لا وجود لوصفة صالحة في كل مكان وزمان لفرض النظام الديمقراطي والمحافظة عليه عند التمكن، وذلك لتباين الأوضاع من بلد لآخر، ناهيك عن دور الصدف الإيجابية منها والمشؤومة.
يبقى رغم هذا أنه يجب أن تكون لنا مبادئ ثابتة وتوجهات عامة وخيارات لا نحيد عنها، تلعب دور البوصلة التي تؤشر على الطريق وسط العواصف.
بعض العلامات على أصعب وأطول وأخطر طريق:
أولاً: أهمّ متطلبات النصر
في شبابي، كان الخط الفاصل في كبرى المعارك السياسية يمر بين “الرجعيين” و”التقدميين”. ثم تحوّل في الثمانينيات ليفصل بين العلمانيين والإسلاميين.
اليوم هو عمليا بين الديمقراطيين -بمختلف حساسياتهم الليبرالية أو الاشتراكية، العلمانية أو الإسلامية- وبين الاستبداديين سواء كانوا من فلول القومية أو اليسارية أو الشعبوية أو الأصولية الدينية.
هذه الفلول مثل الطين والتراب الذين يترسب في مجاري الأنهار بعد أن تبخر منها كل الماء، أي مجرد شواهد على زمان ولّى وانقضى. واليوم هم مجرد فروع للنظام الاستبدادي، ويجب التعامل معهم على هذا الأساس دون نقاش مواقفهم “التقدمية” والقومية، لأن الديمقراطيين هم اليوم المؤتمنون على هذه الأحلام.
معنى هذا أن على الديمقراطيين وضع توجهاتهم الأيدولوجية -علمانية أو إسلامية- في مرتبة ثانية من مشاغلهم، والأولوية المطلقة رصّ الصفوف لإنهاء الاستبداد قبل أن ينهينا جميعا.
من أهمّ متطلبات النصر أيضا الالتزام بقاعدة القواعد في كل المعارك السياسية، وهي أنه بوسع مجموعة قليلة منظمة وفيها تراتبية ومركزية القرارات والتزام تنفيذها الانتصار على غبار من الأفراد والتحكم فيهم إلى لحظة تنظمهم.
إن سرّ قوة الاستبداد على قلة جنوده هو التنظيم والانضباط، وسرّ ضعف مناهضيه تفرقهم وضعف تنظيمهم وسهولة تفكيكها إما تلقائيا أو بالقمع.
آخر مثال على أزلية هذا القانون الحراك الجزائري الذي استطاع أن ينظم قرابة الخمسين مظاهرة كادت أن تركّع النظام الجزائري، لكنه اختفى اليوم تقريبا، لأنه لم يستطع أو رفض التنظم في حركة سياسية لها قيادة ورمز.
رأينا نفس الظاهرة في لبنان وحتى في السودان، وهذا ما أدى إلى ضياع كل التضحيات وكل البطولات للشعبين الشقيقين.
حدث ولا تسل عن كارثة الثورة السورية التي فشلت هي الأخرى في أن توحّد صفوفها وأن تختار لها رمزا يكون سفيرها في العالم ولا يتغير طول الوقت.
لنتذكر أن اليسراوية قتلت اليسار، والقومجية قتلت القومية، والديمقراطوية قد تقتل الديمقراطية.
من الضروري إذن أن تفرز الثورة الديمقراطية في كل بلد تنظيما فدراليا ينسق بين كل التيارات الديمقراطية ذات الهدف الواحد الذي هو الإطاحة بالنظام الاستبدادي، لتأتي بعدها مرحلة تنظيم التنافس النزيه فيما بعد ذلك بين التيارات والأشخاص.
من الضروري أن تبني الحركات الديمقراطية العربية هيكلا فدراليا ينسّق بينها، والقدوة والمثال أنظمة الاستبداد التي حققت منذ السبعينيات أهمّ معالم الوحدة العربية من منظورها، أي “مجلس وزراء الداخلية العرب”.
لنتذكر أيضا كيف كان الاستبداد يسعى لتنظيم المجتمع. هو لم يكن يكتفي بالحزب الواحد، وإنما كان يسعى لتنظيم الشباب والنساء والمهن المختلفة في هياكل يسيطر عليها. ذهب كل هذا مع الريح، حيث لا يوجد اليوم نظام استبدادي له اليد العليا على منظمات مجتمعية أفلتت من سيطرته تدريجيا، وهي اليوم بصفة أو بأخرى منظمات شبه ديمقراطية وحتى ديمقراطية بالكامل في خياراتها الأساسية.
