كلنا واعون بأن السابع من أكتوبر/تشرين الأول نقطة تحوّل في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي تاريخ كل الإقليم، وربما حتى في تاريخ العالم.
حدث كهذا الذي يسيل فيه إلى اليوم كمّ هائل من دم الشهداء يُسيّل أيضًا كمًّا هائلًا من الحبر، وهذه مجرّد بداية.
فتُجاه الملحمة- المأساة التي تعيشها غزة منذ ستة أشهر- هناك “قراءة” القلب، ونحن نشاهد الخراب والتقتيل العشوائي والتجويع المجرم. إنها المشاعر التي نعيشها كل يوم: الحزن أمام كل هذا التسونامي من الآلام، والغضب أمام تخاذل العرب – حكومات وشعوبًا- وعجز المنظومة الدولية عن إيقاف المجزرة، والفخر والاعتزاز أمام بطولة الشعب الذي لا يُقهر.
كل هذه المشاعر ستنعكس على رؤيتنا لهذه الحرب. علمًا أن لهذه الأخيرة قراءات متعددة، يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا حتى لا تحجب الشجرة عنا الغابة.
ذكاء فلسطيني
إنها وجهات نظر مختلفة لكنها متكاملة منها:
القراءة المخابراتية: أتصور أن كل مخابرات العالم تسخر اليوم من المخابرات الإسرائيلية التي أوهمت العالم – وخاصة أوهمت نفسها- أنّها تعرف كل شيء. ولا شك أن هذه الأخيرة ستحاول بكل الوسائل ترميم صورتها عبر مزيد الاغتيالات مثلًا. لكن كأس الزجاج إذا تهشّمت من المستحيل ترميمها. ولا شك أن بقية الوكالات العالمية بصدد دراسة معمّقة للذكاء الفلسطيني، وكيف تغلّب على ما كان يفترض أنه قمة الدهاء والمكر، وأي دروس يجب استخلاصها لتحيين مفاهيمها وتنظيمها.
القراءة العسكرية : أكيد أن مراكز التخطيط الإستراتيجي في الكثير من الدول عاكفة على مراجعة عقيدتها القتالية، وقد أظهر “طوفان الأقصى” قدرة مجموعة قتاليّة صغيرة على تمريغ أنف دولة نووية في التراب، وما الدروس التي يجب استخلاصُها في هذا الميدان أيضًا.
القراءة السياسية الإستراتيجية: إذا اعتبرنا أن الصراع الأميركي الصيني، تحديدًا، والصراع الغربي الروسي الصيني عمومًا محور الصراع العالمي اليوم، فلا شك أن كبار المحللين بصدد تقييم الضرر الفادح الذي لحق بالغرب؛ نتيجة دعمه الأعمى للعدوان الإسرائيلي وعجزه عن إيقافه، وكيف أنه بصدد فقدان معركة عقول وقلوب ملايين العرب والمسلمين لصالح الثنائي الروسي الصيني، الذي يعدّ أكبر منتصر في هذه الحرب؛ نتيجة موقفه من هذا العدوان.
القراءة التاريخية: لا شك أن هناك ما قبل “طوفان الأقصى” وما بعده، وأن المؤرخين بصدد إعداد أطروحات حول هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الصراع بين الصهيونية والأمة العربية.
ثمة قراءات عديدة أخرى، كقراءة المتشددين وعودتهم لنظرية صراع الحضارات، أو القراءة الاقتصادية للبحث في تبعات الحرب بعد اتّضاح هشاشة الطرق التجارية.
أضف إلى ذلك القراءة الأدبية، حيث لا شك أنّ كمًّا كبيرًا من الإبداع الشعري والروائي والفكري، سينتج عن كل الألم الذي يعيشه الشعب الذي لا يُقهر، وكل محبّيه من أبناء وبنات الأمة المقهورة.
ما أُريد عرضه في هذه المقالة قراءة ديمقراطي مزمن وغير تائب للملحمة المأساة.
والأمر ليس مرتبطًا بهموم باحثٍ في العلوم السياسية، وإنما بهموم الرجل السياسي المؤمن – ربّما عن حق وربما عن خطأ- بأنّ أحد أسباب كوارث شعوبنا فشلها في بناء نظام سياسي مستقر وفعّال وأقلّ الأنظمة سوءًا؛ أي النظام الديمقراطي، ومنخرط منذ عقود في النضال من أجل هذا النظام، ومهووس بسؤال مهم: هل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الضربة القاضية لحلم ولمشروع يترنّحان منذ انتصار الاستبداد على الثورات الديمقراطية السلمية التي سُمّيت الربيع العربي؟.
