عَمَّ نتحدث ونحن نستعمل مفهوم الإصلاح؟ في ثقافتنا العربية الإسلامية أساسا عن مقاومة الفساد في الدولة والمجتمع.
لنترك زاوية النظر هذه للدعاة الدينيين والسياسيين، ولنتناوله من وجهة نظر أخرى؛ من وجهة نظر الطبيب وميكانيكي السيارات.
أمام مصاب بالسكري المطلوب من الطبيب التعامل مع تبعات خلل بُنيوي مزمن في جسم المريض، يجعله غير قادر -لنقص في إفراز هرمون الأنسولين- على التعامل الصحيح مع استهلاك السكر. أما أمام مريض أصيب بكسر في الساق هو مطالب بالتعامل مع تبعات عطب طارئ في جسم سليم مبدئيا.
الشيء نفسه عند ميكانيكي السيارات، الذي قد تَطلُب منه الشركة المنتجة استدعاء نوع معين من سياراتها؛ لظهور خلل هيكلي في قطعة ما، وضرورة استبدالها بقطعة صالحة. أو سنراه يُصلح زجاجا تهشم إثر حادث طريق.
لنقُل إذن في مقاربة أولية، إن الإصلاح هو معالجة كلّ خلل بنيوي أو عطب طارئ في أي منظومة، وذلك حتى تتمكن من أدائها لمهمتها بكيفية مرضية. وفقا لهذا التعريف اتخذ الإصلاح منذ بداية التاريخ المعروف أشكالا جِدّ متباينة تعمل على 3 مستويات.
عندما يتعلق الأمر بإصلاح منظومة بحجم مجتمع بأسره؛ بل حتى الإنسانية جمعاء، وعندما يشخص الخلل البنيوي في الطبيعة البشرية، التي يجب إحداث تغيير جذري في مواقفها وتصرفاتها، فأنت أمام حركة إصلاح بالجملة وفي العمق؛ ومثل هذه الحركة في مثل هذا المستوى وبمثل هذا الطموح تسمى الدين.
الخاصية الأساسية للإصلاح أيا كان مستوى طموحه وميدانه، أنه عملية لا تتوقف، وإن كانت وتيرة الأشكال التي يتخذها مختلفة.
ما نسميه الإصلاح الديني شيء مختلف. فالعيب الهيكلي، الذي يجب إصلاحه في تلك الحالة، هو في سوء الفهم والتطبيق للدين المُنزَّه عن أن يكون مولودا بتشوهات خلقية، وكل المطلوب العودة للنموذج الصافي والراقي، الذي عرفه الماضي حتى يمكن بناء المستقبل (البروتستانتية في المسيحية والوهابية في الإسلام).
على الطرف الآخر من الطَّيف؛ أي على مستوى الفرد، تقتصر عملية الإصلاح على محاولة تغيير تصرفات الذات وتصرفات الأقربين؛ لتحقيق الحد الأدنى من المصالح، بغض النظر، وأحيانا بإدارة الظهر لمجتمع ميؤوس من صلاحه.
بين هاتين الحالتين القصوَتين ثمة الثورات والانقلابات والإضرابات وصراع الأيديولوجيات والأحزاب، لإصلاح هذا النظام السياسي أو ذاك، هذه الطريقة أو تلك في توزيع الثروة، هذا التنظيم أو ذاك لتوفير الخدمات الصحية، التعليمية، الإدارية.. إلخ. الخاصية الأساسية للإصلاح أيا كان مستوى طموحه وميدانه، أنه عملية لا تتوقف، وإن كانت وتيرة الأشكال التي يتخذها مختلفة.
نحن لا نرى ظهور دين جديد كل عقد أو عقدين من الزمن، وإنما إلى حد الآن كل بضع مئات من السنين. يخطئ من يظن أن الشعوب انتهت من هذا النوع من “الإصلاح بالجملة”. مَن كان يتصور، وهو ينظر للعالم من أسوار بابل 2300 سنة قبل المسيح، أنه سيولد للعالم أديان اسمها اليهودية والزرادشتية المسيحية والإسلام والبوذية؟ من كان يتصور في القرن الخامس الهجري، وهو ينظر للعالم من أسوار بغداد، أن العالم سيعرف ديانات بدون إله اسمها الليبرالية والماركسية؟ واليوم نحن ننظر للعالم من علوّ ناطحات السحاب، مَن يعرف أي ديانات ستظهر خلال الألفَي سنة المقبلة؟ وهل سيفعل التاريخ بالديانات التي نعرف، ما فعله بديانات الفراعنة والإغريق والمايا، وكانوا كلهم يؤمنون بأن الزمن سينتهي ولن تنتهي معتقداتهم؟.