قوة الديمقراطية الآن في جزء كبير منها موجودة في هذه المنظمات، ومن ثمة على الديمقراطيين الانخراط فيها والإكثار منها ودعمها في كل المجالات الإستراتيجية، مثل الإعلام والقضاء والنقابات.
ذلك لأن مثل هذا النسيج من الأحزاب والمنظمات الديمقراطية الذي يتسارع تشكله هو القاعدة التي ستبني عليها ديمقراطيتنا دولة القانون والمؤسسات.
ما لا يجب أن يغيب أبدا عن الأذهان أن البلد الديمقراطي مثل هرم صلب متين، لأن قاعدته آلاف منظمات المجتمع المدني. في حين أن النظام الاستبدادي مثل هرم، لكنه قائم على قمته، ومن ثمة حتمية سقوطه على جنبه طال الزمان أو قصر.
ثانيا: إدارة الصراع
نحن أمام استبداد لم يعد قادرا على إخفاء عجزه المتفاقم، وليس أمامه غير سياسة الهروب إلى الأمام بالقمع والتزييف أو ربح الوقت بالتسويف والمماطلة والتفتح الزائف والزائل سريعا.
ما تلجأ إليه كل الدكتاتوريات عندما يضيق عليها الخناق هو افتعال الانفتاح أو الدعوة لحوار وطني.
كم من مرة سقط الديمقراطيون في هذا الفخّ، وكم من مرة أخرى سيسقطون قبل أن يُواجَه الانتهازيون والضعفاء منهم بردة فعل قوية من الديمقراطيين الموضوعيين الذين يعرفون أن ” التفتح” و”الحوار” جزء لا يتجزأ من سياسات أنظمة لا تعيش إلا بالغشّ، وأول ما تغشّ به نفسها.
يجب إذن أن يكون موقف الديمقراطيين صلبا، وأنه لا بديل عن نهاية الاستبداد ولا مساومة في رحيله. ما يهددنا في تونس، عندما يتضح للدولة العميقة عمق فشل الانقلاب وضرورة التضحية بالمنقلب، أن تطلع علينا قوة سياسية منقلبة على المنقلب تدعو لحوار مع المعارضة لكن في ظل الدستور المزعوم، والحال أن عودة العمل بدستور الثورة شرط يجب ألا يكون قابلا لأي “توافقات”.
تبقى المشاكل العملية والتي تتجاوز مواقف الرفض والتمسك بالثوابت والمبادئ.
حقاّ شعوبنا اليوم منهكة، محبطة، يائسة، ومن ثمة يصعب تصور خروجها للشارع كما حدث عام 2011.
يجب التذكير هنا أن من قام بثورات الربيع العربي لم يكن “الشعب” بمفهوم المقدّسين (المؤمنين بوجود هذا الكيان الهلامي الذي لا يأتيه الباطل من خلفه وأمامه) والمدنّسين (الذين يرون فيه سوقة ورعاعا وغبار أفراد للتضليل والتحكم والاستغلال). من قام بالثورات هو “شعب المواطنين” أي بضعة عشرات الآلاف من الأشخاص الذين كسروا قيودهم ويريدون كسر التي ما زالت تكبّل مجتمعهم.
ما أثبتته تجربة الربيع العربي في تونس أيضا أنه يستحيل على أي نظام مهما كانت قوته مواجهة انتفاضة شعبية سلمية تندلع في نفس الوقت في كل المدن، خاصة إذا تحركت منظمات المجتمع المدني من نقابات ووسائل إعلام ومؤسسات اقتصادية.. إلخ.
هذه الأقلية الواعية هي التي ستعود للثورة، وهي موجودة وتنتظر فقط فرصة الانقضاض على وحش يمص دمها ويحكم عليها بالموت بالنزف البطيء.
مهما طال صبرها فإنها لن تستطيع مواصلة الصمت أمام تفاقم أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ومن ثمة إيماني بأن ما نراه اليوم من صمت في أغلب بلداننا هو مرحلة سكون البراكين قبل انفجارها، وستبقى المشكلة أن هذه الانفجارات التي قد تأخذ شكل انتفاضات جوع وعطش ليست كافية لتغيير النظام السياسي.
ما الإستراتيجية الناجحة إذن؟ إنها المقاومة المدنية السلمية المؤدية للعصيان المدني الشامل.
لنؤكد على مبدأ السلمية، لأن مواجهة الاستبداد بالعنف هو كل ما يريده هذا الاستبداد وكل ما يجب علينا رفضه.
