في حوارات قرطاج – تقديم لمداخلة الأستاذ البشير بن حسن
حول الظاهرة السلفية بتونس
السبت 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012
سيداتي سادتي ضيوفنا الكرام
توفي لنا في تونس في غضون اليومين الأخيرين شابان بعد إضراب جوع دام قرابة الشهرين في السجن بعد إيقافهما على خلفية أحداث 14 سبتمبر.
أولا أريد أن اترحم على روح هذين الشابين التونسيين وأن أتقدّم لعائلاتهما بخالص التعازي وأصدق عبارات المواساة . ثانيا أريد التأكيد بقوة على ما يلي:
إني وإن لم أعلم بهذه المأساة إلا بعد أن سبق السيف العذل- فإنني أتحمل مسؤوليتي الكاملة فيها وكذلك أجهزة الدولة ومن هذا المنطلق تم الاتفاق مع السيد رئيس الحكومة ووزيري العدل والصحة مساء أمس على الإسراع بلجنة مستقلة لتقصي الحقائق تكشف أخطاء قد تكون ارتكبت وتصدر التوصيات الكفيلة بعدم تجددها وتضع قواعد تعامل تحفظ كرامة وحياة المضرب وحقوقه المشروعة فقط.
ذلك لأنه لامجال لأن يبتزّ أيا كان الدولة عبر إضراب جوع متواصل للإفلات من المحاسبة خاصة في إطار دولة ما بعد الثورة وما تضمنه من محاكمة عادلة وشفافة ولا مجال مطلقا لترك مثل هذا الباب مفتوحا لأي كان ومهما كانت الظروف والمبررات لأن الأمر يعني الدخول في مسلسل خطير قد يؤدي إلى انهيار مفهوم العدالة ومصداقية المحاكم ومن ثمة مصداقية الدولة ككل.
أيها السيدات والسادة
إن هذه المأساة، ونرجو العليّ القدير أن تكون الأخيرة من نوعها، هي آخر ما جدّ من أحداث تحسب من باب التعميم الخاطئ على التيار السلفي ككلّ وأذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: حادثة بئر علي بن خليفة التي شاهدنا فيه مجموعات ترفع السلاح ضد الجيش الذي حمى الثورة….حادثة الطالبة المنقبة التي أدت إلى شلل كلية الآداب بمنوبة وإلى تبعات عديدة على الصعيد الأمني والإعلامي …حادثة العبدلية وما انجرّ عنها من تقديم بلدنا كأرض تنتهك فيها حرية الإبداع الفني… حادثة إنزال العلم المفدّى الذي استشهد من أجله التونسيون ورفعوه في كل المحن رمزا للوحدة الوطنية واستبداله براية لا تمت لنا بصلة …..حادثة اقتحام سفارة الولايات المتحدة مع ما تبعها من حرق وتدمير وفقدان أربعة أرواح احتجاجا على جريمة ارتكبها مواطن غير مسؤول أدانته الحكومة الأمريكية بكل شدة…حادثة ضابط الأمن الذي ضرب بساطور على رأسه لمجرّد قيامه بواجبه في حفظ الأمن.
كل هذا أدى لظهور مناخ غير صحي تمثل ولا يزال في تفاقم خوف عدد متزايد من التونسيين من ظاهرة يعتبرونها تهديدا لنمط الحياة الذي ارتضته الأغلبية وفي المقابل في شيطنة عدد آخر من التونسيين والتونسيات .
سيداتي سادتي
رغم قلة عدد المتطرفين واستحالة أن يشكلوا تهديدا جديا لبلد ذي مجتمع متجانس ومعتدل، وجيش جمهوري منضبط متمسك بالشرعية، وأمن يريد تجاوز الماضي والدفاع بشرف عن القانون والدولة ، واقتصاد بصدد الانتعاش ، له خاصة نظام سياسي وطني ، شرعي ، غير فاسد ومجتمع مدني عريق ….فإن وجود هذه الجماعات يطرح على تونس مشاكل عدة منها الداخلية والخارجية.
