عن ماضينا القريب وحاضرنا الصعب ومستقبلنا المجهول، جلّ العقول والقلوب مسجونة في ثلاث سرديات:
1-سردية الثوريين وهي أن الثورة جاءت لتونس بالكرامة والعزة والحرية لكنها أجهضت من جهة بفعل قوى إقليمية تجندت لقتل الربيع العربي …ومن جهة أخرى من قبل حركة النهضة التي نادت بالتصويت لقائد الثورة المضادة ثم تحالفت مع كل الأحزاب الفاسدة لبناء ديمقراطية فاسدة مما ساهم في تعبيد الطريق للشعبوية الزاحفة (ثمة السردية داخل هذه السردية وانه لولا حنكة النهضة واعتدالها وبحثها عن التوافق والوحدة الوطنية لغرقت تونس في الدم إلى الركبتين)
2-سردية التجمعيين القدامى والجدد وأن ”ثورة البرويطة «مؤامرة غربية عبرية لم تؤدي إلا لتسليم البلاد للإسلاميين وطرطورهم والنتيجة هذه العشرية السوداء التي نعيش.
3-سردية الشعبويين: كلهم من المرزوقي إلى مرزوق عملاء خونة مرتزقة نهبوا أموال الشعب ونحن أبناء وبنات 25 جويلية (أنظف من النظافة وأطهر من الماء الزلال) تحت امرة قائدنا قدس الله سره سنصلح كل ما أفسده هؤلاء المفسدون انتصارا لإرادة الشعب الذي نمثله وحدنا.
المهمّ في السرديات الثلاث ليست أنها وصفا للحقيقة التاريخية وللوضع الحالي وإنما هي تبرير لأحداث وقعت وخاصة بالنسبة للسردية التجمعية والشعبوية التحضير لحرب أهلية باردة في أحسن الأحوال وفي أسوئها عنيفة دموية.
يكفي أن ترى منحى الملاحقات ومن تشمل لكي تتبين لك ملامح مستقبل بلا وهم .
لقائل إن يقول لتفادي الدخول في هذا النفق لا حلّ غير الحوار.
نعم، من يرفض الحوار إلا سياسي غير مسؤول؟
المشكلة أننا جربنا هذا المخرج في 2014 والنتيجة أنه لم يؤدي إلا لإجهاض الثورة وإعادة الثورة المضادة للسلطة وإيقاف كل الإصلاحات وترحيل الأزمات السياسية والاقتصادية وترذيل الديمقراطية وافراغها من كل محتوى ثم تعبيد الطريق للشعبوية التي هي اليوم بصدد تدمير الدولة وتدمير من سهلوا انتصارها.
يكفي ما دفعت تونس لمثل هذا النوع من ”الحوار” وعلى من ارتكبوه الا يعولوا على نسخة جديدة منه فالمؤمن لا يلدغ من حجر مرتين.
ما المطلوب إذن؟
1 -الصعيد الفكري والإعلامي: تحيين سردية الثورة والتركيز في الحرب الإعلامية الضروس على ما يلي:
أ-افلاس الثورة المضادة وقد أعطيت لها فرصة الحكم المطلق عندما تواجدت في قرطاج والقصبة وباردو من 2014 إلى 2019 والنتيجة اتضاح حجم أكاذيبها ووعودها وعجزها مما أدى لتفاقم كل مشاكل البلاد وفتح الباب على مصراعيه للمدّ الشعبوي.
ب-الانهيار السريع لهذا المدّ بسبب كل الخراب الذي احدثه في الدولة والاقتصاد علما وأنه من حسن حظنا –إن صح التعبير-أن قائد الشعبوية هو المنقلب. تصوروا لو كان حامل لواءها شخص سويّ وكفؤ لعرفت تونس استبدادا فوضويا للثلاثين سنة المقبلة بينما سيحسب عمر هذه الرئاسة بالشهور لأن ما أوصل له المنقلب البلاد وضع غير قابل للتواصل.
ج-التذكير بأن ثورة 2010 لم تكن إلا حلقة من سلسلة أهمها أحداث 1978 و1984 و2008 وأن تواصل الثورة حتمي إلى أن يحقق التونسيون مشروعهم التحرري أي شعب من المواطنين لا من الرعايا تخدمهم دولة قانون ومؤسسات لا تستخدمهم دولة الفرد والأجهزة واللوبيات.
2-على الصعيد الميداني
ما يطلبه الوضع تجميع القوى الديمقراطية تحت راية دستور 2014 استعدادا لاستعداد القوى التجمعية القديمة والجديدة الانقضاض على السلطة بكل ما تختزن من عنف وحقد واقصاء ورغبة في الثأر أي من خطر على الوحدة الوطنية والسلم المدني.
