
قال نابليون عن تاليراند الوزير الذي خدم كل الانظمة المتتابعة وخانها كلها وكان معروفا بأناقته وظرفه وطراوة لسانه انه مثل النفايات المخفية داخل جورب من الحرير الفاخر.
جاءتني نفس الصورة وانا اتفحص كتابات المدعو كرتيس يارفين الذي يعتبره البعض المنظر الاول للسياسة الامريكية الحالية والرجل الذي يستقي منه ترامب وخاصة نائبه فانس بعض الافكار و”القيم.” .
اما جورب الحرير الفاخر فكلمات رنانة مثل” التنوير المظلم” Dark enleightment أو ”الكاتدرائية” التي ترمز لكبرى الجامعات ومراكز البحث والصحافة والتي يجب تدميرها لأنها هي التي تنتج وتصدر الافكار والقيم الهدامة للديمقراطية وبقية ما يسمى حقوق الانسان. ثمة أيضا مفهوم ”الرجعية الجديدة” التي ستعيد للرجعية القديمة شبابها وسمعتها.
يبقى أنك عندما تدقق النظر فيما يختفي وراء هذه الكلمات المثيرة لن تجد الا جل النفايات الفكرية المتعفنة لفاشية بداية القرن العشرين في اوروبا.
على سبيل العد لا الحصر.
-الأعراق البشرية ليست متساوية في الطاقات والقدرات والعرق الأبيض هو العرق المتفوق.
– الديمقراطية ليست الحل وانما المشكل لأنها تضع القرار بين يدي جهلة.
– السلطة الفاعلة هي السلطة التنفيذية الممركزة كليا بين يدي زعيم أوحد أما السلطة التشريعية والقضائية فمجرد هيئتين استشاريتين في احسن الاحوال.
والان الفكرة الوحيدة المضافة لسجل ثوابت الفكر الفاشي:
-الدولة-الامة تنظيم تقادم عهده ويجب التخلص منه لصالح تنظيم جديد يساس فيه المجتمع كشركة اقتصادية خاصة على رأسها مدير عام يتمتع بكل الصلاحيات. تحته مجلس ادارة يأتمر بأوامره مكوّن من نخبة النخبة وهي بالطبع غير منتخبة ولا تدين بالولاء الا للمدير العام. اما ما يسمى الشعب فيجب التعامل معه كما تتعامل الشركات مع مالكي اسهمها. هذا ما سيجبر المدراء العامين للأوطان على التنافس بينهم لاكتساب أكبر عدد
من الحرفاء ولا عزاء لكل الاوطان-الشركات المفلسة.
بطبيعة الحال لا مجال في مثل هذا التنظيم لدولة خدمات مكلفة ولبيروقراطية تتكفل بشحن المساعدات لمن لا يستأهلون البقاء في مجتمع عاد لأولى قوانين الطبيعة -كما يتصورها الفاشيون -اي غاب لا مكان فيه للتعاضد وانما للصراع الازلي والبقاء فيه فقط للأقوى
*
لقائل ان يقول هراء في هراء لكن. انظر لما يجري في امريكا اليوم. هناك رئيس يجمع بين يديه كل السلطات، يحلّ مؤسسة التعاون الدولي USAIDالتي سماها نائبه منظمة اجرامية دون اذن من الكونجرس ناهيك عن كونه لا يأبه لقرارات القضاء. هو يتحدث من الان عن دورة ثالثة يمنعها الدستور الأمريكي مما يعني انه قد ينقلب على هذا الدستور ويغيره كما يفعل كل الزعماء العرب والأفارقة.
هناك أيضا سياسة ممنهجة لإضعاف الدولة الفدرالية والحد من خدماتها في كل المجالات الحيوية كالتعليم والضمان الاجتماعي.
هناك هجوم منظم لتركيع الجامعات والاعلام وتدمير ” الكاتدرائية ” اي عش الدبابير الذي ينتج افكار المساواة والعدالة ومناهضة العنصرية والحرب في غزة.
هناك التعامل مع الحرب في اوكرانيا لا كدعم دولة ديمقراطية لدولة ديمقراطية معرضة للغزو وانما كمقايضة تجارية السؤال فيها ماذا تجني امريكا من هذا الدعم ولماذا مواصلته ان لم تدفع اكرانيا الثمن بالتخلي لها عن معادنها النادرة.
الا يعني كل هذا ان ما كان يهرف به كورتيس ياردين في مكان قصي من الانترنت المظلم هو ايدولوجيا الطبقة السياسية المتحكمة في اقوى دولة في العالم ممثلة في رجال اعمال مثل ترمب وماسك وويتكوف وغيرهم؟
*
تفرض علينا هذه الظاهرة غير المسبوقة الانتباه لتحولين جذريين في الفكر والسياسة سيكون لهما تأثير بالغ الخطورة على مستوى العالم وخاصة على مستوانا نحن العرب.