على الصعيد الداخلي هناك تصرفات بعض الجماعات في بعض الأحياء والجوامع بالإكراه وكأنها في أولى خطواتها لكي تكون بديلا عن الدولة بانتظار التمكن منها بالقوة. هناك الاحتكاك المتصاعد بين رجال الأمن وهذه الجماعات مع ما يعنيه الأمر من ضحايا بين الجانبين وايضا من كل الانزلاقات الممكنة التي قد تعيد إلى الأذهان تجاوزات العهد البائد . هناك أيضا أحزاب وشقّ من المجتمع على قناعة أن أطرافا سياسية معينة تغض الطرف عن هذه المجموعات في أحسن الحالات وفي أسوئها هي في تواطؤ معها لحسابات حزبية انتخابية.
ثمة أيضا التداعيات على الصعيد الخارجي ، فكل الأحداث التي ترتكبها الجماعات العنيفة على ندرتها ، تضخّم إعلاميا الشيء الذي شوّه صورة تونس بكيفية لم يسبق لها مثيل بكل تبعات الأمر وتأثيره السلبي على السياحة والاستثمار. هناك أيضا بداية ارتباط جزء من هذه الجماعات العنيفة بالنزاعات في بلدان الشرق الأوسط أو في شمال مالي مما يعني أن تونس قد تصبح مستهدفة من قبل مجموعات تمرنت على السلاح و قد لن تتورع عن استعماله ضدّ شعبنا المتهم بالكفر الديمقراطي .
سيداتي سادتي
تتطلب هذه المشاكل رفض التهويل مثلما رفض الإنكار .هي تتطلب من كل الفاعلين تحمل مسؤولياتهم خاصة ونحن لا نزال في بداية ظاهرة يمكن منع تطورها إلى الأسوأ .
ثمة مسؤولية رجال ونساء الإعلام وتتمثل في عدم صب الزيت على النار واعتماد خطاب التخويف والتحريض أو المساهمة في التسويق لكل خطاب يثير الكراهية ويحث على العنف بغية تحقيق أهداف تجارية بكيفية استفزازية فجّة . ثمة مسؤولية الوعاظ وشيوخ الحركة السلفية
إنها في إقناع الشباب أن من يدعي أنه هو الوصي الشرعي على الإسلام لا يعكس إلا وجهة نظره وأنه لا دليل على صحة أقواله إلا أقواله نفسها. أما محاولة فرض الرأي الخاص على الجميع بالعنف فهو محاولة مكلفة أظهرت كل التجارب التاريخية عبثيتها وباءت بالفشل وكان أولى ضحاياها من انطلقوا في طريق مسدود منذ البداية.
ثمة مسؤولية الشباب المعرّض لإغراء التطرف والعنف
إنني أتفهّم أن يرفض شبابنا الطغيان والظلم والتبعية لكنني أقول بوضوح أن هذه المعركة هي أيضا معركة القيادة السياسية التي أفرزتها الثورة والانتخابات. معركة سلطة لا تمارس الفساد و الظلم …سلطة متمسكة بالهوية العربية الاسلامية…سلطة ملتزمة ومدافعة عن استقلالية القرار الوطني…سلطة متعاطفة مع كل قضايا الأمة ومرتبطة بها … وبالتالي فإن مقاومتها بالعنف والحال أنه يمكن تغييرها بالانتخابات دليل على سوء تقدير ورؤيا مغلوطة للواقع وخلط بين وضعيات جدّ مختلفة، فانتبهوا ولا تتركوا مجالا لمن يعتبرونكم مجرد أدوات لتحقيق اجندات منها التونسية ومنها غير التونسية
ثمة مسؤولية عائلات هؤلاء الشباب
إنها في ترشيد سلوك ابنائها وبناتها وحمايتهم من رفض مجتمعي متعاظم ومن تبعات المواجهة العنيفة مع قوات الأمن. إن كل عائلة تونسية عزيزة علينا وما يلحقها من أذى يلحقنا جميعا ونحن لا نريد أمهات يبكين موت أو جرح فلذات أكبادهن أو تجدّد المظاهر المشينة من طوابير الامهات والاخوات والزوجات أمام السجون ثمة مسؤولية الطبقة السياسية وهي في بلورة وفاق وطني حول معالجة ظاهرة تهدد مسارنا الديمقراطي الغض وذلك بعيدا عن المواقف المسبقة والمتشنجة.
