أيها الاخوة والأخوات،
على إثر نتائج الانتخابات الأخيرة التي أتحمل كامل المسؤولية فيها، قررت الانسحاب من رئاسة حزب الحراك وكذلك من الساحة السياسية الوطنية مع البقاء ملتزما بكل قضايا شعبي وأمتى التي سأواصل خدمتها بما أستطيع بطرق وفي مجالات أخرى.
اسمحوا لي بآخر خطاب سياسي أتوجه به إليكم، من باب المحبة لكم والغيرة على المصلحة الوطنية، أضع فيه عصارة أفكاري ومخاوفي وآمالي وما يمكن أن تنتفعوا من تجربتي، ولكم سديد النظر.
أعلم كل ما تعانون وأتألم لكل ما تتألمون منه وأقاسمكم نفس الآمال لأنني واحد منكم وقد عاينت طوال الحملة الانتخابية حجم الصعاب التي تتخبطون فيها ومع هذا أقول لا تحبطوا ولا تيأسوا ولنواصل جميعا بكثير من الأمل والتفاؤل هذا الانتقال الصعب الخطير من شعب الرعايا إلى شعب المواطنين.
هذا الانتقال هو هدف ثورة 17 ديسمبر المجيدة والربيع العربي وهو يتحقق في تونس بسرعة أكبر من كل قطر عربي.
نحن نتخلص من وضع دام قرونا هو وضع شعب الرعايا أي الشعب المملوك لدولة عنيفة فاسدة في خدمة الأقلية ومصالحها غير المشروعة … شعب تخلى فيه أفراده عن حقوقهم خوفا من البطش وينتقمون من وضعهم بالإضراب عن واجباتهم.
نحن ندخل من الباب الواسع للثورة وضع شعب المواطنين وهو الشعب الذي يملك دولة قانون ومؤسسات في خدمة مصالحه الشرعية… شعب لا يفرط كل فرد فيه في أي من حقوقه ويضطلع بكل واجباته لأنه يعلم أنه لا يوجد حق دون واجب مما يخلق مجتمعا سليما خلاقا مبدعا.
وفي هذه المرحلة الدقيقة من مسيرتنا الجماعية أريد تحذيركم من تصديق القائلين عن حسن أو سوء نية أن الدستور بحاجة للتعديل في اتجاه نظام رئاسي لضمان فعالية الدولة واستقرارها. فلو كان النظام الرئاسي هو أنجع الطرق لقيادة الشعوب لما أدى بنا للثورة ولخراب أغلب أقطار الوطن العربي
إن دور الاستبداد تاريخيا في تحطيم دولنا وشعوبنا واتضاح سخافة اسطورة المستبد العادل وسهولة انقلاب كل نظام رئاسي إلى نظام استبدادي تجعل من دستورنا الذي وزّع السلطات بكيفية ذكية تمنع رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة من التسلط، أحسن دستور لحماية شعبنا والأجيال القادمة من طفرة استبدادية جديدة تعيدنا للمربع الأول ولن تزيد إلا الطين بلّة.
كونوا على أتم الثقة أنه لولا دستورنا الحالي لانتهت الثورة حال انتصار النظام القديم في انتخابات 2014 ولعدنا بسرعة لعهد بورقيبة وحتى للتوريث الذي اتضحت مطامحه منذ بداية عهدة الرئيس السبسي.
كونوا أيضا على أتم الثقة أنه لولا هذا الدستور لما حصل الانتقال السلمي والسلس للسلطة الذي أثار دهشة وإعجاب كل من يعرفون ماضي وحاضر العالم العربي في هذا المجال
نعم يجب التمسك بدستورنا لكن يجب استكمال مؤسساته خاصة المحكمة الدستورية وأيضا تفعيل البند السابع منه لإرساء دعامة إضافية للحكم المحلي تساهم في توسيع رقعة المشاركة الشعبية في ممارسة الحكم وتعطي دفعا كبيرا للتنمية البشرية بأوسع معانيها.
هذا لا يعني أنه ليس لنظامنا السياسي نواقص لكنها ليست في الدستور.
