في الجزيرة نت
الوجدان العربي بين مخاطر الجمود وإغراء الحركة
الثلثاء 14 تموز (يوليو) 2009
ما لا ننتبه له أننا نعيش نقاشا جماعيا جبارا لم تعرف له الأمة مثيلا طوال تاريخها، وذلك بفضل تنامي الوعي والتعليم والتكنولوجيا.
” ما يثبته التاريخ أنه إذا مارست قوى المحافظة ضغطا مفرطا يهدد حاجة المجتمع للحركة، فإن السد يدمر عاجلا أو آجلا بما يلزم من العنف ” ومع هذا لا أحد يعرف بالضبط توزع المشاعر والمواقف داخل الوجدان العربي بخصوص كبرى القضايا الحساسة الخلافية مثل الدين والسلطان والجنس والتاريخ والتراث أو العلاقة بين السنة والشيعة.
كل هذا لغياب عنصرين أساسيين: الحرية السياسية والعقائدية والأبحاث العلمية المسنودة بالإحصائيات القادرة على سبر ومقارنة آراء عينات ممثلة منتقاة بدقة تعكس مواقف المجموعات الكبرى مثل الأجيال والطبقات أو جناحي الوطن المشرق والمغرب.
كل ما نحصل عليه عبر المناظرات التلفزيونية أو ما يكتب على الإنترنت أو في الصحف هو مادة خام صعبة التعميم، فليس الصراخ في الحوارات الساخنة أو عدد التعليقات على موضوع ما، دليلا على التوزيع الحقيقي للمواقف عند الجمهور.
جزء من هذه المادة الخام موجود في مدونات ونقاشات الفضاء الافتراضي، ومنها تعليقات قراء الجزيرة نت التي تبدو أحيانا أثرى بالمعلومات من المقالات التي تعقب عليها.
لا غرابة أن يهتم كاتب هذه السطور بالردود على مقالته في الجزيرة “وهل لنا نحن أيضا تاريخ مفبرك” لاعتقاده أن في ألفاظها ومدلولاتها (كما وردت أيضا في التعقيب على مقالة ’’في الخلافات السنية الشيعية’’ للشيخ حمزة منصور) ملامح “المناطق” الكبرى لهذا الوجدان العربي المبهم التي تشكل محور اهتمامه منذ سنين.
ماذا نجد فيها وما الذي يمكن أن نتعلم منها؟ هناك أولا تعليقات تتهم الكاتب (وغدا مثل البارحة أي كاتب آخر يغرد خارج السرب) بالمراهقة الفكرية.. بالردة.. بالقدح في الإسلام وأمته وبإلقاء الشبهات كما يقوم مستشرق متمرس.. “بالاعتداء على ذاكرة الشعوب وهو جرم”.
بجانب الهجوم الشخصي هناك هجوم أعنف على أفكار وصفت “بالجرأة علي أسس الأمة والتبجح بالموضوعية والجبن التام أمام الأعداء” و”بأنها حمل أبواق من دمروا الإسلام.. وأنها هجوم على الإسلام وتشكيك في ثوابته”. ومحاولة تفتيت تاريخنا لنزع إيمان الأمة بذاتها وجعلها تركض وراء بقية الأمم سعياً وراء الدنيا..” و”تشكيك في الأصول سيوصلنا إلى التشكيك في الدين بذاته”. مع التذكير بأن “غيرنا يتباهي بأوهام في حين نحول أمجادنا إلى وهم، أهكذا تبنى الأمة بهدم أسسها باسم الموضوعية؟”
اللافت للانتباه في هذه الردود (60) ما تظهره من حساسية مفرطة وسرعة اختزال الموضوع والانزلاق إلى التهم الخطيرة. فقد اختزلت مفهوم التاريخ في التاريخ الإسلامي ثم في الإسلام، لكن الإسلام ليس التاريخ الإسلامي وللعرب تاريخ قبل الإسلام.
أضف لهذا أن التاريخ الإسلامي نفسه هو رواية تاريخ الأمة من زاوية إسلامية.. إن هناك رواية له من وجهة نظر ماركسية أو مسيحية.. إن هناك تاريخا للإسلام في أوروبا وفي إندونيسيا وفي الهند مختلف عن تاريخه عندنا.. إن هناك تاريخا بالغ الأهمية مثل تاريخ الزراعة والتجارة والنقل والفن، بل هناك تاريخ للطبخ واللباس، وهي أيضا فصول هامة لا نعرف عنها الكثير، وقد استأثرت بلبّ المؤرخين قصص خصومات الشعوب والأديان والدول.
والخلاصة أننا أمام مواقف متشنجة ترفض بقوة كل مراجعة للتاريخ المتناقل، لذلك يمكن وصفها بالمحافظة دون أن نضع في هذا الوصف أي حكم معياري.
وفي الطرف المقابل (46 ردا) هناك مواقف تنادي “بتحريك المياه الآسنة” و”خرق أحد عناصر التابو العربي المتخلف” وتؤكد أنه “لا يوجد تاريخ لأمة إلا وقد حصل فيه شيء من التزييف”. وأن “العرب أمة تعيش في الماضي، تتشدق ببطولات لا وجود لها وتعيش أوهاما نسجها خيالها”. وأنه لا بد من “التفكير في تاريخنا وتنقيته من الشوائب والأخطاء لنقطع الطريق على أعدائنا من استغلال هذه الشروخ”.
إنها مواقف تتسم بقبول ما يرفضه المحافظون بقوة أي شرعية وحتى ضرورة مراجعة الأسس للتمكن من صلابتها. لذلك يجوز وصفها بالمتفتحة أو التقدمية أو الحركية دون أن نضع في هذا الأوصاف أي حكم معياري.
أخيرا هناك المواقف المحايدة (عشرة ردود) ويذكر أصحابها أن مناقشة التاريخ بما هو جزء من المقدسات ليس بدعة وأنه يجب قبول عملية “إزالة الشوائب عنه شريطة أن يكون الجدل على مستوى المفكرين والعلماء وليس على مستوى رجل الشارع والفضائيات”.
*
مرة أخرى لا تعكس هذه المواقف إلا رأي قراء الجزيرة نت الذين ناقشوا المقالة وليس رأي كل من قرؤوها فما بالك بكل العرب.
يبقى رغم هذا التحفظ المنهجي الهام أننا أمام ردود فعل حادة وقطعية وعلى طرفي نقيض تعطينا فكرة عن كبرى “المناطق” للوجدان المجهول وعما يتلاطم داخله من مشاعر ملتهبة وأفكار لا يخالجها الشك.
كأن هناك منطقة واسعة منه مستنفرة للدفاع عن الصور النمطية القديمة سواء للتاريخ أو للدين أو للسلطة والتحذير من أي مساس بها واعتبار الاقتراب منها جريمة لا تغتفر.
” إذا كان التاريخ مدرسة الماضي التي يجب استغلالها لمزيد من فهم الحاضر والتحكم في المستقبل، فإنه لا بد للمحافظين والتقدميين العرب من الإنصات لأوامره الصامتة ” قد يكون الحافز الأساسي الخوف كما عبر عنه أحد المناقشين بوضوح “أليس اكتشاف الحقيقة (عن تاريخنا) في هذا الظرف سيقضي على البقية الباقية من الرمق؟ أليست الحقيقة رفاهية للأصحاء والأقوياء؟”.
على الطرف الآخر يبدو وكأن الوجدان مل صراخ المحافظين وتهديداتهم بل وينزع لاستفزاز الخائفين المخوفين، وهو ما نستشفه بوضوح من قول أحد المناقشين “إذا كنتم واثقين من أن التاريخ العربي ليس مزورا أو محرّفا أو كتبه أحد مؤرخي السلاطين المنافقين فلماذا الخوف من مناقشة هذا الأمر على طرق التحليل العلمي الحديثة التي أثبتت صحتها؟”.
في هذا المستوى الذي يكشف عنه المتفتحون والمحايدون يبدو الوجدان مقر العزم على مراجعة أقدس المقدسات وتحمل تبعات وحتى آلام العملية، ثقة منه بأن هذا هو المدخل السليم لحل قضايانا.
*
ورغم ما يبدو من تناقض مطلق بين الموقفين فإنه يمكن اكتشاف ثلاثة قواسم مشتركة على الأقل، ثمة أولا حدة الرفض المتبادل، كأنك تشتم التأهب للتنكيل بخصم يعتبر إما مرتدا أو كافرا أو مهددا لثوابت الأمة، وإما مخدوعا ومتخلفا فكريا في أحسن الأحوال وفي أسوئها عميل سلطة باغية.
هناك أيضا القناعة أن الطرف الآخر ليس جزءا مهيكلا، ثابتا شرعيا وضروريا للمجتمع وإنما شائبة طارئة وخطر يجب تطويقه وحتى القضاء عليه.
المشكلة أنه لا أحد من المفكرين المتفتحين قادر على أن يفسر لنا لماذا لم يمكن في أي زمان وأي مكان التخلص من المحافظين رغم “تخلفهم” و”جهلهم” ونزوعهم للإبقاء على أنظمة سياسية فاسدة وظالمة.
نفس الشيء عن المحافظين حيث لا يفسرون لنا لماذا صاحبت أفكار “الردة” و”الكفر” و”التطاول على المقدسات” و”الخروج على الثوابت” كل التاريخ الإسلامي الذي يعتقدونه وحدة صماء وهو عكس ذلك.
من الطريف تصور الفتاوى ضد ابن رشد وابن خلدون والرازي والحلاج وأبو نواس وابن المقفع أو المعري لو نشرت اليوم آراؤهم تحت أسماء مستعارة.
وعلى كل حال بالفتاوى وبدونها، هؤلاء الجهابذة وكل من ساروا على دربهم على مر العصور ليسوا شائبة أو خللا وإنما يشكلون بالنسبة لثقافتنا ما يشكله تيار Gulf Stream بالنسبة للمحيط الأطلسي، أي نهر دافئ وسط محيط بارد ينتمي إليه وإن اختلفت تركيبته عن تركيبة جل الماء.
ويبقى القانون الذي يجهله أو يتجاهله الطرفان أنه في المجتمع كما في الطبيعة، لا قدرة لتيار على إلغاء المحيط الذي يتحرك داخله كما أنه لا قدرة للمحيط على إغراق ما هو جزء من أعماقه.
*
السؤال الخطير: لماذا يوجد توجهان متناقضان داخل نفس المجتمع، ومن ثم هذا النزاع الذي لا ينتهي وهذا الشرخ المؤلم داخل الوجدان الجماعي؟
لنتصور مجتمعا تسود فيه حرية بلا حدود وحركية لا تتوقف وقبول تام بكل جديد. سيشهد مثل هذا المجتمع انقلابات متواصلة في تصريف شؤون العقيدة والجنس والسلطة، مما يعني أنه سيكون غارقا في الفوضى حيث لا بناء إلا على حد أدنى من الاستقرار. شيء كهذا غير محتمل لذلك يجب أن تكون هناك ثوابت.
لكن لنتصور مجتمعا تتوقف فيه الحركة تماما وينتصر فيه الاستقرار المطلق. مثل هذا المجتمع سيتوقف عن النمو ليصبح غير متأقلم مع واقع يتحرك باستمرار من حوله وداخله وفي عالم من قوانينه الصارمة أن من لا يتجدد يضعف ثم ينقرض.
” التسامح لا يعني القبول على مضض بالطرف الآخر، وإنما الاعتراف به كشريك في عملية معقدة تستوجب أحيانا تحالف الخصوم ” معنى هذا أن المجتمع -هذا الكائن الحي الذكي- مطالب لبقائه بتصريف حاجتين متناقضتين، تثبيت المتحرك وتحريك الثابت. ولتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي نراه يوكل لجزء منه بمهمة الدفاع عن الثوابت ولجزء آخر بمهمة تحريكها، كما يوكل للمهنيين بالوظائف الضرورية لحياته كل حسب اختصاصه.
ما يثبته التاريخ أنه إذا مارست قوى المحافظة ضغطا مفرطا يهدد حاجة المجتمع للحركة، فإن السد يدمر عاجلا أو آجلا بما يلزم من العنف. كم من ثورات وقعت بسبب تجاهل هذا القانون.
يثبت التاريخ أيضا أنه إذا هددت حركية أفلتت من عقالها حاجة المجتمع للاستقرار فإن نفس العنف يعود لتثبيت ما حركه في ظروف وأماكن أخرى.. كل هذا إلى لحظة الوصول لتوازن ما.
إذا تمعنا جيدا في تجربة الشعب الإيراني أو الكمبودي أو الروسي في القرن الماضي نكتشف قاعدة أخرى للتاريخ، الإفراط في عنف التثبيت أو التحريك يؤدي إلى نتائج عكسية.
أحسن مثال على ذلك الكنيسة الكاثوليكية التي بالغت في التعنت والفساد في القرون الوسطى وكسر كل قوى التجديد، فقوت الكنائس البروتستانتية التي بنت أقوى الدول الخارجة عن سطوة الكاثوليكية.
وفي الاتجاه الآخر بالغت ثورة الخمير الحمر في استعمال العنف لكسر كل قوى المحافظة فخربت مجتمعا عاد بعد دورة دموية رهيبة محكوما بالمحافظين.
التحدّي الضخم، ألا توجد إمكانية لتصريف الحاجتين المتناقضتين دون اللجوء إلى إراقة الدماء.
ما يعلمه التاريخ أن الأمر ممكن حيث نجحت المجتمعات الإسكندنافية في تحريك الثابت وتثبيت المتحرك طيلة القرنين الأخيرين دون عنف. لا غرابة أن نجدها اليوم على رأس قائمة البلدان المتطورة المتمتعة بالسلام والرخاء وقدر كبير من العدالة والحرية . للأسف ثمة شروط ما أبعدنا عنها.
يكتشف المتمعن في تاريخ المعجزة الإسكندنافية أنه خلافا لوضعنا لم تسلط على هذه المجتمعات الضغوط الداخلية الخارقة التي نعرفها كحجم التفاوت الطبقي، أو الضغوط الخارجية الخارقة كالاستعمار والصهيونية والإمبريالية، وكلها حالات موضوعية تدفع للتطرف في الاتجاهين.
لكن الثابت أن للعامل الإنساني دورا لا يستهان به حيث لم يكن للمحافظين الإسكندنافيين أي علاقة بالمحافظين السعوديين ولا للتقدميين منهم أي علاقة بالتقدميين الخمير الحمر.
نستشف أهمية هذا العنصر من خلال تجربة تاريخية جرت تحت أعيننا حيث رأينا ما يمكن أن ينتجه تحالف محافظ ذكي مثل دوكلارك وثوري ومتوازن مثل مانديلا في منع غرق جنوب أفريقيا في الدم.
إذا كان التاريخ مدرسة الماضي التي يجب استغلالها لمزيد من فهم الحاضر والتحكم في المستقبل، فإنه لا بد للمحافظين والتقدميين العرب من الإنصات لأوامره الصامتة.
لا تفريط ولا إفراط في القيام بالمهمّة التي كلّفتم بها وإلا فالنتيجة ستكون عكس ما تريدون.
لا يجرب المجتمع إلا على نفسه وكمية الآلام التي يتحملها بإفراط هذا الطرف أو ذاك، نفسها وإن توزعت بصفة مختلفة على ضحايا هم دوما منه وإليه.
المجتمع بحاجة لكل مكوناته، والتسامح لا يعني القبول على مضض بالطرف الآخر وإنما الاعتراف به كشريك في عملية معقدة تستوجب أحيانا تحالف الخصوم.
ويوم تتغلغل مثل هذه القناعات فلن يصبح الوجدان العربي مشروخا معذبا بالحقد والخوف وإنما مركز فكر هادئ ومسؤول قادر على الفعل وليس كما هو حالنا اليوم على رد الفعل فقط.