الشيء نفسه عن الإصلاحات السياسية، حيث لم يتوقف إصلاح الأنظمة والقوانين والمؤسسات طوال التاريخ، والحبلُ على الجرار. من منا يستطيع التنبؤ بالشكل الذي سيتخذه الاستبداد، أو على أي حال ستكون الديمقراطية سنة 2220، وما الأنظمة الهجينة التي ستَخرج من مخيّلة المصلحين في القرون المقبلة؟.
في السياق نفسه، أيّ نظم اقتصادية سيجربها العالم بعد انهيار الرأسمالية وفشل الاشتراكية وبداية تجريب الاقتصاد التضامني؟. بدهي أن الحراك المستمر، الذي يوَلد الأديان والثورات، وتَعاقب الوزارات التي تَعِد بإصلاحات جذرية نهائية للتعليم للصحة للاقتصاد.. إلخ، ناجم عن صعوبات كبرى وعوائق جمة، هي التي ترتطم بها كل المحاولات الإصلاحية، والتي يجب أن نتوقف عندها الآن.
الإصلاح الأكبر بالنسبة للمجتمع ككل، هو التوزيع العادل للثروة والسلطة والاعتبار، بدون وصاية أو إقصاء لمجموعة أو لفرد. هدف كهذا مثل محاولة تربيع الدائرة؛ أي إنه مَنطقيا غير قابل للتحقيق. بخصوص الثروة ثمة 3 أسباب قاهرة.
1- الندرة: إن الكميات المتوَفرة من الموارد المادية في المجتمع غير قادرة على أن تجعل من كل الناس أثرياء، وهو ما يريده أغلبهم؛ مما يجعل المجتمع دوما في حالة عدم توازن طبقي يغذي كل محاولات إيجاد توازن مقبول لدى الجميع.
2- ازدواجية أدوات الإنتاج: القاعدة أن كل تكنولوجيا تفرز إلى جانب إيجابياتها كمًّا هائلا من التداعيات السلبية، التي يمكن تلطيف بعض تبعاتها؛ لكن لا يمكن إصلاحها بالكامل، والإصلاحُ الوحيد الناجع هو إلغاء هذه التكنولوجيا واستبدالها كليا، وهو الأمر المستحيل.
3- طبيعة الإنسان: هذا الكائن المعقد، الذي يتخذ كل الإستراتيجيات الممكنة لتحقيق حاجياته وطموحاته مستعمِلا الأخلاق، أين تقضي الأخلاق حاجته، ومستعملا كل الوسائل غير الأخلاقية عند الضرورة، وكل تصرفاته محكومة بهذا المزيج الدائم من الأخلاقي وغير الأخلاقي؛ مما يجعله يطالب بالإصلاح، الذي يصلح به حاله، ويقف حجر عثرة في وجه كل إصلاح يتناقض مع مصالحه.
اعتبر الآن قضية توزيع السلطة في مجتمعات متزايدة التعقيد. من المستحيل على أي مجتمع منظم أن توزع فيه السلطة أفقيا وبالمساواة بين كل الأفراد. جيش ليس فيه إلا الجنرالات ليس جيشا، وإنما سيركا مسلحا.
خذ أخيرا قضية الاعتبار. من أين للفرد أو للمجموعة التميز إن لم يكن على حساب الآخر والآخرين؟ إن وجود الاعتبار قيمة يَفترض بالضرورة وجود أناس لا قيمة لهم، حتى تتسنى المقارنة ويبرز الاعتبار الذي يحظى به البعض. مَن يقبل بظلم كهذا؟ يبدأ البحث عن سبل توزيع الاعتبار أو المطالبة به عبر عملية جديدة لتربيع الدائرة، وكلُّ إصلاح يترك بالضرورة كمّا من البشر لا بد من وجودهم في حال أدنى؛ ليبقى للاعتبار والبحث عنه معنى.
ثمة طينة خاصة من البشر نسميهم الإصلاحيين. لقد تتالى على خشبة المسرح أجيال من الممثلين الذين أدوا دور هاملت، كل بأسلوبه الخاص؛ لكنهم كلهم واجهوا صعوبات النص نفسها والنهاية نفسها. كذلك الأمر مع المصلحين.
إذا كان إصلاح المجتمع بالجملة وفي العمق مستحيلا أو قل بالغ الصعوبة، فهل إصلاح الأنظمة التي تخدمه، ولا يعيش بدونها أسهل؟ اعتبر الأنظمة السبع الضرورية لكل مجتمع: النظام السياسي والاقتصادي والصحي والتعليمي والأمني والقضائي والثقافي.
