإعلام التونسي، يلاحظ أن هناك انفلاتا إعلاميا وحرية مفرطة في الصحافة التونسية، هل تعتقدون أن هذا الإعلام طرف في الأزمة الراهنة؟
الغلطة الكبيرة التي وقعت فيها الحكومة هي عدم تفعيل الهيئة العليا للإعلام، وعدم تفعيل المرسومين رقم 115 و116 المتعلقين بالإعلام، وتركت الإعلام من دون حسيب، أنا انتهيت من تعيين طاقم الهيئة العليا للإعلام، وقد نعلن عنها هذا الأسبوع، وهي التي ستضع أطر إعادة تنظيم الإعلام والحد من هذه الفوضى، كنت أقول كحقوقي وكرئيس الجمهورية إن كل سلبيات حرية التعبير أفضل من العودة إلى مرحلة الرقابة، والمهم ألا نعالج الطفرة الإعلامية بالأساليب الزجرية والبوليسية، لدينا شعب ذكي هو نفسه أصبح يستهجن جزءا من هذا الإعلام، ولمغالاته ولشططه أصبح من دون تأثير في الناس. هناك ثلاثة أمراض واضحة تنخر الإعلام التونسي: التسيس المفرط والمال القذر واللامهنية. شيئا فشيئا، سيعالج الإعلاميون مسألة المهنية، والمال القذر ستتم محاسبته وفق ’’من أين لك؟’’ وسنسعى إلى إنقاذ حرية التعبير من المغالاة.
الكثير من الجدل في تونس حول قانون ’’حماية الثورة’’ والإقصاء السياسي، برأيكم هل بات مفيدا صدور هذا القانون؟
لو كان لهذا القانون قيمة كان يجب أن يفرض في الأشهر الثلاثة الأولى من الثورة، آنذاك كان بالإمكان أن يقع عقاب الناس الذين تورطوا في العهد السابق، الآن برأيي أصبح غير وارد، وأعتبر أنه جاء متأخرا، وصدوره قبل الانتخابات سيفسر خطأ، ويظهر أنه يستهدف إقصاء هذا أو ذلك أو للانتقام أو العزل. دائما أي قانون أو فعل سياسي، يجب أن يأتي في وقته أو لا يأتي، وأنا أعتبر أن قانون الإقصاء السياسي جاء متأخرا جدا، ومفعوله السلبي سيكون أكبر من مفعوله الإيجابي، وبالتالي أنا ضده.
في ظل الهزات العنيفة التي شهدتها تونس، هل فكرتم مرة في الاستقالة من منصبكم ؟ المرة الوحيدة التي قررت فيها الاستقالة وكتبتها فعلا، هي عندما سلمت الحكومة التونسية رئيس الوزراء في عهد القذافي، المحمودي البغدادي، إلى السلطات الليبية، لأنني اعتبرت أن ذلك طعن في شرف تونس وفي شرفي. كتبت استقالتي، لكن المحيطين بي أقنعوني وطلبوا مني الذهاب للراحة لـ48 ساعة، بعدها هدأت الأمور واعتذرت الحكومة، وأنا قدرت حينها المصلحة الوطنية، وأنا الآن مصمم على المضي في هذه المسؤولية، لأنني أعتبر نفسي عنصر توازن، ومسؤوليتي هي البقاء في منصبي حتى يقرر التونسيون من يحكمهم.
كنتم تضعون صورة أحد شهداء الثورة على صدركم، ما الذي تحقق لعائلات الشهداء؟
تحقق لهم الكثير ولم يتحقق لهم الكثير، على الأقل في هذا القصر جزء كبير من المخصصات المالية التي كانت موجهة إلى قصر الرئاسة ذهبت للتكفل بعائلات الشهداء، وهذا أمر لا يعرفه الجميع، ومع ذلك أعتبر أن الحكومة مقصرة في حق هؤلاء، ومقتنع بأنه كان يمكن أن نفعل لهم الأفضل، أنا لدي مستشارة خاصة في الرئاسة لمتابعة الملف، ونحن نعمل بهدوء لحساسية القضية.
قلتم: كان البوليس يتبعني ليراقبني في عهد بن علي، فأصبح البوليس يتبعني ليحميني، هل هذا فقط ما تغير بالنسبة لكم ؟
في علاقتي بالبوليس نعم، أنا منذ 20 سنة لا أستطيع أن أتحرك إلا وورائي كوكبة من البوليس، وهذا أمر مزعج، وأنا رجل أحب أن أعيش حرا طليقا، وكم أتمنى لو أستطيع المشي في الشارع بحرية مثل كل الناس.
هل سيترشح الرئيس المرزوقي للانتخابات الرئاسية المقبلة؟ هذا يعتمد على الصلاحيات الموجودة في الدستور المقبل، ويعتمد على وجود رغبة من الناس في ترشحي، وعلى التوازنات السياسية، وعلى صحتي وعلى العائلة التي تضغط في الاتجاه المعاكس. الثابت أنني لا أشغل نفسي بهذا الموضوع الآن، حتى لا أصبح سجينا لسياسة معينة. أنا قررت أن أتصرف كما لو لم أكن مترشحا، وكما لو أنني مترشح، وفق: ’’اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخراك كأنك ستموت غدا’’. وإذا قررت أن أترشح سأقول للناس هذا ما فعلته لكم، وإذا قررت عدم الترشح فسأذهب إلى بيتي وأنا فخور بما قدمته لهذا البلد.
كرمتكم الجزائر نهاية الثمانينات، ماذا بقي لكم من تلك الصورة؟ تلك كانت صورة جميلة جدا، في 1989 تحصلت على جائزة المؤتمر الطبي العربي، وجئت حينها إلى الجزائر وكرمني السيد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وكانت فرصة حقيقية للشعور بالتضامن، وعلما أنه في هذا المكان (مكان إجراء الحوار) في عام 1981 تحصلت على جائزة بورقيبة للطب، وسلمت لي تزامنا مع تسليم الجائزة السنوية لعام 1982 التي تحصل عليها صديقي طبيب الأعصاب الجزائري محفوظ بوسبسي، رحمه الله، الذي اغتاله الإرهابيون، وكانت تجمعني به صداقة كبيرة. لدي ذكريات طيبة في الجزائر وأحب الجزائريين.
الصحافة الجزائرية كانت لها مواقف مشرفة من نضالاتكم في العهد السابق؟
أنا مدين جدا للإعلام وللصحافة الجزائرية، التي كانت الوحيدة التي حاولت فك الحصار عني عندما كنت محاصرا في بيتي في عهد بن علي. أذكر أن بعض الصحفيين الجزائريين كانوا يدفعون البوليس التونسي حتى يصلوا إلى في بيتي، أنا مدين لهم بكثير من الاحترام والتقدير.