السؤال داخل السؤال: ما الذي تُعلّمنا الأحداث التي نعيش عن الديمقراطية، وحتى ما هي درجة مسؤوليتها فيما يجري تحت أعيننا؟
لاعبون أساسيون
للتعامل مع الإشكالية يجب استعراض وضع الديمقراطية بالنسبة للاعبين الأساسيّين؛ أي اللاعب الإسرائيلي والفلسطيني والعربي (المصري تحديدًا)، والغربي (الأميركي أساسًا).
بخصوص اللاعب الأول، يجب التذكير بأن إسرائيل محكومة بأغرب نظام سياسي في العالم. حيث تعيش تحت ثلاثة أنظمة سياسية من المفروض استحالة الجمع بينها.
هي دولة تحكمها ديمقراطية ليبرالية غربية كلاسيكية كالموجودة في بريطانيا أو أميركا، لكن لليهود فقط.
هي دولة تعيش تحت نظام أبارتايد واضح وصريح، إذ تعرّف نفسها كدولة لليهود. أي أن غير اليهود- وهم ربع السكان- مواطنون من درجة ثانية. تصور أميركا تُشرّع بكامل الوضوح أنّها دولة للبيض أساسًا، وفرنسا أنها دولة للمسيحيين قبل كل شيء.
هي أيضًا دولة استعمارية، كما يدلّ على ذلك احتلالها الضفةَ رغم أنف القانون الدولي، ودولة استبدادية، كما تدلّ على ذلك سياسة القتل والسجن، ونزع الأراضي خارج كل قانون إلا قانون القوة.
أي ديمقراطية هذه التي تضمن لمواطني الدرجة الأولى حقوقهم وحرّياتهم، بينما تحمي وتموّل احتلال شعب آخر؟!. نحن أمام ديمقراطية عرجاء، حيث لا وجود لنظام ديمقراطي حقيقي دون قيمه الأساسية: مساواة كل السكان مع نفس الحماية القانونية والحرية للجميع.
لكن مأزق الديمقراطية في إسرائيل ليس فقط ضربها للقيم الأساسية للديمقراطية. هو أيضًا إجرائي نتيجة آلية التصويت بالنسبية في الانتخابات البرلمانية. هذا النظام الانتخابي الذي يبدو ذروة الديمقراطية هو في الواقع مقتلها. أينما جُرّب إلّا وكانت النتيجة إمّا عدم استقرار سياسي، وإمّا تحكّم الأقلية في الأغلبية، حيث لا تُشكّل الحكومات إلا بصعوبة.
ويمكن للأحزاب الصغرى والهامشية أن تبتزّ الأحزاب الكبرى لفرض سياساتها. هذا بالضبط ما يحدث اليوم، حيث لا يُفهم تواصل الحرب دون فهم دور النظام الانتخابي في إسرائيل الذي جاء بأمثال بن غفير وسموتريتش القادرين على فرض أجندتهما المتطرّفة، ومواصلة الحرب في غزة والاستيطان في الضفة.
هكذا يمكن القول؛ إنّ طبيعة الديمقراطية الإسرائيلية – بتنكرها للقيم الأساسية للديمقراطية ونظامها الانتخابي الذي يمكّن الأقلية من فرض رأيها على الأغلبية – هي سبب من أسباب مأساة غزة خاصة أنّها بعد الرفض الواضح والصريح لحلّ الدولتين، لا تضع أمام كامل المنطقة إلا الخيار بين الحرب الدائمة والحرب الأزلية.
فشل الدمقرطة العربية
ماذا الآن عن اللاعب العربي والمصري تحديدًا؟
كلّنا نعرف أن المعابر كانت مفتوحة سنة حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي، وأنّه لو تواصل في الحكم لما وصل الضغط مستواه الرهيب والذي أدّى للحروب المتلاحقة، ومنها الحرب الأخيرة.
كلنا نعرف أن النظام المصري هو من يستطيع أن يرفع الحصار عن غزة ولم يفعل منذ صيف 2013 إلى اليوم.
هل كانت إسرائيل تجرؤ على أن تفعل بالفلسطينيين ما تفعله، لو كان هناك اليوم نظام ديمقراطي في مصر، ودعْنا نحلم، في أغلب بلدان المنطقة؟
هل كانت مثل هذه الأنظمة الديمقراطية المتخَيّلة قادرة على أن تُطبّع وتُحاصر وتفتح المعابر البرية لإسرائيل بعد غلق البحر الأحمر أمام سفنها، والحال أن الأغلبية الساحقة للشعوب ترفض مثل هذه السياسات؟
بديهي أن هذه الحرب هي نتيجة فشل الدمقرطة العربية ومن تبعات تصفية الربيع العربي، وأنها جزء من الفاتورة الرهيبة التي دفعها الشعب في سوريا وليبيا واليمن والسودان.
