الأستاذة ألفة الهلالي
مقدّمة
منذ نشر الرئيس الدكتور المنصف المرزوقي مسامراته رمضان الماضي (2017) على صفحته في الفيسبوك و خاصة منذ صدورها كتابا مستقلا (2018) أمضاه في معرض تونس الدولي للكتاب, أمطرت السماء بسؤال ملح:
ما علاقة المرزوقي بالشعر؟
لقد مثّل اهتمامه بالشعر مفاجأة لمن هو على غير علم بعد بحجم اهتماماته فاختصر المرزوقي في السياسي الذي ناضل ضد الدكتاتورية قبل الثورة وحكم البلاد بعدها ويواصل اليوم نضاله السياسي معارضا للنظام القائم في سبيل تونس ديمقراطية وعالم عربي ناهض.
نادرا ما التفت الناس إلى وجوه أخرى للدكتور المرزوقي تنضاف إلى وجه السياسي فيه وربما تتقاطع معه وهو أمر متوقّع في مرحلة مثل المرحلة التي يجتازها العالم العربي اليوم، مرحلة يبدو فيها المعطى السياسي سيد المعطيات المقررة للمصير وتبدو الاهتمامات الأدبية للكثيرين، “ثانوية”، “هامشية”، لاحترامها سرعة هي غير سرعة القرار السياسي، أعني سرعة بطيئة لا تناسب “عاجلية” كم المطروح اليوم على التاريخ العربي.
تحتّم لهذا السبب تقديم الكتاب، بمعنى التعريف به ومحاولة إجابة السؤال الملح على العديدين.
نشأة الكتاب
الزمن؟ رمضان 2017. المكان؟ صفحة الدكتور المرزوقي الرسمية على الفيسبوك.
كان المرزوقي قد وعد قرّاءه وأوفى بلقاء مسائي ينشر فيه مسامرة رائقة يزيّنها بمحاورة جمع مسامريه وقرائه من مرتادي صفحته الرسمية…. فكان الأمر كما قرّر وكانت متعة حوار إنساني لطيف جمع قارئين من العالم العربي كله، عادت فيه السيوف إلى أغمادها، والأقنعة إلى خزائن الأقنعة وعمّ سكون رحيم نادر في المحمل الذي اختاره لنصوصه وهو الفاسبوك.
بطلب من جمهور مسامريه الملح، عزم على نشر المسامرات في كتاب وفعل (صدر عن دار المنوال للنشر -طبعة أولى -أفريل 2018) بعد سنة من لحظة ميلاده، سنة تعهّد فيها نصوصه وأضاف إليها أخرى من جنسها فأتتنا “حوليات” محكمة. كان الكتاب بهذا أكمل وأوفى وهو قدر الكتب المؤلفة وفضلها على غيرها من النصوص.
حافظ المرزوقي في الكتاب على عنوان المسامرة الأصلي “مسامرات رمضانية معفاة من السياسة”
ولكنه جعله ثانيا وصدّر العنوان بتوصيف إضافي هو “شعراء بلا حدود”، هي إضافة تعلن عن مضمون المسامرة ومدارها.
وصف الكتاب
يتمثل الكتاب في تسع وعشرين مسامرة، صدّرها الكاتب بتوطئة.
أفرد كل شاعر بمسامرة وجمع -نادرا-في المسامرة الواحدة بين شاعرين أو أكثر.
أما موطن الثقل و”بيت القصيد” في الكتاب فكامن في نصوص تأليفية ثلاثة لا شك:
أ) -الأول تصدّر الكتاب، هو نص “التوطئة”
ب) -الثاني “في آخر المطاف، ما الشعر؟”
ج) -الثالث “أي مستقبل للشعر؟”
هي –عندي-مواطن الثقل في الكتاب لأنها المواطن التي تمثّل حاصل قراءات المرزوقي وتفاعله مع النصوص التي أطلعنا عليها واختارها. هي أشبه بمفهوم الشعر كما يتمثلّه قارئ نهم، نهمه لا حدود له كما أنه ليس للشعراء الذين اصطفاهم حدود. هي “بيان” شعري ليس فيه أي ادعاء بل انطباع حاول الاستدلال عليه دون أن يدّعي له بذلك انخراطا في “النقد الأدبي” أو المقاربات العلمية وهي جسارة رائقة لأن ملأها الحرية في القراءة والتحرير في التقبّل أيضا.
