ا
بناء نظام سياسي مستديم
المعضلة الكبرى التي لم نجد لها حلّا منذ قرون هي إرساءُ نظام سياسي ثابت يمَكّننا من الحفاظ على وحدة المجتمع وسلمية حل صراعاته وتوجيه قواه للخلق والإبداع في كل المجالات. ولأن النظام السياسي هو الشرط الأول لكل هذا ولغيابه، ضَيّعنا كل هذه العقود في الحروب والعُقم الحضاري.
فالنظام الاستبدادي وريث أشكال تاريخية لا تُحصى منه، هو الذي غذّى ثورات الربيع العربي وهو الذي سيكون سبب الانفجارات المقبلة، ومن ثم لا خير يُرجى منه وإنما كل الشرّ، خاصة وأن بقاياه بعد كل ثورة هي مَن تقود الثورة المضادة.
لهذا الاستبداديون هم مجرمون مرتَين. الأولى عندما تكفّلوا بمصير الشعوب فقادوها للتمرد، والثانية عندما تصدَّوا -بأحقر الوسائل وأكثرها دمَوية- لِحقّها في إقامة نظام ديمقراطي اجتماعي سيادي، يَكفل لها الحرية والكرامة والرخاء، أي كل الأشياء التي فشلوا في تحقيقها.
المصيبة أن هؤلاء الاستبداديين استطاعوا التسلل والاستيلاء على مؤسسات الديمقراطية التي نأمل أن تكون هي الأداة للخروج من العنف والعقم، وتحويل وجهتها لخدمة مصالحهم كما تفعل الفيروسات عند دخولها الجسد.
القضية إذَن ليست إرساء أسس نظام ديمقراطي فحسب، إنما هي التعلُّم من كل الأخطاء التي صاحبَت مثل هذا الإرساء حتى لا تكون الديمقراطية مجرّدَ فاصلٍ بين استبدادين.
من أهمّ الدروس للتجربة التونسية والتي آمُل أن يضعها الديمقراطيون العربُ نصبَ أعينهم في كل مراحل بناء نظام سياسي مستديم وفعال:
1- منع الاستبدادين من اختطاف الآليات أو استعادتها
هذه الآليات هي الإعلام والتنظّم الحزبي ومؤسسات المجتمع المدني. جُلُّها بِيد العصابات المالية السياسية التي استطاعت -وليس فقط في تونس- استعمالها للتحكم في الديمقراطية.
يجب أن يكون لنا تشخيص دقيق لأسباب الاستيلاء وسهولته.
مصدر الداء هو الفساد الذي يجعل من بعض الإعلاميين ضمائر للكراء، ومن بعض الأحزاب شركاتِ سمسرة سياسية، ومن بعض مؤسسات المجتمع المدني مصدر رزق من المال الأجنبي يَتمعّش منه سماسرة القضايا الإنسانية أو المجتمعية الكبرى. النتيجة هي انتخابات تَتحدد نتائجُها بالقدرة على تضليل الناخبين بعدما أصبح حَشوُ الصناديق -مثلما كان الأمر في عهد الاستبداد- وسيلةً بدائية أُحيلَت للتقاعد.
لا تُستعاد الآليات المختَطَفة إلا بسياساتٍ تنظّف الإعلام والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات، من الفساد.
على الديمقراطية أن تحارب الإعلام الفاسد، ليس بالمنع والقمع فحسب، وإنما أساسا ببناء إعلام عمومي متميّز بنزاهته وموضوعيته.
نحن بأمسّ الحاجة لقانونٍ لا يعطي صفة الحزب إلا وفق كراس شروط منها، نظافة المؤسِّسِين، التزامٌ بالديمقراطية في التنظيم وفي البرنامج، عددٌ كافٍ من المنخرطين موَزعين على كل الوطن، برنامجٌ فعلي وفيه الجديد لحلول المشاكل وليس ترديد الشعارات المبتذلة، شفافية الميزانية ومصادرِ التمويل، فترة تربص لا تَقِلُّ عن سنتين ابتداء من وقت إيداع الطلب، إقامة مؤتمر تُحترم فيه كل شروط الديمقراطية.
فقط عندما تُحترم كل هذه القواعد يصبح الحزب معترَفا به ويصبح له الحق آنذاك في التمويل العمومي، لأنه يُعتبر هيئة ذات نفع عمومي، مع المراقبة الدائمة لميزانيته ولاحترامه قواعد الديمقراطية داخله وخارجه.
