1-في جانفي /يناير 2015 وقعت مذبحة فظيعة في باريس ارتكبتها مجموعة إرهابية وذهب ضحيتها 11 شخص منهم 8 صحفيين يعملون في جريدة شارلي هبدو بباريس لأنها نشرت رسوما مسيئة للرسول أول مرة سنة 2006 ثم في سنة 2011 و2013.
تقول: نحن ندين بمنتهى الشدة الإرهاب وعلى وجه الخصوص هذه الجريمة النكراء …. لكن.
ما أن تنطق بلكن هذه حتى يقاطعك البعض يصرخون في وجهك والشرر يتطاير من عينيهم: لا مجال لأي لكن …أنت تريد تبرير الإرهاب …أنت إرهابي.
تقول لهم يا اخواني اسمعوني …لا أريد أبدا تبرير قتل صحافيين حتى ولو كانوا مسؤولين عن هذه الرسوم فما بالك بقتل أشخاص لا علاقة لهم بالموضوع وإلهنا واضح كل الوضوح في مثل هذه الحالة: ”مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”. لكن أن تسخروا من الإرهاب والإرهابيين شيء وأن تسخروا من مقدسات مليار ونصف من البشر شيء جد مختلف.
الا تفهمون أن هذه الرسوم جرحت مشاعر بشر مثلكم؟ أليس من واجبنا جميعا احترام مقدسات بعضنا البعض؟ ألا تعرفون أن هناك من سيردون الفعل فيزداد الطين بلة بتفاقم الكراهية المتبادلة بين الشعوب والحال أننا بأمس الحاجة لتهدئة الخواطر؟
يواصلون الصراخ: لا مقدساتكم ولا مقدسات غيركم تهمنا. لا نؤمن إلا بمقدساتنا نحن وهي أن نشتم من نريد ونسخر من نريد وأن نعرّض بمن يريد أعجبكم هذا أم لم يعجبكم. إنها حريتنا التي لن تصادرونها منا أيها …. الخ،
أنت هنا أمام الحرية كما يفهمها ويمارسها الطفل النرجسي المدلل الذي لا وجود للآخر في حساباته.
2-بعد نجاح الثورة وهروب الطاغية وطيلة أشهر سادت في تونس حالة مزدوجة فيها فرح وأمل وانضباط وتراحم غير مسبوق بين التونسيين، لكن فوجئنا أيضا بانفجار كمّ هائل من الفوضى ومن حالات قطع الطريق لأتفه الأسباب ومن إضرابات عشوائية وكأن للحكومة عصا سحرية لحل كل المشاكل العالقة منذ عقود. الأخطر من هذا انفجار سيل من العنف اللفظي ومن التجريح والشتم والكذب على أمواج الأثير، في الجرائد، على منصات التواصل الاجتماعي أغلب الوقت من اشخاص لم يفتحوا فمهم بكلمة أيام الاستبداد ثم أصبحوا بين عشية وضحاها صوت الحق والفضيلة. كل هذا لأن سياسة الردع سيئة الذكر كانت حاضرة في ذهني وذهن الحكومة فقلنا مرحلة تنفيس عن الكبت ستمرّ ويجب التعامل معها بتعقل ورصانة. للأسف لم تختفي هذه التصرفات إلى اليوم.
أنت هنا أمام الحرية كما يفهمها ويمارسها الطفل في الفصل عندما يخرج المعلم لقضاء حاجة فتختفي مؤقتا السلطة الرادعة لكل التجاوزات.
3-ثمة فكرة شائعة جدا حول علاقة المستبد وأتباعه بالحرية. نتصور أنهم يكرهونها أشدّ الكره ويخافون منها أشدّ الخوف ويحاربونها بضراوة. العكس هو الصحيح لكن بفارق هامّ. فالدكتاتور يعبد الحرية ولا يطيق عنها بعدا، لكن هذه الحرية التي لا يرضى بغيابها لحظة هي حريته هو دون سواه. هكذا يمكنه أن يقول وأن يفعل وأن يحصل على كل ما يريد في التوّ واللحظة، كل هذا دون حسيب او رقيب والمحرك الأساسي الشهوة غير المقيدة بأدنى ضابط إلا الخوف أحيانا. بنفس العقلية تمارس هذه الحرية في المستويات التابعة للمستبد حيث يستطيع البوليس السياسي أن يفعل ما يريد بالمعارضين وتستطيع الزمرة الفاسدة أن تسرق ما تريد من أموال الشعب وأن يكذب الإعلام الفاسد كما يريد.
أنت هنا أمام الحرية كما يفهمها ويمارسها الطفل النهم الذي أطلق على غرفة عامرة بالحلويات فجمعها كلها لنفسه ولأقرب المقربين تاركا الفتات لمن استطاع إليه سبيلا.
نحن إذن أمام ثلاث ممارسات كاريكاتورية، منفّرة مدمّرة للحرية ربطناها بالطفولة في كل مرة. لماذا؟
*
ما علمتني تجربة العمر أننا نكبر سنة بعد سنة وعداد الزمان لا يتوقف إلا عند غرغرة الموت. هكذا نمرّ إجباريا من السنة الخامسة إلى السنة السادسة من العمر ومن السنة الخمسين إلى الواحدة والخمسين الخ.
لكن هناك عدّاد زمني آخر داخلنا يتوقف باكرا عن البعض حتى وإن تواصل عمل عداد السنوات. إنه عدّاد النضج النفسي والفكري الذي ينقلنا من عقليات وممارسات الرضع إلى عقليات وممارسات الأطفال فالمراهقين فالشباب فالكهول فالشيوخ مع تحسّن وتوسّع وتعمّق في الأداء بفضل تراكم المعطيات والتجارب.