ليس عجيبا بعد هذا أن تحتل النصوص الثلاثة تخوم الكتاب مبتدأه و منتهاه و كأنها الطوق الفكري الذي يرسم حدود تجربة المرزوقي القارئ مع الشعر.
في معنى “بلا حدود؟”
جاء مركّب الجرّ هذا نعتا ل “شعراء” وأفاد تحرر الكاتب في اصطفائه للشعراء من حدود هي:
– الحدود الجغرافية: انتقى الكاتب شعراء من القارات الخمس فلم يحد اختياره بموضع معين.
شعراء من أفريقيا: سنقور السنغالي / الشابي التونسي / شوقي المصري /…
شعراء من أوروبا: شكسبير الإنجليزي / هوردرلين الألماني / بوشكين الروسي /…
شعراء من أمريكا: والت ويتمان
شعراء من آسيا: عمر الخيام / حافظ الشيرازي / لاوتسو / عمالقة الهايكو الثلاثة / طاغور البنغالي
شعراء من أستراليا: لم يتعرض الكاتب إلى شاعر أو أكثر بعينه من أستراليا ولكنه في تأمله مفهوم الشعر مطلقا انطلق من تجربة حضارة الأبوريجان سكان أستراليا الأصليين ووصل أساطيرهم بما يرى فيه جوهر الشعر (انظر مسامرة: “في آخر المطاف ما الشعر؟”)
– الحدود التاريخية: ينتمي شعراء الكتاب الى فترة عريضة من الزمن تمتد من القرن السابع قبل الميلاد (لاوتسو الصيني) إلى القرن العشرين، فمسح اختياره بهذا تاريخ نظم الإنسانية للشعر تقريبا.
نراه في اصطفائه لشعراء العرب خاصة متعرضا إلى مختلف فترات تاريخ الشعر العربي، فيتعرّض إلى الجاهليين (الشنفرى) تعرّضه إلى المخضرمين (الخنساء) والمسلمين كانوا قدامى (أمويين وعباسيين) أو كلاسيكيين جددا (عصر النهضة) أو محدثين (درويش).
رغم أن اختياره مسح تاريخ الابداع الشعري مسحا كان في حلّ من حدود زمنية تذكر، نلاحظ في الكتاب ميلا خاصا لشعراء القرن التاسع عشر عربا كانوا أو غير عرب (ايليا أبو ماضي اللبناني-الأمريكي/هوردرلين الألماني/طاغور البنغالي/ شيكي الياباني/والت ويتمان الأمريكي/بوشكين الروسي/أحمد شوقي المصري) وهو أمر له دلالة نرجئ البحث فيها في مقال مستقل بإذن الله.
– حدود الجنس البشري فتعرض إلى شعراء تعرضه الى شاعرات
– حدود الأعراق البشرية فاختار شعراء بيضا وسمرا وآخرين من غير البيض والسمر….
– حدود الغرض الأدبي، فتضمّن الكتاب حديثا عن أغراض عربية كلاسيكية (فخر المتنبي)، تضمّنه لأغراض عربية قديمة-محدثة (زهديات أبي العتاهية/ خمريات أبي نواس)، كما عرّج على الأغراض العربية الحديثة مثل الشعر الفلسفي (إيليا أبي ماضي) أو الشعر السياسي (محمود درويش)، بل لم يقف عند أغراض الشعر العربي فتعرّض إلى أغراض طريفة من منظور العرب وهو يتعرض إلى شعر الهايكو الياباني.
– حدود الدين: فتعرض إلى شعراء مسلمين وآخرين مسيحيين و براهمانيين.
