الشعب والدولة توأمان مشدودان من عظم الصدر، إن غرق أحدهما غرق الآخر والأمثلة حولنا تتكاثر بكيفية مفزعة (سوريا، اليمن، الصومال، ليبيا، السودان، العراق، ولا أحد يعلم بقية القائمة.) مما يعني أن أحد المداخل لتصور مستقبل شعوبنا تفحّصُ مسار الدولة العربية المعاصرة، وهذا سيَحملنا للغوص في تاريخ مجهول لأغلبنا، لكنه هو الذي حدّد مصيرَنا ولا يزال.
عن نشأة الدولة يذكر المؤرخ الأمريكي جامس سكوت في كتاب شيّق Against the grain أن البشرية عاشت تِسعا وتسعين في المائة من تاريخها دون دولة، وأن هذا التنظيم لم يظهر إلا ستة آلاف سنة قبل المسيح في العراق، بارتباط وثيق مع ظهور الزراعة.
يا لها من بداية جدّ متواضعة والدولة ليست أكثر من قرية كبيرة محصنة وعددُ شعبها بالريف التابع لها، لا يتجاوز بضعة آلاف تتنازع مع تنظيمات مشابهة على الطين والماء.
لو تابعنا مراحل تطور جل هذه الدول-المدن طوال تاريخا الدموي، لرأيناها تنضوي قهرا تحت صولة أكبر وأشرس واحدة منها في شكل مملكة تُصارع للبقاء وسط ممالك أخرى، إلى أن تنتهي في جوف إمبراطورية متعددة الأعراق تشكلت من أكبر وأشرس مملكة، تعيش هي الأخرى بضعة عقود أو قرون في صراع لا ينتهي مع ممالك وإمبراطوريات منافسة.
أخيرا الدولة الحديثة التي نعيش في ظلها.
لن أغامر بالادعاء أنها ولدت يوم 24 أكتوبر 1648 في مدينتَي مونستر وأوسنا بريك بمقاطعة وستفاليا الموجودة في غرب ألمانيا، نتيجة إمضاء ما سيُعرف لاحقا بالمعاهدات الوستفالية (Traités de Westphalie).
ما أدّعيه وما هو موثّق ومعروف من قِبل كل المؤرخين أن هذه المعاهدات أمضيَت بعد مفاوضات مضنية انطلقت سنة 1644 بين عدد كبير من ملوك وأمراء أوروبا لتضع حدا لحربين مدمرتين دامتا عقودا وخربتا أوروبا. الأهم بالنسبة لنا هو أن هذه المعاهدات هي التي حدّدت أهم الملامح للدولة التي تعيش اليوم أغلبُ شعوب الأرض تحت سلطتها والتي نعتبرها بديهية من كثرة تعودنا عليها، والحال أنها شَكلت قفزة نوعية في تاريخ الشعوب.
لنذكّر بأهمّ تلك الملامح:
– سيادة كل دولة -دون منازع-على أرض وبحر وسماء بحدود قارة مرسومة بالتوافق ولا يُعتدى عليها.
– الاعتراف بأن مَن يمثل الدولة هي السلطة المتمكنة (بفضل حيازة السلاح والمال والمعرفة) بغَض النظر عن أي اعتبار آخر.
– التسليم بحق هذه السلطة وحدها بحكم مجموعة من الناس تجمعهم روابط العرق والدين واللغة ويُسمَّون شعبا.
– إطلاق يدَي سلطة كل دولة في إدارة شؤون هذا الشعب، من جباية الضرائب إلى نظام العقوبات وتقديم الخدمات، وعلى رأسها الحفاظ على الأرواح والممتلكات على الحدود وداخلها.
– التعهد المتبادل بعدم التدخل في الصراعات على السلطة التي لا تتوقف داخل كل بلد، وهو ما يضمن للنخب الحاكمة تحييد الجبهة الخارجية في معركة الوجود.
– اعتبار الدوَل وحدها مَن تسنّ القوانين التي تنظم ما يُسمى بالمجتمع الدولي والمتعلقة أساسا بتقاسم مناطق النفوذ والتحكم في منابع الثروة ومسالك توزيعها، وذلك بغية تفادي الحروب المكَلّفة للجميع.
إنه نموذج الدولة الذي صدّرته أوروبا للعالم أجمع في إطار هيمنتها العسكرية والاقتصادية والثقافية طوال القرون الأخيرة، وهو اليوم الشكل شبه الوحيد لتنظيم السلطة في كل العالم، وهو النموذج الذي نقلناه نحن العرب بعد إعلان موت الخلافة الأخيرة سنة 1924 وخلقنا منه اثنتين وعشرين نسخة.