إن ما يعيق الاستقرار الحكومي الذي نحن بأمس الحاجة إليه وكذلك فعالية البلديات وغدا فعالية المجالس الإقليمية هو القانون الانتخابي المبني على النسبية والمانع لوجود أغلبية تحكم، لا يهم من تكون، شريطة أن تتحمل كامل المسؤولية إن نجحت ففي مصلحة الشعب وإن فشلت تستبدل بأغلبية أخرى تعطى نفس الحظوظ ونفس المسؤولية كما هو الحال في أكثر الديمقراطيات عراقة واستقرارا.
إذا لم يُعد النظر في القانون الانتخابي والقوانين القادرة فعلا على تخليص قطاع الاعلام والأحزاب السياسية من سطوة المال الفاسد، فإن ديمقراطيتنا ستصبح سوق ودلال يُتاجر فيها بكل شيء وخاصة بالمصلحة الوطنية وهو ما قد يمهد لموجات شعبوية تعيدنا لما قبل الثورة.
أيها الاخوة والأخوات،
يبقى أن أكبر عامل يهدد مجتمعنا هو الوضع الاقتصادي المشين الذي يحكم على مئات الآلاف من التونسيين بالفقر والبطالة والبؤس واليأس وأكبر سبب فيه الفساد الذي استشرى بكيفية رهيبة في الخمس سنين الأخيرة بعد أن وقع التصالح معه في الصيغة المشينة التي سميت كذبا ونفاقا مصالحة وطنية.
تونس بأمس لقوانين وسياسات تضرب بقوة حفنة من العائلات الاحتكارية الطفيلية ومالها الفاسد وهو الضرع الحلوب الذي يتغذى منه إعلام العار وبعض العصابات السياسية التي تتغطى بقانون ضعيف وفضفاض للأحزاب ومهمتها استغلال الديمقراطية التي حاربتها لتخدم مموليها وهم ألدّ أعداء المصلحة العليا لا تهمهم إلا مصالحهم الآنية .
ونظرا لإكراهات التحالفات السياسية التي افرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة فإنني أشكّ في قدرة السلطة حتى ولو أرادت ذلك أن تنجح وحدها في مقاومة الداء المميت. لهذا على شعب المواطنين إعلان الحرب على الفساد والتجند لاستئصال هذا السرطان المهدد لحقه في العيش الكريم فهذا الفساد هو أكبر مبذر لثروة وطنية قادرة لو أحسن استعمالها على تحسين ظروف عيش مئات الآلاف من التونسيين.
وإذ أحيي وأعبّر عن إعجابي وامتناني للقلة من المواطنين الذين قاموا بالتبليغ عن الفساد الذين اطلعوا عليه مغامرين أحيانا بمستقبلهم المهني، فأنني أدعو كل التونسيين والتونسيات في كل موقع من الإدارة والمؤسسات الاقتصادية وغيرها إلى الاضطلاع بواجبهم كمبلغين عن الفساد وأدعوهم لتكثيف المراقبة والتبليغ وتكوين شبكات للمبلّغين عن الفساد مهمتها التكوين والدعم ومتابعة الملفات المعروضة على القضاء وتكثيف الاتصال والتعاون بينها والتنسيق مع الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد. يوم يشعر الفاسدون أنه لا حماية لهم من شعب المواطنين فسترون أن أخلقة السياسة والاعلام والعمل النقابي والمجتمعي لم تعد حلما.
أيها الاخوة والأخوات،
إن أخشى ما أخشاه أن يعتبر شعبنا بعد عشرين سنة ما نعيش اليوم من مشاكل اقتصادية وسياسية خطيرة عصره الذهبي وذلك نتيجة الأزمة المناخية العالمية التي لا زال التونسيون غير واعين بأنهم تعنيهم أيضا وأنها خطر داهم على مستقبلهم القريب وخاصة على مستقبل أبنائهم وأحفادهم.
إنني أتابع منذ سنوات بكثير من الاهتمام والقلق التقارير العلمية والمؤتمرات الدولية للمناخ التي تؤكد أن منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط -أي الوطن العربي من المحيط إلى الخليج -هي أكثر المناطق في العالم تضررا من التحول المناخي المتسارع وأنها قد تكون غير قابلة للسكنى في نهاية القرن إذا لم نتجند دولا وشعوبا وافرادا لمواجهة كارثة تداهمنا بأسرع ما توقعه أكثر المختصين تشاؤما.