أما العصيان المدني فهو في ابتكار كل وسائل شلّ دولة الاستبداد من الاعتصام في كل الأماكن، إلى تنظيم المظاهرات الحاشدة الأسبوعية كما فعل الحراك الجزائري، ويفعل الإسرائيليون التلامذة غير المتوقعين للربيع العربي.
لنا اليوم أداة رهيبة، وسائل التواصل الاجتماعي القادرة عندما تنضج الأمور على تنسيق خروج الجماهير في نفس اليوم والساعة في كل ربوع البلاد، والهدف الرئيسي -كما فعل الشعب السيريلانكي- الاستحمام في مسبح القصر الرئاسي بعد فرار الغبي الذي نسي قاعدة “لو دامت لغيرك..”.
ثالثا: أبجديات التمكّن
طبعا لكل حدث حديث، لكن كم سيخطئ الديمقراطيون إن لم تكن لهم رؤية واضحة عما يجب فعله، وخاصة عما لا يجوز فعله حال انهيار النظام الاستبدادي وبداية استبداله بالنظام الديمقراطي. إنه الوضع الذي وجدنا فيه أنفسنا في تونس بعد الثورة.
كانت لنا أهداف نبيلة وشعارات جميلة، لكن لم تكن لدينا الخبرة الضرورية لمواجهة الثورة المضادة ولبناء ديمقراطية بمخالب وأنياب تستطيع أكل من يريد أكلها.
هذه الخبرة متوفرة اليوم لدى كل الديمقراطيين الذين غلبتهم الثورة المضادة، سواء في مصر أو ليبيا أو تونس أو اليمن. وإن أكبر منبع لهذه الخبرة هي تونس مهد الربيع العربي واليوم مقبرته، تونس التي كانت مفخرة العرب وهي اليوم مسخرة العالم.
أهم الدروس التي يجب أن تكون حاضرة في أذهان كل من ستضعهم الأقدار يوما في وضع بناة النظام الديمقراطي المستدام:
- عدم القبول بأي مرحلة انتقالية فيها رجالات النظام القديم، لأنه بمثابة تكليف الذئب بإدارة المدجنة.
- تذكر دائما المثل الفرنسي “المجوهرات لا تُرمى للخنازير”، فالحديث عن تصالح وطني وتسامح والتعامل بنبل وشهامة وفروسية مع بقايا الاستبداد، هو بالضبط رمي الخنازير بالمجوهرات. هؤلاء الناس لا يفهمون مثل هذه التصرفات بل يعتبرونها بسرعة ضعفا وبلاهة وسذاجة لا تشجع فيهم إلا رغبة الثأر. هذا ما لم يفهمه حزب “النهضة” في تونس، وما يدفعه الآن هو والثورة والوطن ليس إلا ثمن خطئه في التقييم، ومن ثمّة ضرورة الالتزام بقاعدة: لا تسامح إلا بعد المحاسبة، لا عدالة انتقالية ولا عدالة انتقامية، العدالة وبسّ.
- وضع قوانين تحمي حرية الرأي والتعبير لكنها تعرّف بدقة التضليل الإعلامي واعتباره جريمة تعاقب بأقصى العقوبات، والمجرم الأساسي ليسوا الصحافيين المرتزقة طوعا أو كرها وإنما مالكو وسائل التضليل هذه.
- وضع شروط صارمة للأحزاب المعترف بها، كأن تكون ديمقراطية، في أيديولوجيتها، في تسييرها، في مواقفها الدولية، وألا تكون مملوكة لرجال أعمال أو أصحاب قنوات تلفزيونية.
- وضع قوانين لتنظيم حق الترشح في أي انتخاب، مثل الخلو من الفساد وخدمة الاستبداد وتوفّر الحد الأدنى من الكفاءة لتحمل المسؤوليات التي يتقدم لها المرشّحون.
- السهر على التصدي لكل أشكال تدخل المال الفاسد والتلاعب بالعقول عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
- تفادي برلمانات فسيفسائية بتطليق كذبة التمثيلية، لأن دور البرلمان ليس تمثيل الملل والنحل السياسية، وإنما صياغة القوانين ومراقبة الحكومة، وربما انتخاب رئيس الجمهورية للانتهاء من مغامرات ومقامرات تستبدل مصيبة بمصيبة أكبر. هذا يتطلب أن تكون هناك أغلبية واضحة، ومن مزايا مثل هذا النظام إجبار الحوانيت السياسية الكثيرة على التقدم بقائمتين أو ثلاث يسهل للناخبين الفصل بينها، خلافا للسيرك المتمثل في عشرات الأحزاب الصغيرة التي تطالب بحقها في تقاسم كعكة المقاعد وتعطينا هذه البرلمانات المسخ التي دمرت صورة الديمقراطية وفرشت البساط الأحمر للشعبوية.