نأتي للفاعل الأميركي
كم غريبٍ أن يركّز الخطاب الغربي والأميركي؛ لتبرير الدعم الأعمى لإسرائيل، على حجة حق دولة نووية تملك أحد أقوى جيوش العالم في الدفاع عن نفسها، ولا حديث عن حق شعب محتل في الدفاع عن نفسه، ممّا يعني أن عليه قبول الحصار في غزة والاستيطان في الضفة والأبارتايد داخل حدود 1948، وإلا فإنه يوصم بالإرهاب ومعاداة السامية.
يبقى أن نتساءل: كيف يمكن للدولة الديمقراطية الأولى، تقديم كل هذا الدعم اللامشروط لدولة مارقة تتحدى كل الأعراف والقوانين الدولية، وترتكب كل يوم مجازر يندى لها الجبين، وملاحَقة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية؟
بطبيعة الحال ثمة أسباب عديدة لهذا الدعم، لكن السبب الأهم في قضية الحال ما يؤكده المحلل السياسي الأميركي “فنكلشتاين”، وهو يهودي، عندما يقول؛ إن مشكلة بايدن هي خوفه من فقدان المموّلين اليهود لحملته الانتخابية، ودعمه غير المشروط؛ بحثًا عن هذا الدعم.
نحن هنا أمام إشكالية عامة تعاني منها الديمقراطية في كل مكان، ألا وهي ارتهانها للمال والإعلام واللوبيات، وقدرة هذه القوى على ابتزازها.
أخيرًا وليس آخرًا اللاعب الفلسطيني
كعلماني حقوقي ديمقراطي لم أؤمن يومًا بأن الإسلام (السياسي) هو الحل. لكنني قلت دومًا لأصدقائي العلمانيين في الجزائر، وتونس، ومصر، وفلسطين، إذا قرّر الصندوق إعطاء السلطة للإسلاميين اُتركوهم يحكمون، فنحن من ربحناهم للديمقراطية، وليس هم الذين ربحونا للإسلام السياسي. إذا نجحوا فنجاحهم للوطن كله وإذا فشلوا فسيرحل بهم الصندوق الذي أتى بهم، وإذا رفضوا الانصياع لقواعد اللعبة التي أتت بهم للحكم، فهناك المقاومة المدنية.
وضع بائس
للأسف جزء من العلمانيين- الذين أعرف – مثل فريق كرة قدم مستعد أن يلعب شريطة أن يربح، وإلا فهو لا يعترف بالقواعد التي دخل على أساسها اللعبة. بل يمكن القول؛ إن خشيتهم من نجاح الإسلاميين كانت أقوى حتى من الأمل في فشلهم، ومن ثمة إستراتيجيتهم الانتحارية التي أدّت بهم للالتحاق بالاستبداد لينكل بهم تنكيله بالإسلاميين.
تصوروا لو قبل عباس بانتصار حماس، وتركها تحكم، هل كانت إسرائيل تستفرد بالضفة وبحماس لتروّض الأولى وتصفّي الثانية؟
عذابات أهلنا في غزة اليوم هي أيضًا نتيجة فشل الديمقراطية الفلسطينية.
من هذه القراءة السريعة، يمكننا أن نستنتج أن للديمقراطية دورًا مركزيًا في مأساة غزة، وإن بآليات ومداخل مختلفة، سواء بإجهاضها في مصر، وقتلها في رام الله، وإفسادها في إسرائيل، وابتزازها في أميركا.
السؤال الآن: ما تأثير الحرب على الديمقراطية وهي في مثل هذا الوضع البائس؟
لم يخطئ السناتور الأميركي برني ساندرز، وهو يهودي، بالقول؛ إن إسرائيل تتجه أكثر فأكثر لتكون دولة أصولية دينية، مما يعني أن حتى الديمقراطية العرجاء في إسرائيل قد تنتهي، ومعها تنتهي أسطورة واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط انتهاء أسطورة الجيش الذي لا يقهر، والموساد الذي يحصي دبيب النمل على سطح المريخ.
الثابت أيضًا أن هذه الحرب تضيف لمصاعب الديمقراطية في عملية الانتشار والتمكن في الوطن العربي. ما لا يبدو أن الإدارة الأميركية أخذته بالحسبان، هو أن موقفها المساند للعدوان الإسرائيلي يساهم في إضعاف حظوظ الدمقرطة في العالم العربي – هذا إذا اعتبرنا أن الأمر جزء من إستراتيجيتها – لأن الديمقراطية ما زالت في أذهان أغلب العرب مرتبطة بالغرب، ومن ثمة فكل ضرب لمصداقية الغرب هو ضرب لمصداقية الديمقراطية. مما يعني أن سياسة الانحياز الأعمى لإسرائيل هي على الأمد المتوسط والبعيد أحسن هدية لانتشار النموذج الروسي أو الصيني للحكم، وضربة لما تريده أميركا من تصدير ما تراه جزءًا من قوّتها؛ أي النظام الديمقراطي.