التحول الأول هو في مستوى الفكر الفاشي الكلاسيكي.
حقا ما زال يحتفظ بالثوابت القديمة من تاليه القوة وعبادة الزعيم واحتقار الاعراق الدونية وتقسيم المجتمع لنخبة لها كل الحقوق وأغلبية عليها كل الواجبات.
الجديد هو ان الفاشية الجديدة لم تعد تؤمن بالدولة كأداة ضرورية أو فعالة للتحكم في القطعان البشرية. هي تستخف بالدولة في حدودها الجغرافية الضيقة كتنظيم تقادم عهده ولا ضرورة لبقائه بسبب التحولات الهائلة في التكنولوجيا وعولمة سيطرة رأس المال.
اي قيمة للسبعة وخمسين دولة افريقية التي لا تصل ميزانيتها لميزانية الشركات العشر الكبرى في العالم مثل جوجل وميتا وسبايس اكس وامازون الخ. اي سلطة حتى لدولة اوروبية خارج حدودها مثل التي تتمتع بها هذه الشركات وهي تتحكم في العقول وفي القلوب وتستطيع ان تضع في الحكم من تشاء وتمنعه عما تشاء في اغلب مناطق العالم.
يجب أن نتذكّر أن الفكرة ليست بالطرافة التي قد نتصور فشركة الهند الشرقية البريطانية British East India Company, التي أنشئت سنة 1600 ولم تختف إلا سنة 1858 كانت تملك جيوشا وتتحكم في التجارة العالمية وكانت رأس حربة الاستعمار البريطاني في العالم .
هل سيعيد التاريخ نفسه ونشهد يوما جيوشا لشركات ميتا وجوجل للتحكم في امبراطوريات لم تعد مرتبطة بحدود جغرافية أصبحت من مخلفات ماضي ما قبل الثورة المعلوماتية .
التحول الجذري الثاني هو الذي تشهده النظرية الليبرالية بما هي ايدولوجيا الحرية كقيمة القيم. فمنذ ولادتها في بريطانيا في القرن الثامن عشر وانتشارها في العالم والركيزة الأساسية انه لا تناقض بل كل التكامل ما بين الليبرالية في تعبيرتها الاقتصادية اي الرأسمالية وبين تعبيرتها السياسية اي الديمقراطية.
هذا التكامل بين غصنين نبتا من نفس الجذع هو الذي أصبح مشكوك فيه منذ ثمانيات القرن الماضي عندما تحررت الليبرالية الاقتصادية من كل الضوابط لتعطينا راس مالية متوحشة اخر همها مصالح الشعوب ومصلحة الطبيعة. لذلك كتبت في التسعينات انه إذا كانت الشيوعية الد اعداء الديمقراطية في القرن العشرين فان الد اعدائها في القرن الواحد والعشرين ستكون الرأسمالية المتوحشة.
هذا الصراع الذي كان آنذاك جنينيا هو الان واضح وضوح الشمس في النهار. الا يقول كورتيس يارفين ان الديمقراطية هي المشكل وليس الحل؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تنتج حركات الاحتجاج ضد تدمير القطب الشمالي بحفريات البحث عن البترول والغاز، أو مواصلة تسميم الهواء والتسريع بكارثة التحول المناخي؟ كيف لا تكون المشكل وهي التي تحث شعب المواطنين في امريكا واوروبا على التصدي لهيمنة الشركات الكبرى على الفضاء الافتراضي بلا حسيب أو رقيب؟
من الطبيعي ان تكره الايدولوجيا الجديدة الدولة الديمقراطية وهي التي تضع الحد الادنى من القوانين الحامية لحقوق الطبيعة والعمال او للحفاظ على خصوصية الاشخاص وما تبقى لهم من حرية. إنها حجر العثرة الوحيدة المتبقية أمام زحف الرأسمالية المتوحشة.
ما نشهده اليوم عبر الايدولوجيا التي تسير ترمب وفانس وماسك، تحوّل الليبرالية الكلاسيكية الى ليبرالية استبدادية يتقدم فيها رجال الاعمال لإدارة شؤون العالم بدل سياسيين عالقين في منظومة ليبرالية ديمقراطية اصبحت عبئا على الرأسمالية.
انه الطلاق بالثلاث بين المكونين الاساسيين لليبرالية الغربية القديمة وتمازج مكونها الاقتصادي مع العنصرية الفجة والنخبوية المتطرفة أي أن ما نشهده اليوم في امريكا هو ولادة ايدولوجيا مستحدثة نتيجة التحولين ويجوز تسميتها بالليبرالية الفاشية.
*
ما تبعات ولادة هذه الايدولوجيا المخيفة علينا نحن العرب؟
كلنا ندرك الترابط بين وحشية الالة العسكرية الصهيونية والدعم الذي تلقاه من ادارة ترمب. لكن ما لا ننتبه له ان الصهيونية كما يجسدها اليوم نتنياهو ليست الا الصيغة الاسرائيلية للأيدولوجيا الشريرة.