لقد نبّهت طوال الحملة الانتخابية أن تونس مهددة نتيجة هذا التغيير المناخي العالمي المتسارع بتفاقم أخطار العطش في كافة البلاد والفيضانات المدمرة والحرائق غير القابلة للسيطرة والتصحر وارتفاع مستوى البحر المهدد لجزرنا وشواطئنا ومدننا الساحلية. كما نبهت لضرورة الاسراع بالتحول للطاقات المتجددة والسيطرة على بذورنا واعتماد الفلاحة كأولوية الأولويات لضمان أمننا الغذائي. للأسف لم يتلقف شعبنا المثقل بهموم اللحظة الرسالة وربما صمّ أذنيه عمدا ولسان الحال يقول تكفينا مآسي اللحظة ألا أنه على التونسيين مجابهة الواقع وليس دفن الرأس في الرمل وعليهم خاصة أن يتذكروا أن ما نعاني منه اليوم هو نتيجة غياب الرؤيا والتخطيط في السبعينيات والثمانيات والقاعدة أن الشعوب تأكل اليوم ما بذرت قبل عقود أو تشقى لأنها لم تتعايش إلا مع مشاكل اللحظة ولم تخطط للزمن المتوسط والبعيد.
لذلك بادرت حال تسلم منصب الرئاسة في 2012 بطلب تقرير من مركز الدراسات الاستراتيجية الملحق بالرئاسة عن الماء لوعي بأن كل البلاد مهددة بالعطش في 2030. لكن ظروف المرحلة الانتقالية ونتيجة انتخابات 2014 لم تمكني من المضي في خطة تحقيق الأمن المائي التي كانت هاجسي اليومي. على الأقل أمكنني أن أوقّع صيف 2012 على اتفاقية تعاون مع اليابان بخصوص بناء محطة تحلية مياه البحر وجهر وادي مجرة لحماية الشمال الغربي من الفيضانات. كما أحدثت داخل الرئاسة لجنة للكوارث الطبيعية تمّ حلها عند خروجي من قرطاج. وقد زرت أكثر من مرة وحدات الحماية المدنية لتقييم حاجياتها حتى تكون في مستوى ما ينتظرنا في حالة الفيضانات والحرائق. أيضا زرت مركز الاستشعار عن بعد لمحاولة تحديد الفضاءات التي يجب تشجيرها في إطار البرنامج الافريقي الجبار لجدار أخضر تقدمت فيه بلدان أفقر منا مثل السينغال والسودان ونحن نغطّ في النوم.
تتذكرون ما نبهت له بخصوص البذور وامننا الغذائي او بطلبي إحداث وزارة للبحر وكيف ووجهت هذه التحذيرات. كما أنني طلبت من قيادة الجيش إعادة تصور دوره وبخاطري أنه سيكون العامل الرئاسي في سياسة شاملة للحفاظ على الأمن القومي بأوسع مفهوم.
للأسف الشديد ذهبت السنوات الخمس هباء منثورا حيث لم نتقدم خطوة واحدة في الاستعداد لهذه الأخطار وقد عشتم معي بوادر كل هذه الأزمات المرتقبة عبر إنذارات العطش في مختلف ربوع البلاد وشاهدتم عينات من الفيضانات في مدننا وكل التقارير العلمية مجمعة على تفاقم عددها وتزايد خطورتها.
وحيث أن الموضوع هو بامتياز قضية أمن قومي ويتعلق بحقوق الأجيال القادمة في وطن صالح للعيش يوفر الحاجيات الدنيا، فإن مجلس الأمن القومي- وهو المؤسسة الوحيدة التي تجمع رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة وقيادات الجيش والأمن والوزارات المعنية- مطالب لحماية هذا الأمن القومي فعلا ببعث سبعة برامج وطنية للخمس والعشر والخمسين سنة المقبلة تونس بأمس الحاجة إليها هي البرنامج الوطني للأمن المائي- البرنامج الوطني للبذور والأمن الغذائي – البرنامج الوطني للتشجير ومقاومة التصحر وانجراف التربة- البرنامج الوطني لحماية الشواطئ ومقاومة تلوث البحر- البرنامج الوطني لمواجهة الكوارث الطبيعية- البرنامج الوطني للطاقات البديلة- البرنامج الوطني للإعلام والتربية والتعبئة الشعبية للتغيير المناخي.