– حدود المدرسة الفنّية: اصطفى شعراء كلاسيكيين (الشنفرى) وآخرين كلاسيكيين جددا (أحمد شوقي) ورومنطيقيين (الشابي/ أبو ماضي) وشعراء ملتزمين (درويش)، بل تجاوز مدارس العرب الشعرية الفنية ليختار نصوصا لشعراء الصوفية (الشيرازي/ ابن عربي/ الخيام)
– حدود الإشعاع: اختار الكاتب الحديث في شعراء مغمورين لا يعرفهم غير “فئران المكتبات“
(والعبارة له) (فرانسوا توسكال الفرنسي/ بلقاسم الشعيلي الشاعر التونسي الشعبي) وأيضا في شعراء مشهورين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس (بوشكين/ الخيام)
– حدود الانقطاع إلى الشعر: بل اختار الكاتب التعرض إلى “شعراء بلا حدود” بمعنى أنهم أفلتوا من حدود الانقطاع إلى كتابة الشعر فكانوا شعراء أتقنوا إضافة إلى نظمهم الشعر صنوفا من الفنون أخرى، مثل طاغور الذي كان شاعرا وروائيا وقصاصا وكاتب مسرحية ورساما وموسيقيا ومثل بوشكين الذي كتب الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية ومثل المعري الذي كان شاعرا وناثرا في آن معا.
الكتاب إذن رحلة مطالعة شرّق فيها المرزوقي وغرّب، ارتحل فيها إلى ماض سحيق وإلى ماض قريب، حلّ فيها في اللحظة الحاضرة وانتهى فيها إلى استشراف الآتي فرسم بعض معالمه كما يتصورها فكان نص “أي مستقبل للشعر؟”
تقاطع جنس “المسامرة” في الكتاب بهذا مع جنس “المختارات” الشعرية فأشبه “أنطولوجيا الشعر العالمي” صاغتها ذائقة المرزوقي الفنية.
جنس الكتاب الأدبي
“المسامرة” جنس أدبي عربي أصيل وهو أحد وجوه “أدب المجالس”. تتوفر في الكتاب شروط ثلاثة تحقق معالم جنس “المسامرة” فيه هي: العقد الأجناسي / بنية الكتاب / أسلوب الكتاب.
معالم تحقّق جنس المسامرة
-1— معلم تحقق جنس “المسامرة” الأول، تصريح الكاتب بذلك منذ عنوان الكتاب (“مسامرات رمضانية”). إنها الحجة الأجناسية الكبرى اليوم, فإن هذا التصريح الظاهر منذ صفحة الكتاب الخارجية, “عقد فني أجناسي” يصل الكاتب بقارئه فلا يكون له منه خلاص إلا بإنجاز ما وعد به في العنوان, استجاب هذا المنجز لانتظارات المتقبل أو لم يستجب. هذه مسامرات “مرزوقية”, أي نصوص تستجيب لجنس المسامرة كما يتمثله المرزوقي و هو تمثل له سلطة على تجربة القراءة لا تخفى.
-2— معلم جنس المسامرة الثاني بنية الكتاب: نعني استقلال الليالي بعضها عن بعض وتصدّر مقدّمة نظرية للكتاب تشرح مشروعه ومراد الكاتب منه. هي بنية كتب المسامرات العربية عادة المختلفة كل الاختلاف على المسامرات غير عربية مثل مسامرات شهرزاد مثلا بلياليها المتعالقة المتشابكة المفضية كل واحدة منها إلى الأخرى برغبة جامحة في استبقاء الفضول متوقدا و الانتباه مشدودا.
بل يستجيب استقلال “الليالي” –حتى نستعير من أبي حيان التوحيدي المصطلح الذي اختاره في مسامرته لابن سعدان في “الإمتاع و المؤانسة”- بعضها عن البعض الآخر لبنية كتب النثر الفني العربي القديم مطلقا و لا كتب “المسامرات” فقط أي قيامها على جمع النصوص و ترتيبها و إخراجها الإخراج الذي يصبغ عليها من روح صاحبها و بصمته. إنه الوفاء للجاحظ الذي يرى الأدب “جمعا من كل شيء بطرف” ويرى أن “اختيار المرء قطعة من عقله”
-3— المعلم الثالث أسلوب الكتاب: نعني ب “أسلوب” توق نصوصه للجمع بين الجد والهزل وهذا أسلوب المسامرات العربية الكلاسيكية، بل هو أسلوب الأدب مطلقا كما تتمثله المدرسة العربية الكلاسيكية أعني الجاحظية:
– “جدّ” في الحرص على تحقيق وظائف “عالمة” مثل التأريخ (التعريف بالأعلام مثلا) والفلسفة
والتحليل النفسي (الإغراق في تحليل نفسية المتنبي وعقدة تضخم الذات عنده مثلا)، التساؤل عن منزلة الإنسان في الكون والنقد الأدبي.