لا يمكن تفسير انتشار الدولة الوستفالية بالتفوق الغربي لوحده، وإنما بالخصائص الإيجابية لهذا النوع من تنظيم السلطة داخل وبين الدول. هي تطورٌ حتمي للتنظيم القبلي الذي تجاوزه الزمن وأصبح خارج الموضوع. هي حلّ وسط بين تنظيم الدولة-المدينة العاجزة على الأمد الطويل عن الصمود أمام مطامح لا تنتهي للدول-المدن الأخرى، وبين الإمبراطورية العاجزة عن احتواء وتصريف مصالح تجمعات بشرية ضخمة لا تجمع بينها روابط متينة. انظر كيف تفجرت في القرن الأخير الإمبراطورية العثمانية أو البريطانية أو مؤخرا الإمبراطورية السوفياتية، لصالح دول أصغر وأكثر تجانسا وأسهل حكما.
*
الإشكالية الضخمة اليوم، هي أنه كما كان محكوما على التنظيم القبلي والإمبراطوري بالاختفاء لانتهاء الصلاحية، تواجَه اليوم الدولة الوستفالية بنفس أخطار التقادم والأسسُ التي بُنيَت عليها تنهار الواحدة تلو الأخرى.
– في عصر التشابك والتلاحم والتداخل لكل وسائل العيش والتفكير، لم يعد هناك أدنى جدّية لمفاهيم الاستقلال والسيادة الوطنية؛ وأقصى ما يمكن أن تطمح له حتى أكبرُ الدول أن تؤثّر في الصراعات بقدر ما تتأثّر بها.
– في عصر الوعي بأننا نسكن كوكبا واحدا وأن هناك حفنة من الدول الصناعية الكبرى بصدد تدميره، انتهت خرافة رَبّ البيت السيد الأوحد في بيته المتحكم في مصير عائلته، والحال أن البيت برمّته مهدد بالسقوط نتيجة سياسات هذه الحفنة من الدول.
– في عصر الاقتصاد المُعَولم وشركاته الخمسمائة الكبرى التي تتحكم في ثروة العالم (ناهيك عن الشركات الخاصة التي أصبحت لها برامجها لغزو الفضاء) لم تعد الدولة هي اللاعب الأهمّ، لا في خَلق الثروة ولا في توزيعها بين أفراد الشعب الواحد أو بين الشعوب.
– في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فقدَت الدولة الاحتكار الأيديولوجي الذي مكّنها عبر الدين والبوليس من التحكم في العقول والقلوب دون منازع طيلة عقود.
– في عصر “العفو الدولي” وكم من جمعية حقوقية محلية ودولية أخرى، ناهيك عن المحكمة الجنائية الدولية، لم تعد الدولة قادرة على أن تفعل برعاياها ما تشاء والعالم كله أصبح الرقيب والحسيب.
– في عصر تحرر المجتمع المدني المحلي والعالمي وتصاعد طلب المشاركة في أخذ القرار من قِبل شرائح اجتماعية تتوسع يوما بعد يوم، لم يعد من خيار أمام الدولة إلا اتخاذ هذا المجتمع المدني شريكا في الحكم، أو الدخول معه في صراع خاسر سلفا.
وحدها بعض الدول القوية، بحجمها وإمكانياتها المالية الضخمة، قادرة على الصمود بعض الوقت أمام هذه التغييرات المتصاعدة السرعة والخطورة، لكن كل الدول الصغيرة الهشة ستذهب ضحيتها ومعها شعوبها.
ما آلت إليه الدولة في سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال والعراق (ولا أحد يعرف بقية القائمة) ليس صدفة أو حوادث معزولة. للمتعلقين بمثل هذا الوهم أقول، تصوروا أهلنا في ليبيا أو سوريا أو اليمن يتنبأ لهم أحد في الستينيات بما يجري اليوم في إدلب وطرابلس وتعز، هل كانوا سيصَدّقونه أم إنهم كانوا سيرمونه بالحجَر؟ هل كنا سنبكي عليهم أم نبكي معهم؟
*
قناعتي الشخصية أكثر من أي وقت مضى أنْ لا الموجة الأولى ولا الثانية (ولا الثالثة الآتية لا ريب فيها) من الربيع العربي، بمعزل عن أزمة دولة تقادَمَ عهدها ولم تعد قادرة لأسباب خارجة عن نطاقها على الاضطلاع بأبسط مهامها.
لا شيء مثل تجربة الحكم يفتح عينَي المثقف على تعقيد الواقع واستحالة اختزال فشل الدولة العربية في سبب واحد، ولو كان بأهمية غياب الديمقراطية.