هكذا لن يُمْكن للمغامرين والفاسدين الانتصاب بين عشية وضحاها في السوق السياسية والحصول على عدد مهول من المقاعد في البرلمان، بالإعلام الفاسد وشراء الأصوات، مثلما حدَث مرارا في تونس ما بعد الثورة.
2- تربية وترشيد شعب المواطنين
لا بدّ من اعتبار الناخبين مستهلِكين لبضاعة سياسية يجب حمايتهم من اللصوص والمحتالين، بالضبط كما يُحمى المستهلكون للّحوم والخضروات من المواد المسمومة أو البالية. مثل هذه الحماية تبدأ منذ نعومة الأظافر، بالتربية والتعليم على قيَم ومؤسسات الديمقراطية. في انتظار هذه الأجيال الجديدة ثمة دَور هائل يجب أن تلعبه هيئاتٌ مستقلة تُراقب الإعلام والإرشاد الديني بأكبر قدر ممكن من الضمانات حتى لا تكون الانتخابات مقامرة خاسرة وهي اختيار المخدوعين بين كم من المخادعين.
3- سَنُّ قانونٍ انتخابي يَقضي بحكم الأغلبية
بعد الثورة في تونس اعتمدت هيئة الانتقال الديمقراطي قانونا انتخابيا بالِغَ الخبث، كان يبحث وراء ستارِ تمثيل كل التيارات السياسية عن منع حركة النهضة من الأغلبية، ومن ثم يمنعها من تشكيل حكومة بأغلبية إسلامية. كان مَوقفي يومها، ليكن، لتحكم النهضة؛ إن نجحَت كان ذلك نجاح البلاد وإن أخفقت فالديمقراطية التي أتت بها ستذهب بها لتستبدلها بحكومة متجانسة أخرى.
للأسف لم يُسمع لي صوتٌ ووقع المحظور الذي لا زالت تونس إلى اليوم تعاني منه، حيث لم يتجاوز عمرُ أي حكومةٍ سنةً ونصف؛ وأيُّ حكومة قادرة على إنجاز شيء في مثل هذا الظرف؟ أما البرلمان بتشتته وصراعه الدائم بين القبائل وأفخاذ القبائل، فقد أصبح محلَّ ازدراء الشعب وربما أكبر مُسهِّل لعودة الاستبداد.
كل هذا كان متوقعا والعديدُ من التجارب تُثبت أنه لا استقرار لبلدٍ ولن تتَفرَّغ حكومةٌ لِـمُهمتها إلا ببرلمان يتحاور ويتنافس فيه حزبان، كما هو الحال في بريطانيا وأمريكا والهند؛ أو في أقصى الحالات ثلاثة أو أربعة أحزاب كما هو الحال في فرنسا وألمانيا؛ وما عدا هذا نعمةٌ تحوّلت لنقمة.
4- وضع شروط صارمة وموضوعية للترشح
لا يخطر ببال أحد أن يركب طائرةً لا يتمتع قائدها بخبرة طويلة وسهرَت على تكوينه شركته ومن قَبلها مدرسة عريقة في الطيران. لا أحد يأخذ أمه لطبيب لمجرّد أنه شابّ وأنيق المنظر، ولا يخطر ببال جامعة عريقة أن يترأسها مجهول خرج من العدم وليس له أدنى شهادة علمية. هذا ما يقع بالضبط لقيادة المجتمعات والبلدان، وهذا الخلل هو الذي تسمح به الديمقراطية وهو أهم مصدر من مصادر وَهَنها المتعاظم.
هنالك على الأقل ثلاث متطلبات لكي تُستغَل القِوى البشريةُ أحسن استغلال في تسيير النظام.
– الشرط السياسي: لا شيء أصعب من ممارسة السياسة بما هي فنّ تسيير شؤون المجتمع لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأمن والاستقرار والتوزيع العادل للثروة والسلطة والاعتبار، وبأقل قَدر ممكن من العنف. إنه فنّ لا تُدرّسه أيّ جامعة باستثناء جامعة الحياة، وهو لا يُكتسب إلا بخبرة لا تَقِلُّ عن عِقد أو عقدين في العمل الجماعي سواء داخل الأحزاب أو داخل النقابات أو منظمات المجتمع المدني.
عَجبي لمَن يُسمون أنفسهم بالمستقلين والذين يُقدّمون جَهلهم بالسياسة واحتقارَهم لها كأكبر وسام على صدورهم. إنه عجب لا يقل عن عجبي لمن يُصوّت لهم في الانتخابات وهم كمن يبحثون عن حَل لمَرضهم عند دَجّال بدل البحث عن طبيبٍ أحسن من الذي خيّب آمالهم.