كلها مبنية بالطوب نفسه؛ أي الموارد البشرية والموارد المادية والقوانين والمعرفة والقيم، لتنفيذ سياسات لها أهداف معلنة (تحقيق الصالح العام) وأهداف خَفية (تحقيق الصالح الخاص).
خذ مثالا؛ النظام الصحي والمشاكل المزمنة، التي يسعى باستمرار لحلها. هل الموارد البشرية موزعة بكيفية عادلة على كامل أرض الوطن؟ هل الموارد المادية كافية ومن أي جيب يجب أن تؤخذ؟ هل القوانين المنظمة للقطاع عادلة وفعالة ومطبقة؟ هل ثمة قدْر عالٍ من الكفاءة والتدريب لدى كل الفاعلين، تكوينا أصليا وتكوينا مستمرا؟ هل القيم التي تسند النظام محترمة من كل المنتفعين منه، أكانوا مرضى أم أطباء أم إداريين؟
مِن نافل القول إنه لا يوجد نظام صحي أو أي نظام مجتمعي آخر يمكنه الردّ بالإيجاب القطعي على أي من هذه الأسئلة، فما بالك بها مجتمعة، وذلك للنقص المزمن بالكفاءة العالية؛ لندرة أو لسوء استعمال الموارد أو للصراعات بين كل الفاعلين.. إلخ، ومن ثم الإصلاحات التي لا تتوقف عند تغيير هذا الوزير أو ذاك، عند التخلي عن هذه السياسة أو تلك، بعد الانقلاب أو الثورة.
وراء هذا الإمعان في محاولة تجاوز نواقص هيكلية وطارئة ثمة طينة خاصة من البشر نسميهم الإصلاحيين. لقد تتالى على خشبة المسرح أجيال من الممثلين الذين أدوا دور هاملت، كل بأسلوبه الخاص؛ لكنهم كلهم واجهوا صعوبات النص نفسها والنهاية نفسها. كذلك الأمر مع المصلحين.
سواء أكان نبيا أو رجلا سياسيا أو مجرد واعظ في قرية على هامش التاريخ والجغرافيا، فإن المصلح سيواجه بالتركيبة الاجتماعية نفسها، والخطورة نفسها على ما هو مُقدِم عليه، وغالبَ الوقت النتائج نفسها على الأمد القصير والمتوسط والبعيد.
هو سيرتطم بالأقلية المنتفعة بالوضع -مهما كان ذلك الوضع ظالما- لا يهمّها شقاء العبيد وبؤس العمال وفقر الفلاحين، وما يجري في أقبية التعذيب. فمِثل هذا الوضع على اختلاله -بل قُل بفضل هذا الاختلال- هو الذي يسمح لها بالظفر بأكبر قدر من كعكة الثروة والسلطة والاعتبار. هي لا تقيم أيّ وزن للاعتبارات الأخلاقية، التي تحرك المُصلح؛ لأن البشر كما قُلنا يستعملون الأخلاق إن تماشت مع مصالحهم، ويضربون بها عرض الحائط إن وقفَت في وجه هذه المصالح؛ إلا مَن رحمَ ربك، وهم الأقلية التي سنجدها في صف المُصلح، وقد غلبت داخلهم الدوافع الأخلاقية على الغريزة اللاأخلاقية، التي تنام داخلهم هم أيضا بعَين واحدة.
من البدهي أن هذه الطبقة سترى في المُصلح خطرا عليها، وستحاربه بكل ما تملك من قوة وبكل الوسائل. قد تعلّقه على خشبة كما فعلت مع السيد المسيح، وقد تغتاله كما فعلت مع غاندي، أو تضعه في زنزانة ضيقة 27 سنة كما فعلت مع مانديلا، أو قد تكتفي -إن لم يكن شديد الخطر- بطرده من عمله وسجنه مدة أو إخراجه من القرية، وقد تكاتف ضده الأسياد.
إذا تعلق الأمر بإصلاح الأنظمة الاجتماعية، فإن المُصلح سيحارَب هنا أيضا حربا لا هوادة فيها، خاصة من زملائه الأعزاء، الذين سيرون فيها مصدر إزعاج متواصل وتهديد لفتات السلطة والثروة والاعتبار، الذي تَحصّلوا عليه من أسيادهم. هم أيضا سينكلون بالمصلح بكل ما يقدرون عليه من إيذاء إلى أن يطردوه أو يفر بجلده من المؤسسة، التي جاهد حتى لا تَسقُط يوما على رؤوس مُضطهديه.
ماذا الآن عن الأغلبية المتضررة من الوضع، التي يجاهد المُصلح من أجلها؟ هنا يجب التفريق بين 3 مجموعات.