إن على هذه البرامج السبعة أن تنطلق من مجموعات صغيرة تضم خيرة الجامعيين المختصين وخيرة رجالات الدولة كل في مجاله وخيرة نشطاء المجتمع المدني وإذا تطلب الأمر خبراء أجانب ومهمتها ليست تدبيج تقارير توضع في الرفوف وإنما جمع المعطيات وإعداد في ظرف لا يتجاوز سنة مشاريع خطط للخمس والعشر والخمسين سنة المقبلة تناقش بعمق وتأني في الاعلام وفي اجتماعات شعبية وداخل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني ثم تعتمد كقوانين من البرلمان وكسياسات تلتزم بتطبيقها كل القوى السياسية الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني.
كم يثلج الصدر أن نرى شبابنا يهبّ لتنظيف البلاد من التلوث ومبادرته لزرع الأشجار، لكن دون تخطيط بعيد المدى ودعم متواصل من الدولة وانخراط في الزمن الطويل فإن الأشجار ستذبل وتموت والقذارة ستعود أكثر من قبل. ما يجب هو إسناد هذه الطاقة المواطنية وتنظيمها وسيرى الجميع قدرة شعبنا على الانخراط في برامج يمكن وصفها دون مبالغة أو بلاغة بالوطنية وهي في خدمة الشعب وخاصة في خدمة الأجيال المقبلة.
لأهل الذكر من علماء مختصين في البذور والطاقة ومشاكل الماء وانجراف التربة والطاقات المتجددة وعلوم البحر، أناشدهم الخروج من صمتهم ومن مختبراتهم وكلياتهم ليشكلوا جمعيات علمية مواطنية لا يمكن لأحد اتهامها بالتسيّس تكون مهمتها ترشيد الخيارات السياسية. كدلك أناشد خيرة المواطنين بالتنظم داخل جمعيات مدنية بيئية تشارك بمبادرات ولو بسيطة في كل أرجاء الوطن التحسيس بمخاطر التحول المناخي وابتكار وسائل محلية لمقاومة آثاره وتنخرط في اقتصاد تضامني محلّي لتحسين البيئة يساهم أيضا في محاربة الفقر.
وحيث أننا لسنا سببا في الكارثة المناخية التي تهدد وجودنا ذاته وإنما ضحية سياسات الجشع واللامسوؤلية للدول الصناعية فمن حقنا مطالبتها بشطب ديوننا لكي تكون مصدر تمويل هذه البرامج المكلفة والعائدة بالنفع عليهم إذا أرادوا ألا تهاجمهم قوافل ملايين اللاجئين المناخيين. وإذا كان هناك دور لدبلوماسيتنا فهو البحث عن موارد نمول بها هذه المشاريع خاصة وإن اتفاقية باريس للمناخ سنة 2015 قد رصدت نظريا ميزانية ضخمة للمشاريع البيئية كالتي نقترحها.
ليتأكد الجميع إن هذه البرامج لن تؤتي أكلها بعد عقود وإنما من الأيام الأولى حيث سيتجمع التونسيون والتونسيات أخيرا حول مشاريع عملية توحد الشعب وتستغل أحسن ما فيه من طاقات البذل والعطاء. كما من شأن هذه البرامج ان تعيد هيكلة الاقتصاد وتوجيهه نحو ما ينفع فنحن قادرون لا فقط على زرع عشرات الملايين من الأشجار واستصلاح التربة وإنما أيضا على صنع الألواح الشمسية والهوائيات وحتى مصانع تحلية المياه ومن ثمة خلق مواطن شغل نافعة اليوم ونافعة غدا.