طبعا لا مجال في نص كهذا لمحاولة استنفاد كل الحلول الضرورية، فهذه مهمة لا تنتهي، وهي موكول بها لخيرة العقول العربية. المهمّ مرة أخرى أن نعرف ما الأسئلة الصائبة وما المنهجية التي يجب استعمالها للتعامل مع التحديات التي تطرح.
لساخر أن يسخر: يا الله ما أروع هذا السيناريو! أفكار وقيم ومشاريع جديدة تتسلل للعقول والقلوب، تنهي ثنائيات تقادمت مثل (تقدمي/ رجعي)، (علماني/ إسلامي) لصالح ثنائية (استبدادي/ ديمقراطي)، وتطور وعيا صامتا في كل الأجيال وخاصة الشباب بضرورة التمسك بثلاثية الثورة الديمقراطية السلمية، وترصّد العقل الجماعي للحظة الحسم التي تنتهي باستحمام الثوريين السلميين في مسابح قصور الطغاة!
ديمقراطية نرى فيها انكباب بناة الديمقراطيات العربية الوليدة على تطبيق بدائل اختمرت سنوات بعد تمعن دقيق في أسباب فشل الديمقراطية أساسا في تونس والعراق ولبنان، وقيام دول قانون ومؤسسات توفر أخيرا الاستقرار الحقيقي وإقلاع الاقتصاد السليم، وتسارع تبلور شعب المواطنين من رحم شعب الرعايا، وبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة الذي سيعيد للعرب مكانهم في العالم ومكانتهم في التاريخ.
كأنني أراه يهزّ الكتفين وأسمعه ضاحكا متشمّتا: أضغاث أحلام، أضغاث أحلام. طيب ما البديل إذن يا فهيم؟
لتجده يجيبك: آه، يجب الإكثار من الدعاء لأولياء الأمر ليهديهم الله إلى سياسة الحق والخير. ويجب المراهنة على الإصلاح من الداخل خطوة خطوة.
نعم إرمهم أنت بدعواتك الصالحة أما أنا فلن أرميهم إلا باللعنات، إذ لن يغفر لهم الله ولا التاريخ ما فعلوه بشعوب أمة كان بوسعها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، فإذا هي الأمة التي ضحكت من عجزها الأمم.
تريد يا متشمّت أن تعرف البديل للسيناريو الذي تسمّيه أضغاث أحلام، إنه سيناريو أضغاث كوابيس. ما لم تنتبه له يا فهيم أن ما حدث في سوريا والعراق والسودان تصدّع شقق نفس العمارة، وأن بقية الشقق التي تعتقد نفسها في مأمن محمولة على نفس الدعامات. يوم تنهار كل العمارة على رؤوسكم جميعا أنتم من خربتموها ومنعتم إصلاحها في الإبان فستواجهون بأضغاث الكوابيس وأنتم أمام حطام 22 دولة وجحافل من ملايين المهاجرين أفقدهم الجوع والعطش والعنف كل مقومات المجتمعات المتحضرة.
المشروع الوحيد لهذه الأمة القادر على إنقاذها من مثل هذا المصير المرعب هو المشروع الديمقراطي العربي بأهدافه الثلاثة العربية (شعب المواطنين، ودولة القانون والمؤسسات، واتحاد الشعوب العربية)، ووسائله المبتكرة من خارج الصندوق، ومقترحاته لتحيين مسلّمات وأسس الديمقراطية.
ألن يكون ثأرا لذيذا من دهر أهاننا بما فيه الكفاية، أن نكون نحن العرب من يجددون شباب الديمقراطية ويبنون لها في بلدانهم المنكوبة بأغبى أنواع الاستبداد والشعبوية، صروحا تدوم أطول وقت ممكن؟!
فإلى العمل وإلى الأمل
ولا بدّ لليل أن ينجلي.
المنصف المرزوقي
الجزيرة نات – 14 06-2023
https://www.aljazeera.net/opinions/2023/6/14/%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%B7%D8%A9-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D9%84%D9%87%D8%B0%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A9-5-%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7?fbclid=IwAR1Dn7w7402yYwR98iilpzOhA2ENt99bE2O1ZO6PuHo8R7Mcvv9EDIi-Hmw