هي تتغذى من نفس الافكار العنصرية الفجّة.
هي ايضا لا تؤمن الا بشرعية القوة وتسخر من قوة الشرعية.
هي ايضا تسعى لتطويع القضاء.
هي ايضا ادارت ظهرها للقيم الانسانية التي حاولت النخب التقدمية طوال القرن العشرين تشريعها لبناء عالم تجمعه افكار وقيم الاعلان العالمي لحقوق الانسان بكل بنوده واساسا البند 19 ,20, 21 التي تضمن الحق في الديمقراطية.
لقائل ان يقول إذا كانت الديمقراطية مبرمجة للانقراض في أقدم حصونها تدكها يوما بعد يوم الليبرالية الفاشية فما جدوى محاولة زرعها في بلداننا؟
لنذكر دوما بان الديمقراطية ليست حرية الراي والتنظم والانتخاب فهذه ادوات الديمقراطية اما الهدف الاول فهو وقف الاقتتال الدموي على السلطة بتنظيم التداول السلمي عليها اي ان اهم مخرجاتها السلم الاهلية. الى جانب هذا الانجاز العظيم هناك القاعدة التي أثبتها التاريخ المعاصر ألا وهي ان الديمقراطيات وحدها القادرة على تنظيم فضاء مشترك-نموذجا الاتحاد الاوروبي – وخاصة انها لا تحارب الديمقراطيات الاخرى مما يعني انها تلعب ايضا دورا هاما في السلم بين الدول.
والان تخيل تبعات توقف المشروع الديمقراطي عربيا وعالميا. على مستوانا ستتواصل الحرب الاهلية
الصامتة بين دول قامعة وشعوب مقموعة مع كل ما يعنيه الأمر من اهدار الطاقات في كل ما يضر ولا ينفع. عالميا بجانب تصاعد اخطار الحرب بين الامبراطوريات الاستبدادية اي امريكا والصين وروسيا والهند وتأثيره غير المباشر علينا، هناك امكانية عودة الاستعمار المباشر لأراضينا بما اننا سنعيش في عالم لم تعد فيه اي قيمة لقوة الشرعية وكل القيمة لشرعية القوة. من لا يضع في الحسبان احتلالا عسكريا اسرائيليا دائما لجزء يصغر أو يكبر من دول الطوق، من لا يتخيل مطالبة الهند بحقوق رعاياها السياسية في الخليج ، من لا يتوقع حصارا بحريا على شواطئ المغرب العربي لمنع الهجرة البحرية ، غافل أو متافل على أننا دخلنا مرحلة من أخطار مراحل التاريخ المعاصر.
ماذا اعددنا لمثل هذا العالم الذي يتشكل تحت اعيننا ونحن فيه أكثر من أي وقت مضى كالأيتام في مأدبة اللئام؟
هل المستقبل فعلا لنظام كالذي تبشرنا به سنغافورة ودبي تلاقت فيه الصين وأمريكا وروسيا والهند رغم تباعد نقط الانطلاق وتناقض المرجعيات القديمة والقاسم المشترك الاستبداد السياسي والحرية المطلقة رأس المال أكان رأس المال الخاص أو رأس مال الدولة الاستبدادية؟
هل يمكننا نحن الذين أتينا للمشروع الديمقراطي وهو في أخطر الأوضاع أن ننشد مع المتنبي
أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيبَتِهِ/ فَسَرَّهُم وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ
إذا أتتك كل هذه الأفكار السوداء تذكر أن مثل هذا النظام لن يتحرك في فراغ يدمر ويبني كما يشاء .هو سيرتطم بمقاومة جبارة بدأت ملامحها تتشكل في أمريكا عشية استلام ترمب السلطة وستتصاعد ما ستتصاعد في كل مكان. .إن قدر كل نظام سياسي الارتطام بنقيضه الذي لا يوجد بدونه وأن يكون الصراع بينهما أزلي وذلك لسبب بسيط .كل نظام سياسي أكان ديمقراطيا أو استبداديا لا يعكس إلا جزءا من الأبعاد الثلاثة للطبيعة البشرية التي سميتها الانسان المفترس والانسان الفريسة والانسان الفارس .
مما يعني أن كل انتصار للإنسان المفترس على الانسان الفارس أو للإنسان الفارس على الانسان المفترس في صراعهما على استعباد أو تحرير الانسان الفريسة هو دوما انتصار مؤقت . لذلك محكوم على السياسة أن تتواصل صراعا مريرا إلى آخر يوم من تاريخ الإنسانية .
بدون وهم لكن بدون احباط علينا فقط أن نستعد لأصعب وأشرس المعارك لنقوم بدورنا كسدّ للهمجية الجديدة وكقوى تعيد البناء على الخراب ألف مرة ومرة.