إن تونس التي كانت دوما سباقة في كل المجالات قادرة على أن تصبح المختبر العربي الأول لتقنيات التأقلم مع أخطار التغيير المناخي وأن تفيد بتجربتها الأقطار الأخرى الغارقة للأسف في الاضطرابات الناجمة عن انهيار النظام العربي القديم وآلام مخاض النظام العربي الجديد. فكل أقطار الوطن العربي مهددة بنفس الأخطار ولا بدّ لها من نفس البرامج وعلينا أن نتكاتف جميعا حتى نوفر للأجيال المقبلة أوطانا لم تتحرر من الاستبداد لتجد نفسها في أرض لم تعد قادرة على إعالة الانسان.
الوقت يداهمنا بسرعة مخيفة ولابدّ من هبة وطنية ومواطنيه تجنّد الجامعات والجمعيات وكل مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الجيش والحماية المدنية للتعامل الجدي مع أخطار من الاجرام تجاهلها.
أيها الاخوة والأخوات،
اسمحوا لي قبل أن أختم بالتعبير عن الفخر والاعتزاز بثورات أهلنا في السودان والعراق ولبنان والجزائر وبتواصل المقاومة المواطنية في ليبيا ومصر واليمن وسوريا وضد المحتل الإسرائيلي في فلسطين الحبيبة.
لقد كان لشعبنا شرف المبادرة في إطلاق ثورات شعوب المواطنين التي نراها اليوم تجاوزت حدود الوطن العربي نفسه حيث نرى انهيارا متسارعا لأنظمة الفساد والقمع بالضربات المتتالية لشعوب أفاقت أخيرا من طول سباتها. لكن ما نراه أيضا تمسّك النخب الفاسدة بالنظام القديم والتنسيق بينها واستعدادها لحرق الأخضر واليابس لكي نبقى شعوبا من الرعايا. في المقابل لم نرى إلى اليوم أي تنسيق بين ثورات شعوب المواطنين. كم أتأسف أن أرى أهلنا في العراق ولبنان يموتون بالرصاص ولا تخرج مظاهرات التنديد والمساندة في تونس وكأن كل ثورة مستقلة والحال أنها ثورة واحدة ومصير واحد.
هناك مهمتان تاريخيتان أمام شباب الأمة وقياداتها في المستقبل: داخليا مواصلة افتكاك الدولة من النخب الفاسدة لجعلها أداة في خدمة شعب المواطنين.
والمهمة الثانية رمي الجسور بين شعوب فرقت بينها حدود رسمها الاستعمار وأبدها الاستبداد وبناء فضاء عربي موحد كما فعلت أوروبا بعد حروبها الطاحنة وهذا الفضاء هو اتحاد الشعوب العربية الحرة وعرضت أولى ملامحه طبعا دون أي وهم في القمم العربية الثلاث التي حضرتها من 2011 إلى 2014،
على القيادات العربية الشابة إعداد فضاء عربي لا علاقة له ببعث ماضي خيالي كاذب وإنما بخلق كيان جديد مبني على التواصل والتنسيق والتكاتف في ظل التعددية واستقلال كل شعب والديمقراطية التشاركية وحقوق الإنسان وهو ما سيسمح لكل الشعوب العربية وقد تحررت من الاستبداد بأن يكون لها مكان ومكانة في هذا العالم
هذا الفضاء العربي المشترك يُهيأ له من الآن بربط الجسور بين الثورات ودعمها لبعضها البعض خاصة ومحور الشرّ الذي يتربص بأحلامنا كما قلت لن يتوانى عن أي موبقة مثل ما نرى في ليبيا وسوريا واليمن لفرض تواصل الماضي البغيض.
لذلك أهيب بالشباب العربي إلى تشكيل شبكات تواصل ودعم وتفكير حول ما يجب أن تكون عليه أوضاع الأمة بعد الانهيار الحتمي للنظام العربي القديم الذي لا مستقبل له في ربوعنا لأنه لم يعد له مستقبل في العالم والشعوب تنتفض الواحدة بعد الأخرى في أعظم عملية تاريخية لإعادة توازن فقد وأصبح يهدد البشرية جمعاء.