للأسف لا يجب أن يكون لنا أدنى وهم حول انعقاد مؤتمر وطني لكل القوى المناوئة للانقلاب. فالخماسية حبيسة ايدولوجيات الستينات (التقدمية ضد الرجعية) وترفض الانتقال من الثنائية المدمرة علماني / إسلامي إلى الثنائية البناءة: ديمقراطي/ استبدادي (وهذا خطأها الكبير).
أما قيادة النهضة فترفض التخلي عن سياسة البحث عن التوافق مع المنظومة الحاكمة بأي ثمن ومن ثم توجهها مجددا للاتحاد …وداوني بالني كانت هي الداء (وهذا خطأها الأكبر).
لا خطر إذن على المنقلب من هذه المعارضات المشتتة المتناحرة واستهدافها عبث لا يضره إلا هو
هذا المتطفل على التاريخ لا يفهم أن الضربة القاضية لن تأتيه من هذه المعارضات وإنما من أقرب المقربين (سيناريو الانقلاب الطبي على بورقيبة) أو من شبان لا تعرفهم أجهزة التنصت والتتبع العدلي (سيناريو اسقاط بن علي من شباب القصرين وتالة والرقاب وسيدي بوزيد)
يبقى أن لهذه المعارضات دور في تشتيت انتباه المنقلب وتهرئته إعلاميا وسياسيا (حتى إن كان العنصر الرئيسي في تهرئه نظامه شخصيته المريضة) ومن ثم ضرورة تكثيف المظاهرات السلمية وتوزيعها على كل البلاد بانتظار تحرك الشارع الاجتماعي الذي سيضع نقطة الختام في السيناريو المضحك المبكي الذي نعيش.
لنتذكر أن الذي أطاح ببن على ليس بيانات الأحزاب وتقارير المنظمات الحقوقية وإنما خروج شعب المواطنين للشارع الذي أجبر الطاغية على الرحيل.
وهو الذي عليه اليوم استئناف ثورة لا يسرقها ولا يخونها هذه المرة أي حزب سياسي متربص لقطف الثمار التي سقيت من دماء الشهداء.
شعب المواطنين هذا شباب موجود في الأحياء الفقيرة ومهمته تأطير الاحتجاجات المجتمعية الآتية لكيلا تكون نار قشّ او عمليات حرق وتدمير عبثي تعطي للقوى المتربصة كل حجج القمع.
مسؤوليته التاريخية تسيس الحراك المجتمعي عبر المطالبة الواضحة برحيل المنقلب وعودة السلطة للشعب الحقيقي ، بطبيعة الحال في إطار السلمية وفقا لخيارات ثورتنا المجيدة وأنها ثورة ديمقراطية سلمية.
معنى هذا أن لجان حماية الثورة -التي افترت عليها وحاربتها بشراسة منقطعة النظير قوى الردة -مطالبة بإعادة التشكل لتأطير الجماهير الغاضبة تحت راية الدستور ودفاعا عنه ودعوة لتحقيق لمشروعه مما قد يعني في مرحلة لاحقة التنظم سياسيا على غرار مجموعة مواطنون ضد الانقلاب.
إلا ان شعب المواطنين أوسع من شباب الثورة.
فحماة عودة الديمقراطية (غير الفاسدة والعاجزة التي كان ائتلاف الأحزاب التي حكمت أبشع مظهر لها)
هم الاعلاميون المواطنون… والقضاة المواطنون… والمربون المواطنون …ورجال الأعمال المواطنون… والأمنيون المواطنون… الخ أي كل المهنيين أيا كان اختصاصهم الذين وضعوا شرفهم الشخصي والمهني فوق اعتبار المصلحة الشخصية والآنية أو التذلل لسلطة المرحلة خلافا للرعايا المتشدقين بالوطنية لإخفاء نذالتهم.
يبقى أن شعب المواطنين بكل مكوناته الظاهرة والخفية -حتى وإن نجح في حماية الثورة هذه المرة .وتفويت الفرصة على منقلبين على المنقلب مشروعهم رسكلة النظام القديم أو الانطلاق في دكتاتورية جديدة -فإنه لن يكون في مستوى مسؤوليته التاريخية (ناخبا ومنتخبا) إن لم يفهم الأسباب العميقة للانفجارات والثورات المتتالية ولم يتوجه أخيرا لمعالجة أسباب الداء بدل التوقف دوما عند أعراضه.
يتبع
الحلقة المقبلة: الأولية الأولى مكرّر