ثمة إذن تفكير جماعي معمّق ينتظرنا لإعادة صياغة القوانين القديمة، والهاجسُ حمايةُ النظام من الانتهازيين والمغامرين ومن البالونات التي يصنعها الإعلام المأجور حتى لا يتقدّم للفوز بثقة المواطنين إلا مَن تَحققت فيهم الشروط الثلاثة، وإلا فالنتيجة مَزيدٌ من إنهاك شعوب مُنهَكة وأحيانا قيادتها إلى الهاوية تحت راية “طبّها فعماها”.
– الشرط الأخلاقي: يجب أن يكون المرشح لأي مسؤولية خالٍ من كل رذيلة سياسية، بما معناه أنه لا يمكن أن يكون فاسدا أو مناصرا للاستبداد داخل البلاد أو خارجها، وإلا لكان الأمر مثل إدخال جرثومة في جسم غير ملقّح.
– الشرط المهني: أخطر الناس على النظام مَن ليس لهم إلا مهنة السياسة، وأكثرهم نفعا من أعطوا الكثير للمجتمع في ميدانهم المهني وتألقوا فيه، فخبرتُهم المهنية أحسن ضمان لجديتهم ولسرعة تَعلّمهم لمواجهة المشاكل الضخمة للمسؤوليات الكبرى.
5- تمديد وتحديد مدة التفويض
قَلّ مَن يعرف سبب منع الترشح للانتخابات الرئاسية أكثر من دورتَين كما ورد في الدستور التونسي (وفي أغلب الدساتير الإفريقية وهو ما يتسبب في صداع متواصل للكثير من الرؤساء الأفارقة المضطرين لتغيير الدستور الذي تعهدوا بالالتزام به في بداية أول عهدة).
إنه جورج واشنطون أول رئيس أمريكي 1789) -1797) الذي رفض عهدة ثالثة، أرهقه المرض وأصابه القرف من كثرة الهجوم عليه. ولأنه كان مؤسس الجمهورية كان يُقال لكل راغب في دورة ثالثة: هل تحسب نفسك أعظم من واشنطن؟
لكن هل من المقدّس تحديد سقفٍ مِن دورتَين لمجرّد حادث تاريخي بطلُه رئيس أمريكي مرهَق؟
ما تظهره التجربة أن الدورة الثانية هاجس كل رئيس وكل برلماني، مِن منتصف العهدة الأولى وحتى قبل. هكذا يتراجع هدف الخدمة العامة للموقع الثاني والرجلُ مُقحَمٌ رغم أنفه في لعبة البحث عن التحالفات والدعم والرضَى، أغلب الوقت على حساب التفرغ الكامل للقضايا المصيرية والتخطيط للمصالح الحقيقية البعيدة المدى والتي تتطلب تضحيات بالشعبية وبِرضى هذا اللوبي أو ذاك.
الحلّ؟
لتحرير السياسي -أكان رئيسا أو نائب شعب أو رئيس بلدية- مِن هاجس الدورة الثانية، يجب أن يكون التفويض بعهدة واحدة. ماذا عن سلبيات خيار كهذا؟ مجددا لا وجود للحل في المطلق وإنما لأقل الحلول سوءا.
ما تُظهره تجربة الحكم أنه إذا كانت هناك قراراتٌ شجاعة وضرورية تَكفل قدرا من الشعبية، فإنّ أغلب القرارات الشجاعة والضرورية لا تجلب إلا المشاكل والسخط والغضب، من هذا القطاع أو ذاك من المجتمع. وحدها العهدة الواحدة قادرة على تحرير السياسي من الضغوطات والابتزاز، وتجعل كل جهده مركّزا على عمله ولا تثنيه عن خياراتٍ صعبة لا بد منها لمصلحة الجميع ولا يَقدر عليها إلا مسؤولٌ تَحرّر ولو نسبيا من ضغط الحاضر.
لكن، أليس من الممكن أن نُبتَلى بمسؤول كسول لا يفعل سوى التمتع بعهدته، أو كارثة تَمشي على قدمين فَشلَت كلُّ تقنيات الاختيار في منعه من الوصول إلى مركز القرار؟
نعم، خطرٌ كهذا وارد. لذلك يمكن أن يُطالَب رئيسُ الجمهورية، نائبُ الشعب، رئيسُ حكومة، وزير، رئيس البلدية، أن يتقدم في منتصف عهدته بجدولِ ما فعل وما حقق. هو سيتقدم بتقريره هذا إلى البرلمان إذا كان رئيسا أو رئيس حكومة، إلى رئيس حكومة إذا كان وزيرا، إلى منظوريه إن كان رئيس بلدية، ليَتمَّ السماح له بالمواصلة أو إعفاءه.