مما لا شكّ فيه أنه لا مستقبل للشعب المصري في ظل الحكم العسكري الفاشي، ولا للشعب السعودي في ظلّ حكم دكتاتورية تابعة وفاسدة، وأنه بقدر ما نسارع في كل مكان لوضع شعار دولة القانون والمؤسسات حيز التطبيق بقدر ما تتزايد حظوظنا في تفادي مصير الشعوب العربية المنكوبة. للأسف وبالتجربة يتضح أن الديمقراطية شرط ضروري لخروج الشعوب من أزمتها لكنه شرط غير كاف. إنها، عدا كونها تأتي بمشاكلها الخاصة وتضيفها لحزمة المشاكل التي تتخبط فيها الدولة، أعجز من أن تكون “الحلّ” لمشاكل الناس حين يواجهون تحديات غير مسبوقة في مجالات غير مسبوقة، وبشكلها الحالي يستحيل عليها رفع تلك التحديات.
افرضْ أن انتصبت هنا وهناك سلطات وطنية ديمقراطية. بغَض النظر عن كونها ستحارَب حربا لا هوادة فيها من قِبل نظام عالمي مبني على تحالف نخب أغلبها فاسدة وقمعية، ستواجَه بقائمة من المشاكل المستعصية على الحل وأغلب المفاتيح بأيدي غيرها.
من أين لها توفير العمل لملايين العاطلين في ظل النظام العالمي الاقتصادي، وهي منكفئة داخل أسواق مجهرية الحجم والعطاء؟
من أين لها توفير الأمن الغذائي في ظل القفزة المخيفة التي ستشهدها أسعار الغذاء وخاصة القمح الذي لا نزرع منه إلا أقل المقادير؟ من أين لها توفير الماء في ظلّ الجفاف المرتقب نتيجة التغيير المناخي، والذي سيجعل المنطقة العربية أرض العطش المزمن؟
من اين لها توفير الانسجام الثقافي الضروري لكل شعب، وجميعُ وسائل التواصل والاتصالات والترفيه في أيدي الآخرين؟
من أين لها توفير الأمن لشعوبها وهي بحكم حجمها وضعفها وانقساماتها دول زبائن أو دول رهائن لِقوًى إقليمية ودولية لا تردعها إلا دول بمثل قوتها؟
من أين لها المطالبة بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والكل يتدخل في شؤون الكلّ والأقوى هو الأكثر تدخلا في شؤوننا ونحن الضعفاء الأقل تدخّلا في شؤونه؟
أخطر سؤال على كل من يهمه مستقبل هذه الأمة المنكوبة: هل ستصبح دولنا شظايا دول تدور في فلك دولٍ نجوم اسمها إسرائيل أو إيران أو تركيا أو الاتحاد الأوروبي
المحزن في الأمر أن الشعوب ستنتفض المرة تلو الأخرى ساخطة ناقمة غاضبة متمردة، تعاقِبُ كل مرة أنظمة إما تُغطِّي على فشلها بالقمع كما تفعل الدكتاتورية أو تغطي عليه بالشعبوية كما تفعل الديمقراطية، والنتيجة دوما تَسارُع الانهيار الناتج عن تظافر عاملَين لا دخل لا للدكتاتورية ولا للاستبداد فيهما: تفاقم عدد وقوة الزلازل البطيئة التي تبدأ بتشقيق الحيطان قبل انهيار السقف على رؤوس الجميع، وقابلية البيت للسقوط لأنه مصنوع من طوب هشّ ووفق قواعد بناءِ ما قبل تفاقم خطورة الزلازل، ناهيك عن فساد ربّ العائلة المثير للتمرّد أو عجزه المثير للشفقة.
لقد استأثرت مسألة النظام السياسي والحَوكمة الرشيدة بجلّ اهتمامنا طيلة عقود الصراع ضدّ الاستبداد، وكانت مثل الشجرة التي تُخفي الغابة. آن الأوان لتُفحص الغابة بمجملها خاصة وهي تشتعل في أطرافها مهددة بحريق قد يأتي على الأخضر واليابس، أي على ما تبقّى واقفا على رجليه من دولنا وشعوبنا.
لا شيء أكثر إلحاحا وخطورة اليوم أمام المثقفين والسياسيين من رمي كل العفش الفكري الذي عشنا عليه طوال العقود الخمسة الأخيرة، والعودة للتفكير من خارج الصندوق لاكتشاف رزمة الحلول (لا الحلّ السحري اليتيم) للتعامل مع تحديات تضعنا مجددا أمام الخيار الأول والأخير: نكون أو لا نكون.