الأولى هي التي ستلتحق بالمُصلح لتكون سنده الأول (الحواريون في المسيحية والصحابة في الإسلام).. وفي الأحزاب السياسية المنخرطون في معركة يرونها معركتهم.. وفي الصراع داخل المؤسسات “الزملاء الأعزاء”، الذين يقاسمون المُصلح سخطه على الوضع ومقترحاته لتحسينه، ومستعدون لمشاركته في كل التضحيات. المشكلة أن عدد هؤلاء الناس جدّ ضعيف في البداية، وهو يكبر ويصغر حسب الظروف؛ أي حسب شراسة المعركة مع النخبة وعبيدها.
نأتي هنا للمجموعة الثانية، وهي المجموعة “الخائنة” لمصالحها، والتي ستُجنّدها الأقلية الفاسدة لمحاربة المُصلح، وشرها عليه أكبر من شر كبار الطبقة المهيمنة. هؤلاء الناس هم صورة في المرآة “للخونة” الآخرين، الذين خانوا مصالح طبقتهم للالتحاق بالمُصلح، وهو ما يؤكد مرة أخرى التعقيد البالغ للعلاقات المجتمعية، التي لا يمكن أن تُختزل في مقاربات كاريكاتيرية بين الشعب المقدّس بكل مكوّناته والطبقة المهيمنة الشريرة بكل مكوناتها.
أخيرا لا آخرا المجموعة الثالثة، وهي الأغلبية المتضررة من الوضع، سواء أكان شعبا بأكمله أو مئات الآلاف من مستعملي النظام الصحي أو التعليمي. الحالة الغالبة أن هذه الأغلبية لا تؤدي أيّ دور، وذلك راجع لانشغالها بالصراع من أجل البقاء، ولقلة الوعي، ولتضليل متواصل من الأقلية المتسلطة. هي ستبقى في موقف المتفرج. إن حالف النصر المصلح صفقت له، وارتمت في أحضانه، وإن خانه الحظ أدارت له ظهرها بانتظار أن تقيم له التماثيل بعد موته، وقد يصل بها الأمر إلى عبادته.
قدر المصلح إذن من البداية إلى النهاية الصراع المرير مع طبقة دينية أو اقتصادية أو سياسية، لن تترك أحدا يمس مصالحها دون أن تجعله يدفع ثمنا باهظا؛ مما يعني أن على كل مَن يدخل مغامرة الإصلاح أيا كان الميدان والمستوى ألا ينتظر -من البداية إلى النهاية- إلا لسع السوط ووخز المسامير، وما تَقدر عليه الألسن من فظيع الشتائم والتهم. الأدهى والأمر أن عليه أن يقبل بأنه لن يرى ثمار جهده في حياته. وحدهم تلامذته -إن بقي له تلامذة ومُريدون- من سيقررون هل نجح في زحزحة الجبل خطوة أم أن جهوده كلها ذهبت سُدى.. الأكثر وجعا لو بُعثَ حيا ليكتشف أن ما جاهد لإصلاحه فَسَد هو الآخر بسرعة، وأن أنصاره هم من يضطهدون الآن شخصا يشبهه في كل شيء.
المصلحون في كل زمان ومكان، وهم من الأزل إلى الأزل حطب النار التي تضيء وتشيع الدفء.. للآخرين.
لسائل أن يسأل، أين تُريد الوصول بنا؟ إلى الكفر بالإصلاح، ونحن ننشده ونأمل منه كل خير؟ طبعا لا. صحيح أنه بعد ألفي سنة ما زالت الثورات والحركات الإصلاحية تتتالى بلا توقف. لكن تصور لو لم يواجه المصلحون في كل عصر العيوب والنواقص، التي تنخر مجتمعاتهم لربما كنا إلى اليوم نرزح تحت نظم العبودية والملكية المطلقة والاستعمار المبشر، وغياب الحد الأدنى -في كل المجتمعات- من حقوق المرأة؟
من حسن الحظ أن حَسن العطار، محمد عبده، فرح أنطون، الطهطاوي، خير الدين، الأفغاني، ولي الدين يكن، سليم سركيس، عبد العزيز الثعالبي، إضافة للرجل الذي اعتبرته دوما معلمي وقدوتي عبد الرحمن الكواكبي.. ماتوا على آمالهم حتى لا أقول على أوهامهم.
لكنهم ماتوا -يا للأسف أيضا- وهم لا يرون كم تقدمنا رغم كل النكسات، وكم نضجنا وكم ما زالت الروح التي حركتهم حية فينا، وسننقلها للأجيال القادمة كما نقلوها لنا؛ لأن الملحمة البشرية لم ولن تتوقف أمام البحث إن لم يكن عن الكمال، فعن أحسن توازن ممكن يقدر عليه البشر تسمح به أوضاع قاهرة