ثمة مسؤولية الحكومة
هناك المسؤولية القصيرة المدى ألا وهي مواجهة كل مظاهر الخروج على القانون بفرض هذا القانون ، وفي إطار هذا القانون ، لكن ليس أي قانون فبديهي أن قانون الإرهاب فرض على تونس فرضا في إطار استراتيجية دولية لم نكن إلا الطرف المنفذ فيها. إن في الترسانة القانونية العادية ما يكفي لمواجهة المشكلة بانتظار أن يعيد البرلمان المقبل النظر في كامل المجلة الجنائية
على الصعيد المتوسط المدى مسؤولية هذه الحكومة والتي ستليها المسارعة بالإنماء ليس فقط في المناطق المحرومة التي تسلّط عليها عن حق الأضواء ولكن أيضا في مناطق الفقر والخصاصة التي تحيط بكبرى مدننا وعلى رأسها العاصمة
على الصعيد البعيد المدى أريد أن انبه لإشكالية قد تتهدّد وحدة بلادنا ألا وهي ترك الحبل على الغارب في ما يخص تنامي مدارس تربي أطفالنا على فهم متشدّد للدين وممارسة ليست التي سار عليها مجتمعنا فلا وجود في جمهورية مدنية لتعليم عقائدي خاص منفصل وفي تناقض مع تعليم عام وموحد هو أول باني وضامن للوحدة الوطنية. مما يعني أنه لا بدّ من برنامج تعليمي موحد يلتزم به القطاع العام والخاص على حدّ السواء وفي كل مدارسنا دون استثناء – اللهم إلا التي تنتمي لمجموعات دينية أخرى أو لدول صديقة- ويبقى من حق العائلات أن تعلّم أطفالها داخل بيوتها ما تراه صالحا ومتوافقا مع فهمها للإسلام .
ثمة أخيرا مسؤوليتي كرئيس للدولة وهي ألا أقبل أن يضام اي تونسي وتونسية من أجل معتقده أو ملبسه …أن أحمي نفس الحقوق في العمل والتعليم للمرأة التونسية لبست خمارا أو نقابا أو رفضت هذا وذاك …أن أحمي علوية القانون وكامل حقوق الإنسان وعلى رأسها حق الرأي والمعتقد والحرمة الجسدية والحق في محاكمة عادلة حتى للذين خرقوا القانون
سيداتي سادتي
إن واجبنا جميعا هو ألا تتكرّر مأساة الشابين المتوفيين ومأساة عائلات الذين قضوا نحبهم في أحداث السفارة الأمريكية ومأساة عائلات جرحى أعوان الأمن، فكل هؤلاء تونسيون وما يصيبهم يصيبنا جميعا. إن وقف الانزلاق نحو التطرف أيا كان غلافه الأيدولوجي يعني وقف الانزلاق نحو العنف المدمّر لأرواح التونسيين ولصورة تونس في الخارج وخاصة للفرصة التاريخية التي أتاحتها لنا الثورة المباركة بالخروج من الاستبداد والفقر والتبعية . هذا الأمر رهن في جزء كبير منه بفتح كل قنوات الحوار ومنها هذه المحاضرة التي أتمنى أن تكون نقطة انطلاق لمسار تحرص على تواصله كل الأطراف.
من منطلق عزمي على تحمل مسؤوليتي كاملة مهما كانت الصعوبات والأخطار فإنني أستطيع مطالبة كل الأطراف بتحمل مسؤولياتها رائدها الوحيد المصلحة العليا للوطن التي لا يمكن أن تتحقق اي مصلحة فئوية أو شخصية خارجها أو ضدها… كل هذا ليكون لنا في آخر المطاف وطن لا يموت فيه شبابنا ولا يقتل عبثا…وطن نبنيه بطيف تعدديتنا ولا نتداول فيه على الوصاية والإقصاء ولا شيء بينهما إلا خوف الغالب وضغينة المغلوب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته