لا ترموني بالماضي الاستعماري لأوروبا …بما يعانيه المسلمون فيها …بإغلاق الحدود في وجه المهاجرين والحال أنه لم تعرف قارة أغرقت العالم بمهاجريها قدر أوروبا …بكون الاتحاد الاوروبي مسيّر بالبيروقراطية وتحت سطوة الليبرالية المتوحشة …الخ
كل هذا معروف وما خفي أعظم.
ولكن إياكم أن تحجب الشجرة الغابة.
تأمّلوا مليّا في هذا الكيان السياسي الموجود على مرمى حجر من حدودنا والمتشكّل تدريجيا:
-من 6 دول سنة 1958 إلى 28 دول اليوم.
-من شعوب تتكلم 24 لغة.
-من سوق اقتصادية موحّدة ومن فضاء سياسي متزايد الترابط والتنسيق.
-من مؤسّسات مشتركة على الصعيد التنفيذي والقضائي والتشريعي يرمز له البرلمان الأوروبي الذي ينتخبه هذه الأيام قرابة ال 400 مليون ناخب والذي سنّ مئات التشريعات التي لعبت وستلعب دورا بالغ الأهمية في تحسين وضع الاوروبيين.
إنها معجزة بأتم معنى الكلمة للأسباب التالية:
-لأول مرة في تاريخ البشرية نرى اتحادا سياسيا واقتصاديا يتكوّن في مخالفة وتكذيب لما اعتقدنا أنه قانون سرمدي أي أن الكيانات السياسية المتعددة الشعوب والأعراق والديانات لا ترى النور ولا تحافظ على وجودها إلا بحدّ السيف. قانون لم تنجو منه لا الامبراطورية الرومانية ولا العربية ولا الروسية. أليس مثيرا وجديدا بالنسبة لما عوّدنا عليه التاريخ ألا أحد غزا بولونيا باسم سلطة بركسل أو أن هناك من أجبر رومانيا على الانضمام بالتهديد أو طالب اليوم بتجهيز البوارج لمنع بريطانيا من ” الانفصال”؟
-لأول مرة في تاريخ البشرية يتمّ تكوين الفضاء السياسي الاقتصادي المشترك حسب اتفاقيات تتخلى فيها دول شرعية -أي ديمقراطية ممثلة لشعوب حرّة -عن جزء من سيادتها للصالح العامّ وذلك للحدّ من ويلات الحروب التي شهدت القارة العجوز في منتصف القرن الماضي أكثرها دموية ووحشية على الصعيد العالمي.
– لأول مرة في تاريخ البشرية نرى أن تسيير كيان بمثل هذا الحجم غير مرتبط بشخص أو حزب أو دين أو أيدولوجيا وإنما بعقود مبرمة في مواضيع محددة ولأهداف مشتركة تنفذها مؤسسات يتداول الحكام عليها وتتواصل بهم بغيرهم.
-لأول مرة في تاريخ البشرية نرى كيانا سياسيا يبنى على القيم أساسا السلام والحرية وحقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب المكونة للاتحاد والتضامن بينها للإسراع بنموّ أقلها حظّا من التنمية.
عن هذه القيم تولّد كمّ هائل من المنافع حقّق للجميع من المصالح ما لم تحققه سياسات وأنظمة المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار فخسرت هذه الأنظمة القيم والمصالح على حدّ السواء.
-لأول مرة في تاريخ البشرية نرى بفضل هذا التنظيم الجديد تحقيق الاستقرار والأمن والرخاء لأكثر من نصف مليار انسان يدوم منذ أكثر من نصف قرن.
لقائل إن يقول: انظر لتنامي الحركات الشعوبية الوطنجية التي تريد تدمير معجزتك هذه؟
وجودها حتمي. ألا يسنّ قانون لاو-تسو أن العالم لا يوجد إلا بتواجد الأضداد مما يعني أنه إذا وجد أذكياء فلا بدّ أن يكون هناك أغبياء وإذا صادفت عقلاء فتيقن من وجود المجانين.
كل ذرائع هؤلاء، الشرعية منها والكاذبة، حول نواقص اتحاد (لا أحد يتوقع منه أن يكون المدينة الفاضلة) هي بمثابة الدعوة لإفراغ الرضيع مع ماء الحمام القذر. هم يخلطون بين عيوب تسيير الهيكل (وهي قابلة دوما للتحسين) وبين الاحتجاج بهذه العيوب لتدمير الهيكل.
على كل حال، من أقدر منا على العجب من غبائهم ونحن ننظر لوضع الاوروبيين في ظل اتحادهم كالمرضى الذين ينظرون لأصحاء يشتكون من القرّ والحرّ غير واعين بنعمة ربهم.
صدق من قال ”الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”.
أوروبا تضع أمام أنوفنا وصفة الخلاص والعاقل من يتعلم من غيره لا من يتمسك بأوهامه وأخطائه لمجرّد أنها نابعة منه.
ولأن المشروع التحرري العظيم لشعوبنا وأمتنا على قدم وساق عبر الحراك الثوري المبارك المتواصل اليوم وغدا، فلا بدّ خاصة للأجيال الشابة من الحلم والتفكير والعمل للتسريع بتحقيق شرطيه الأساسيين المتلازمين: وطنيا دولة القانون في خدمة شعب من المواطنين وقوميا اتحاد الشعوب العربية الحرة على غرار وتطويرا لتجربة أصدقائنا الأوروبيين.
على فكرة: إذا رفع يوما هذا العلمان جنبا لجنب (أتصور بتغييرات في عدد نجومنا: 22؟ 2 فقط للمغرب والمشرق) فلا تنسوا قراءة فاتحة على قبري.