ماذا لو جَنحَ للكسل أو التسلط في النصف الثاني من العهدة؟
هنا أيضا يمكن تقليل الأضرار وكلُّ مسؤول يعرف أنه سيُطالَب عند نهاية العهدة بتقرير وافٍ عن كل ما قدّم، وأنه سيتلقى الشكر والتهاني وسيوضَع اسمُه للتاريخ في السجل الذهبي لخدمِ-أسيادِ القوم، أو يُرفض له الشكر وحتى تُقدَّم له لائحة لَوم وإدانة تبقى وصمة عار في سجله.
ماذا عن الـمُدة؟ يجب أن تُتيحَ للرئيس أو للحكومة أو للمجلس البلدي زمنا كافيا للتفكير المعمّق والعمل الهادئ والتخطيط بَعيدِ المدى والوقتِ المناسب لمتابعة تقدم الملفات، ويبدو لي أن فترة سبع سنوات تَفي بذلك. أَضِف لهذا أننا بمثل هذا التمديد لفترة التفويض سنوفر على المجتمع عدم الاستقرار الذي تعاني منه كل الديمقراطيات، ناهيك عن تبذير المال والجهد المُصاحِبِ للانتخابات السريعة المتلاحقة.
6- التنسيق الدائم مع الحاضنة الشعبية
إذا أردت أن تعرف طبيعة أيّ دولة بِغضّ النظر عما تَصف به نفسَها انظر علاقتها بمنظمات المجتمع المدني.
القاعدة: إن اعتبرَتها عدوا يجب محاربته أو منافسا يجب احتواؤه فأنت أمام دولة استبدادية أو ديمقراطية مزيّفة. إن رأيت أنها تتعامل معها كشريك وكدعامة فاعلم أنك أمام دولة ديمقراطية حقيقية.
لا غرابة في الأمر فالدولة الديمقراطية لا تتقدم في تحقيق أهدافها -مثل محاربة الفساد أو الفقر- إلا بشراكة حقيقية ومستمرة مع منظمات المجتمع المدني، شريطة أن تكون محرّرَة من الفساد أو من ابتزاز التمويل الأجنبي. معنى هذا أنه لكي يصلب عود ديمقراطيتنا الناشئة يجب أن يكون لكل مؤسسات الدولة -مِن الرئاسة إلى مختلف الوزارات والبلديات- عقودُ شراكة دائمة مع منظمات جدّية تدعمها ماديا وتنسق معها في كل المجالات ذات الاهتمام المشترك.
7- وضع وتعهّد آليات الرصد المستمر
كما لا وجود لجسم محصّن إلى الأبد من الفيروسات وكما تتأقلم الفيروسات لتَجِد دوما مَنفذا إلى الخلايا تُدمّرها، فإن علينا اعتبار نظامنا الديمقراطي -مهما أدخلنا عليه من الإصلاحات- مهددا على الدوام، من داخله بالانتهازيين ومن خارجه بالاستبداديين.
لذلك من الضروري أن نوجِد هيئة ما لمراقبة وضعه الصحي واقتراح وسائل العلاج والوقاية قبل فوات الأوان.
يجب أن تتكوّن هذه الهيئة ممن يعرفون جيّدا المنظومة وأصبحوا خارجها، مثل الرؤساء السابقين أو كبار القضاة والإعلاميين والجامعيين ورجال الدين المتقاعدين. لا بدّ من إعطائها صيغة قانونية وإمكانيات العمل لمراقبة آليات ومؤسسات النظام الديمقراطي، وتَتبُّع الشروخ ورصد الأخطار. حتى لا تنتهي تقاريرها السنوية في الرفوف الـمَنسية يجب أن تُمنحَ سلطةَ التوجه للشعب بتقييمها السنوي، كما يجب أن يعطيها القانون المؤسِّس حقَّ عرض مشاريع قوانين مباشرة على البرلمان، لتلافي النواقص وتفادي الأخطار المرصودة.
بمثل هذه القواعد وبمراجعتها دوريا على ضوء ما تفعله بها التجربة، يمكننا أن نأمل بديمقراطية طويلة العمر كما نأمل لجسم يافع بعمر مديد إن توفرت له جل شروط الصحة، وأغلبُها شروط القدرة على مقاومة الأمراض والأخطار التي لا تترك كائنا من لحم أو دم، أو مؤسسة أفكار وقيَم بمأمن من مِحَنِ وامتحانات الحياة.
**