هل يعني هذا أن هذه الحرب أنهت بالضربة القاضية كل حلم ديمقراطي بجعل الخيار الصيني الروسي أكثر إغراءً للأجيال العربية الجديدة، ناهيك عن اقتناعها بأنه لا جدوى إلا للمقاومة المسلحة والقدوة حماس؟
انهيار الاستبداد
كل هذا ممكن، لكنْ ثمة شعاع نور في كل هذا الظلام. من جهة هناك الفشل الواضح للثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي وانهيار صورة الاستبداد؛ نتيجة جبنه وتقاعسه أمام مأساة غزة، مما يعني أن الحراك الثوري عائد إلى الساحة قريبًا بحفيظة أقوى ضد أنظمة يمكن القول فيها: “أسد عليّ وفي الحروب نعامة”.
هناك الشارع الغربي الذي يعج بالمتظاهرين ولا عنصريَّ فاشيًّا بينهم، وإنما كلهم من الديمقراطيين، وبينهم كثير من اليهود الذين لا يشترون البضاعة الكاذبة: معاداة الصهيونية هي معاداة السامية.
إن أكبر نصير لغزة اليوم هي القوى الديمقراطية في الغرب التي تتظاهر منذ أشهر في الشوارع، وفي كبرى الجامعات الأميركية والأوروبية، وهذا أمر له دلالات هامة، إذ يدلّ على أن الديمقراطية ليست مجرد آليات لتسيير الانتقال السلمي للسلطة، وإنما هي قيم إنسانية مشتركة وعميقة تمنع تحول الصراع بين دولة محتلة وشعب محتل إلى معركة عنصرية أو دينية تزيد الطين بلة، وتغطي على الجوهر الحقيقي للنزاع.
الاستنتاج الأهم الذي يجب أن نسعى لغرسه أنّه إذا أردنا ألا تتكرّر مآسينا، فيجب أن يكون لنا ديمقراطية غير فاسدة، غير قابلة للابتزاز لها آليات لا تنقلب أدوات قتلها. ويوم يكون لنا مثل هذه الديمقراطية التي تجعل منا شعوبًا من المواطنين لا شعوبًا من الرعايا، ويوم نستطيع أن نبني دولًا ديمقراطية تستطيع أن تبني بينها اتحادًا كالاتحاد الأوروبي، فلن تكون لنا غزة أخرى، ولن تصرخ امرأة في أي شبر من الوطن العربي إلا وهُرع لنجدتها ألف معتصم.
ليُسمح لي بأن أختم هذه المقالة ببعض الذكريات الشخصية.
في يونيو/حزيران 2012 حال وصول الرئيس الشهيد محمد مرسي لسدّة الرئاسة، قلت الآن يمكنني أحقّق حلمي بزيارة غزة كرئيس لتونس، لكن مستشاريّ تصدّوا كلّهم للفكرة؛ لأن زيارة غزة وحدها قد تُغضب رام الله، وقد تُدخلنا في صراعات داخلية كنا نريد نهايتها لا تغذيتها. أما الجمع بالذهاب أيضًا لرام الله فقد كان غير وارد لضرورة المرور بالإسرائيليين.
هكذا تخليت عن الفكرة بكثير من الحسرة.
وفي صيف 2015 قرّرت كمواطن المغامرة بركوب “سفينة الحرية” السويدية التي كانت تحمل ثلّة من النشطاء لمحاولة كسر الحصار. وفي عرض البحر ليلًا وفي مشهد هوليودي هاجمتنا فرقة كوماندوز وقادتنا من الغد لميناء أسدود، ومنه أخذتني سيارة لمطار تل أبيب ليركبوني أول طائرة متجهة لباريس.
ها أنا أكثر من أي وقت مضى بشوق إلى غزة، أحلم بألا يوافيني الأجل المحتوم قبل أن أقبّل ثراها، وأن أترحّم على شهدائها، وأن أعود مرضاها ومعاقيها، وأن أطلب صفحها عن تخاذل أمّة ما زالت تعاني من صدمة كل الإخفاقات، وأن أشكرها على أنّها رفعت رؤوسنا، وأنّها أكثر من أي وقت مضى رمز كل المفاخر وقدوة الأجيال.
الجزيرة نت
31/3/2024