إذا نظرنا للعوامل التي ستحدد -متكاتفة أو متصارعة-مصير شعوبنا ودولنا، سنكتشف الدور الهائل للعوامل الخارجية الجبارة، أساسا التحول المناخي والنظام الاقتصادي العالمي وتطور التكنولوجيا وموازين القوى بيننا وبين دول-شعوب الجوار.
لا بد من أن نحسب حساب الصدَف والحسابات الخاطئة لزعماء لديهم من النوايا الحسنة والسيئة ما هو موجود عند كل البشر.
بديهي أننا بلا حيلة أمام التحول المناخي أو أزمة الليبرالية المتوحشة (علما وأن الكارثتين مرتبطتين أوثق الارتباط) ولسنا بمأمن من حروب حمقاء يشعلها الأغبياء الخطرون الذين كتبوا جزءا كبيرا من تاريخ البشرية.
لنتصوّر مسابقة بجائزة هامة لأحسن رواية من الخيال العلمي، موضوعها تونس أو مصر أو السعودية أو أي دولة عربية أخرى، تَجري حوادثها سنة 2120 مع الوعي أن روايات الخيال العلمي تستكشف أقصى المخاوف والآمال المزروعة في النفوس وهي تتفحص سيناريوهات جد محتملة. وكم من مخاوف أو آمال ضحك منها ”الواقعيون” تحققت أو هي بصدد التحقّق.
من المؤكد أن لجنة التحكيم ستواجَه بنوعين من المخطوطات: المتشائمة والمتفائلة.
في الروايات المتشائمة -تونس مثالا-لا قدرة لقارئ على التعرف على البلاد وقد اختفت منها مدن كان اسمها تونس وسوسة والمنستير وصفاقس غمرها البحر، بلد انفجرت دولته إلى إمارة المسعدين وإمارة الحامة ومملكة جندوبة وصراع أحياء القيروان، بلد انفرط عقد شعبه القديم إلى قبائل لا يزيد عدد أفرادها على بضعة آلاف تتقاتل بشراسة على ما بقي من آخر نقاط الماء وآخر الواحات، وقد التهمت الصحراء حتى جبال خمير.
لرفع معنويات لجنة التحكيم، الروايات المتفائلة. هي عن بشر أصبحوا يُعرفون باسم المغاربيين الشرقيين وهم جزء من اتحاد الشعوب العربية الحرة، تطوّر إقليمهم كبقية الأقاليم العربية الأخرى بكيفية مدهشة في ميادين الحَوكمة الرشيدة والقضاء على الفساد وتحسين وضعية المواطنين النفسية والمادية. وبمعية شعوب المواطنين الصديقة في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي استطاع العرب الجدد التغلب على الأزمة المناخية التي كانت تهدّد البشرية جمعاء بالفناء.
لقائل إن يقول، ماذا عن احتمال بقائنا ندور في الحلقة المفرغة الحالية قرنًا آخر من الزمان؟ فرضية ممكنة لكنها الأقل احتمالا ونحن نرى التغييرات الهائلة المتسارعة حولنا كل يوم.
السؤال: أيّ السيناريوهَين أكثر احتمالا وما الذي نستطيع فعله لكي ندفع في اتجاه الخلاص؟
أي أمل يبقى لنا وأي ورقة بأيدينا؟
إنها إرادة الحياة التي تصنعها التحديات، ومخزون الطاقة الذي ينفجر في مواجهة أخطار الفناء، والعبقرية الكامنة في الإنسان.
لِحُسن الحظ كل هذا موجود داخل ما أسميه شعب المواطنين: الفاعل اليتيم الذي نستطيع التعويل عليه.
سيدي الرئيس لهذا الكون رب يحميه ولم ينزوي عنه وتركه لبعض القوى تعبث بيه. فقط على المؤمنين به ان لا يحيدوا عن صراطه المستقيم .هذا ليس مجرد وعظ وانما هي اشبه بالمعادلة الرياضية …(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى …)هذه المعادلة تخص الشعوب اما الدولة سواء في الماضي او في الحاضر فهي اداة تستعملها الشعوب لانجاز المهام فاذا تهالكت هذه الاداة ولم تعد تصلح استبدلتها بتنطيم آخر
منشورات فريدة من نوعها، واقعية توعوية تنير العقل و تحمل للنقد و التحليل و التفكير خارج الصندوق لإفادة البشرية. فخورة بك كإنسان عامة و كتونسي خاصة، تحياتي دكتور منصف المرزوقي.
هل يكمن الحل في الدولة العالمية؟