وفي الانتظار لا بدّ من العودة لقضية الاتحاد المغاربي وحيث أنني شاهدت بالتجربة أن الاتحاد لن يأتي من فوق، على شعوب المواطنين أن تفرضه وعلى تونس أن تعطي المثل ووضع أولى حجرات البناء المشترك.
على البرلمان التونسي أن يسن قانون الحريات الخمس للمواطنين المغاربيين – حرية التنقل والاستقرار والعمل والتملك والانتخاب البلدي، وذلك بادلتنا الدول المغاربية الأخرى نفس الحريات أم لا، لأن مثل هذه المبادرة ستحرك المياه الراكدة وستجند شعوب المنطقة لإعادة الحياة لحلم آخر قتله الاستبداد.
أيها الاخوة والأخوات،
إذا اعتبرتم هذه المشاريع أحلاما تذكروا كم حققنا من إنجازات كانت تبدو أيضا مستحيلة التحقيق. تذكروا أنه قبل مائة وخمسين عاما كان البشر في هذه البلاد يباعون على الطريق كالماشية وذلك منذ آلاف السنين …أننا قبل مائة سنة كنا شعبا يرزح تحت الاستعمار الأجنبي …أننا قبل عشرة سنوات فقط كنا نعيش تحت استبداد تصوره البعض لا يقهر …لذلك أقول الملحمة متواصلة والمستقبل ما زال حافلا بالإنجازات حتى وإن لن يبخل علينا بكثير من التحديات نحن قادرون على رفعها كما رفعنا من قبل تحديات أصعب.
لقد شاءت الأقدار أن تنتهي مساهمتي في الملحمة الجماعية بمرارة هزيمة انتخابية. لكنني أغادر الساحة السياسية سعيدا برؤية تحقيق جل الأهداف التي ناضلت من أجلها على امتداد نصف قرن وأيضا مرفوع الرأس مرتاح الضمير لشعوري العميق بأنني أديت واجبي كطبيب، كحقوقي، كمثقف وكرئيس للدولة التونسية في أصعب وأخطر مرحلة من تاريخها الحديث.
ككل إنسان، عرفت النجاح وعرفت الفشل. لمن شكروا لي نجاحا ما، أقول ”لا شكر على واجب” وإنما الشكر لكم أنتم، لكل من ساندوني ووقفوا بجنبي إبان سنوات القمع وأعطوني ثقتهم وصبروا على عيوبي وخاصة لمن استقبلوني بهتاف ” جيناك بلا فلوس” وهم الذين ولّدوا في فكري مفهوم شعب المواطنين.
لمن نظروا إليّ ولكل ما فعلت بعين” السخط التي تبدي المساوئ”، أقول متّعوني متّعكم الله بحكم ” من أجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد “، فقد تحتاجون هذا الحكم يوما والحياة لا تفاضل بين البشر في قسوتها.
ويبقى القول الفصل لأبي حنيفة: “هذا أحسن ما قدرنا عليه فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب”.
هذا الصواب في فهم الواقع وحسن التعامل معه هو الذي أتمناه لكل شعوب وأفراد أمتنا العربية ولشبابها المناضل من أجل أمة مواطنين لا أمة رعايا.
هذا الصواب هو الذي أتمناه لكل التونسيين والتونسيات وللشباب المناضل من أجل شعب من المواطنين لا شعب من الرعايا.
هذا الصواب هو الذي أتمناه للرئيس قيس سعيّد وللسلطة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة لكي يتقدم بناء دولة القانون والمؤسسات والخدمات على أنقاض دولة اللوبيات والعصابات والمخابرات.
هذا الصواب هو الذي اتمناه لكل القوى الثورية وللحراكيين والحراكيات في تونس وخارجها لكي تتوحد الصفوف وتتواصل ملحمة التحرر وتتحقق كل أهداف ثورة 17 ديسمبر المجيدة وثورات الموجة الأولى والثانية والموجات الأخرى للربيع العربي إلى أن ينجلي الليل وينكسر كل قيد.
وفقكم الله لما فيه خير الشعب والأمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد منصف المرزوقي
تونس 23 -11-2019