نهاية تسعينات القرن الماضي كتبت مقالا لجريدة libération الفرنسية بعنوان لماذا نحتاج لمحكمة دستورية دولية؟
بالطبع لم تولد الفكرة من فراغ وإنما من الانتخابات المزيفة المتتالية لنظام بن علي ولعبثه المتواصل بالدستور الدي غيره أكثر من مرة باستفتاءات صورية آخرها الذي وقع سنة 2004 لكي يمدد في عدد الترشحات لرئيس الجمهورية. كل هذا في غياب وسيلة قانونية محلية أو دولية نلجأ إليها للطعن في سيناريو كان إهانة لذكاء الشعب وكرامته وحقه في التقييم الموضوعي لمن يحكمه والتداول السلمي على السلطة.
كانت فكرتي أنه لو وجدت محكمة دستورية دولية تتوجه لها منظمات المجتمع المدني في بلد منكوب بالدكتاتورية -وليس فيه بالطبع لا محكمة دستورية وطنية ولا قضاء مستقل-لنقضت هذه المحكمة الانتخابات المزيفة أو الاستفتاء المزعوم انطلاقا من وقائع لا لبس فيها وشهادات المراقبين الدوليين.
طبعا نحن لا نعيش في عالم مثالي يحكمه القانون ويمكن لمجلس الأمن فيه مثلا أن يعلن الحظر التام على النظام المخالف للشرعة الدولية وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لكن نقض المحكمة الدستورية الدولية للانتخابات المزيفة وللاستفتاء المزعوم كفيل وحده بنزع الشرعية الدولية عن النظام ولو معنويا ومن ثم تحفيز المعارضة الديمقراطية والمساهمة في الإسراع بنهاية الدكتاتورية.
كانت حججي في هذا المقال وما نشرته فيما بعد من مقالات وفي كل خطبي عن الموضوع أن التصدي للدكتاتورية بما هي اللعنة المسلطة على الشعوب لا تكون بعد الفاجعة بإحالة المستبدين أمام المحكمة الجنائية الدولية وإنما قبلها برفع كل شرعية محلية ودولية عن أنظمة استولت على طقوس الديمقراطية وآلياتها لتدمير الديمقراطية.
*
في تلك الفترة أي في نهاية التسعينيات كنت أبعد من تصور أنني سأرجع سنة 2011 من المنفى لأدخل قصر قرطاج أتابع نفس الحلم-المشروع …وأنني سأخرج يوما من قصر قرطاج أعود لنفس المنفى سنة 2021 مصرا على متابعة نفس الحلم-المشروع.
لقد شاء حسن طالعي أن تحملني ثورة الياسمين المجيدة إلى سدة الرئاسة لأدخل مكتبي ومعي جملة من الأحلام المشاريع أساسا اخراج مليوني تونسي من الفقر في خمس سنوات واستعادة بذورنا الأصيلة لتحقيق الأمن الغذائي والشروع في سياسة مائية لحماية الشعب من خطر العطش الدائم واسترجاع الأموال المنهوبة.
كنت أراقب أيضا بمنتهى العناية كتابة دستورنا الوطني والعمل من وراء الستار (عبر نواب حزبي في المجلس التأسيسي آنذاك المؤتمر من اجل الجمهورية) على أن يحمي الدستور الأجيال القادمة من الحكم الفردي أكان الفرد رئيسا مثل السيسي أو رئيس حكومة مثل أوربان وقبله هتلر وموسوليني.
وفي نفس الوقت كان مشروع المحكمة الدستورية الدولية من أولى أولوياتي في مستوى العلاقات الخارجية وبقي على مكتبي من اليوم الأول إلى مغادرتي الرئاسة.
لبلورة المشروع، كلّفت ابتداء من 2012 القاضي احمد الورفلي والأستاذ عياض بن عاشور وهو أكبر الأخصائيين التونسيين في القانون الدستوري بمتابعة الملف.
هكذا نظما في قصر قرطاج أكثر من اجتماع مع خبراء دوليين في القانون الدستوري لتعميق النقاش والدخول في التفاصيل التي يكمن داخلها الشيطان كما هو معروف.
سنة 2013 عرضت الفكرة لأول مرة في خطابي أمام الأمم المتحدة بمناسبة الجمعية العامة السنوية لرؤساء الدول.