هذا العدّاد يتوقف للأسف عند البعض. هكذا ترى كهولا وشيوخا بحكم عداد السنوات وهم في الواقع أطفال ومراهقون بحكم عدّاد النضج يواصلون نرجسية الطفل وانانية الطفل وسذاجة الطفل. قيل في البعض ” جسم الجمال وأحلام العصافير ” وأردد دوما أمام البعض الآخر ” أجساد الكهول وعقليات الرضع والأطفال.
السؤال: ما الذي يوقف عدّاد النضج عند أطفال الستين ومراهقي الخمسين؟
للردّ علينا إلقاء سؤال آخر سيقودنا للإجابة الصحيحة: ما القاسم المشترك بين الأطفال-الكهول الثلاث؟
ما الذي لم ينضج عندهم فمارسوا الحرية بهذه الكيفية البدائية والخطيرة؟
**
لن نحلّق بعيدا في سماء التنظير الفلسفي وإنما سننطلق من مثال بسيط: استعمال سيارتك للقيام بزيارة أهلك في قرية تبعد بضعة مئات الكيلومترات عن مقر سكناك.
بامتطاء سيارتك في الساعة التي قررتها لبداية السفرة وبتحديد الطريق الذي ستتخذه، تكون قد مارست دون وعي المقومات الثلاث لحرية التنقل (الفصل 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) وللحرية بصفة عامة وذلك عبر:
-ممارسة سلطة دون منازع على جسدك (وهي التي تختفي في العبودية والسجن والمرض)
– ممارسة سلطة دون منازع على ممتلكاتك أي السيارة في قضية الحال (وهي التي تغيب بالفقر أو بالحجز قانونا أو بالسرقة)
– ممارسة سلطة دون منازع على قرارك حيث اخترت وحدك بين الطريق السيارة الجديدة والطريق الوطني القديم أو أي طريق آخر (وهي السلطة التي تلغى عندما تجبر على البقاء في بيتك لإعلان حالة طوارئ مثلا)
لكن هل هذه سلطات مطلقة حقا مارستها وتمارسها يوميا دون رقيب أو حسيب؟
أنظر قائمة الشروط المطلوبة للتمتع بها:
يجب ألا تكون محبوسا لخطأ أو خطيئة أضرت بالمجتمع.
يجب أن تكون في وضع يسمح لك بالسياقة أي ألا تكون بحالة سكر (أيها المكلف بمهمة، قبل الوثوب على هذه الجملة انظر اعتراف بن بريك ولعل الشيطان يفتح لك بابا آخر تطرقه).
يجب أن تكون لك شهادة ملكية ورخصة سياقة وشهادة تأمين.
يجب أن تربط حزام النجاة.
يجب أن تحترم كل إشارات الطريق.
يجب أن تقف إذ طلب منك حرس المرور التوقف
. يجب …يجب.
والآن تمعّن في طبيعة هذه الشروط. هي ليست لتنغيص عيشك، للتضييق عليك لمصلحة طرف ثالث، أو لتسحب منك باليسار السلطة التي أعطتها لك باليمين. الهدف منها عبر إجبارية ربط الحزام مثلا الحفاظ على سلامتك وعلى سلامة الآخرين عبر فرض شروط سلامة السيارة واحترام السرعة.
ما الذي يجعل شخصا ما يلتزم بكل هذه القواعد ولا يرى فيها أي مشكلة؟
الشعور القوي بالمسؤولية تجاه الآخرين وتجاه الذات…أي الشعور بأن عليه ان يفعل ما يجب وليس ما يحبّ.
عقلية كهذه هي التي تجدها مفقودة عند الكهول- الأطفال الثلاث: الذي يقول لك لا يهمني ان اجرح مشاعر الملايين ولا أن تؤدي كلماتي لاستفزاز العنف في الناس والتباغض والتقاتل بينهم لأن حقي في ان أقول ما أريد أهمّ من كل اعتبار…الذي يقول لك لا يهمني أن أوقف سير عربات الإسعاف وتنقل الناس لقضاء حوائجهم ولا عودة الهمجية التي تبدأ دوما بقطع الطريق ما يهمني فقط أن تلبى مطالبي الآن وهنا….الذي يقول لك لا يهمني فقر الناس ومعاناتهم وموتهم تحت التعذيب ، كل ما يهمني ان اتمتع أنا ومن معي بملذات السلطة المادية والمعنوية إلى آخر نفس في حياتي.
والآن يمكننا تحديد مفهوم الحرية كما يجب أن يدرس في كل أماكن التربية والتعليم وأن نضبط الممارسة الوحيدة المقبولة سياسيا واجتماعيا والتي علينا حمايتها بالقانون.
القاعدة الأولى: لا وجود في منظومة اجتماعية متكاملة لحرية مطلقة وإنما كل حرية مقيدة ضرورة بضوابط ما.
القاعدة الثانية: كل ضوابط الهدف منها حماية الشخص ومحيطه هي في صالح الحرية ومن دعامات وجودها وتطورها وكل ضوابط هدفها حماية سلطة أو مصالح غير شرعية هي معادية للحرية وساعية لخنقها.
القاعدة الثالثة: لكي تبقى الحرية المنارة والبوصلة وحتى لا تنقلب النعمة نقمة عليه وعلى الآخرين، يتعين على كل مواطن الالتزام التام بروح المسؤولية في ممارسة هذه الحرية أي القبول بكل ضوابطها المشروعة مثلما يتعين عليه التصدي لكل الضوابط غير المشروعة التي تهدف للحفاظ على امتيازات خاصة لبشر فقدوا حسّ المسؤولية تجاه المجتمع ووضعوا مصالحهم الصغيرة ونزوات ذواتهم فوق كل اعتبار.