سنة 2014 بنفس المناسبة سلمت مسودة المشروع للأمين العام السيد بان كي مون.
لم يكن خافيا عنّي أن مثل هذه الفكرة ستواجه برفض شديد من كل الأنظمة الاستبدادية الصغيرة والكبيرة وأن الإجراءات ستستغرق عقودا كاملة كما حصل مع المحكمة الجنائية الدولية وأنه لا شيء يضمن نتيجة كل المحاولات.
لكن، انطلاقا من قاعدة” كل الاحلام لا تتحقق لكن كل ما حققته البشرية من عظيم كان في يوم من الأيام حلما”، بدأت أعدّ قائمة العشرين دولة ديمقراطية التي كنت آمل أن تدعم مشروع الجمهورية التونسية من اجل محكمة دستورية دولية.
هل انتهى الحلم فجأة سنة 2014 وأنا أخسر الانتخابات الرئاسية تجاه ممثل الثورة المضادة السيد الباجي قائد السبسي؟
قلت المسالة أكبر مني ومنه فلأقابله لأسلّم له الملف لأن الحلم داخل الحلم أن تكون تونس مقر المحكمة الدستورية الدولية كما لاهاي اليوم مقرّ محكمة العدل الدولية وهذا حلم لا يمكن لأي رئيس تونسي إلا تبنّيه.
لكن الرجل كان أصغر من ان يقبل من خصم ملفا قد يحسب له وليس لتونس فرفض استقبالي والحال أنني استقبلته ابان رئاستي أكثر من مرة حتى وهو يقود ضدي أشرس الحملات.
هكذا دخل الملف الأدراج المكتظة بالأحلام –المشاريع التي اجهضتها الثورة المضادة وتتابع حكومات العجز والفساد التي بغضت الناس في الأحزاب وفي السياسة وفي البرلمان والتي مهدت الطريق للانقلاب على الديمقراطية صيف 2021.
*
ما أحوج مصر وتونس والكثير من البلدان الافريقية لمثل هذه المحكمة وقد عادت الافعى الاستبدادية وعدنا لها بالنعال.
كم مضحك مبكي أن تعود تونس إلى سيناريو كنا نظنّ أننا خرجنا منه نهائيا. إنها حقا لمأساة هذه الفترة التي تعيشها بلادي وقد عدنا لخزعبلات بن علي لكن بممثلين أكثر ركاكة وغباء واستغباء.
فبعد مهزلة الاستشارة الشعبية الالكترونية الفاشلة، والاجتماعات الصورية التي رفض عمداء كليات القانون المشاركة فيها، لم يبق على تلميذ السيسي إلا عرض نص جاهز قبل كل هذه التمثيليات السخيفة على ” الشعب” الغارق في هموم الفقر والبطالة والإحباط واليأس والهدف غير المعلن أن يشرّع الذين نزعت منهم كل سلطة للانقلابي الحق في التمتع بكل السلطات.
الدرس الذي يجب ان تعلمه التجربة التونسية أن الثورة التي لا تحصّن نفسها ضد أعداء الثورة والديمقراطية التي لا تنتصب بمخالب وانياب من البداية هي مجرد فاصل بين استبدادين.
والدرس الآخر أنه لا شيء حتمي أو نهائي في مجال الحقوق والحريات حتى بالنسبة لأعرق الديمقراطيات -الهند أو الولايات المتحدة نموذجا-وأن انتقال كل المجتمعات من طور شعوب الرعايا إلى طور شعوب المواطنين ومن دول حكم الفرد والعصابات إلى دولة القانون والمؤسسات نضال لا ينتهي.
الدرس الأخير ونحن نعيش عودة شرعية القوة داخل الدول وبينها، أننا إن لم نتجند داخليا وخارجيا لقوة الشرعية فإن هذا العالم سيصبح أكثر من أي وقت مضى غابا لا مكان فيه إلا لآكل ومأكول.
ومن ثم ضرورة تكثيف نضالنا داخليا ضد الاستبداد وهو مع العبودية والاستعمار ثالث آفات التاريخ ونضالنا خارجيا من أجل عالم تحكمه قوة الشرعية لا شرعية القوة والمحكمة الدستورية الدولية أداة من أدوات هذه الشرعية على الأجيال المقبلة فرضها يوما كما فرضت الأجيال السابقة المحكمة الجنائية الدولية.
ولا بدّ لليل أن ينجلي.