– “الهزل” نراه في أشكال الحرص على الإمتاع بمختلف الأدوات الفنية، منها:
أ) الطرفة. مثال هذا تعريجه في إحدى المسامرات على جانب من حياة المرزوقي الطفل وغشّه في تمرين المحفوظات
ب) العجيب. مثال هذا استشرافه لآتي الزمن وثوراته التكنولوجية فيما يشبه التأليف في الخيال العلمي.
ج) استحضار الظرفاء. مثال هؤلاء أبو دلامة
د) اللغة الهازلة وهي لغة تحقّق الهزل (وظيفته الحكمة ولا الإضحاك) بطرق مختلفة أهمها: المفارقة الزمنية / المحاكاة الساخرة.
– المفارقة الزمنية (Anachronisme)
نصادفها مثلا في تعرّض الكاتب لشعر لأبي نواس شعوبي لا يعتبر فيه النسب العربي شرفا بالضرورة. يعلّق المرزوقي على هذا قائلا: “ما الذي كان يحصل لأبي نواس أو لشبيه لو نشر هذه الأبيات في الملحق الثقافي للقدس العربي…. مؤكد صدور فتوى بالقتل وشبه مؤكد تعرضه لوابل لا يتوقف من الشتم والسب على صفحات التواصل الاجتماعي”
نصادفها ايضا في تعليقه بمناسبة المسامرة نفسها على حلم العرب مع أبي نواس رغم شعوبيته: “لا أحد شتم أبا نواس أو طالب بتجريده من “جنسيته العباسية” أو مصادرة أملاكه و طرده خارج الحدود”
– المحاكاة الساخرة Parodie))
مثال1: قول الكاتب تعليقا على ما أصابه من ضيم بسبب شعر الشنفرى وهو تلميذ
“هذا ما جناه الشنفرى عليا / وما جنيت على أحد” (محاكاة ساخرة لبيت المعري)
مثال2: قول الكاتب معارضا بيتا للشنفرى
“دعست على غطس وبغش وصحبتي/ أزمة وكارثة ومصيبة وإشكال” (محاكاة ساخرة لبيت الشنفرى)
هي محاكات ساخرة تذكّرنا بأسلوب حسين الجزيري الشاعر التونسي وقد عجّ ديوانه ومطالع القصائد خاصة-بمثل هذه المعارضات الساخرة التي تتجاوز هدف الإضحاك لتقترب من الحكمة.
معالم الخروج عن جنس المسامرة
إن حضر في هذه المسامرات بعض ما يحقق فيها معالم الجنس التراثي الأصيل فإنها عرفت مع هذا جملة من الانزياحات عن جنس المسامرة, انزياحات فاجأت المتقبل لها و خانت فنيا أفق انتظاره, خيانة فنية هي جوهر الفعل الفني الحديث, فتأخذ بهذا الانزياح شكلا فريدا لا صلة له بالشكل التراثي أو هو شكل خروج المرزوقي عن الشكل التراثي و تحقيقه في هذا الجنس بعدا حديثا و معاصرا.
مظاهر الانزياح ثلاثة (توزيع الأدوار/ المحمل/ الوظيفة)
-1 توزيع الأدوار:
لا يخفى على أحد أن مقام المسامرة التقليدي مقام “خاصة” عادة، يكون لصاحب المجلس فيه سلطة ما، سياسية أو اجتماعية في أغلب الأحيان. يدعو صاحب السلطة لمسامرته بعض “الخاصة” أيضا من علماء عصره و مثقفيهم أي ممن تتوفر فيهم سلطة أخرى هي سلطة المعرفة.
تخدم بهذا المجموعة الفرد وتكون رهن إشارته، فيكون الشكل الغالب على توزيع الأدوار عندها الشكل العمودي: صاحب المجلس الآمر والمسامرون مستجيبون.
بل إن الآداب قديما أفردت نصوصا طويلة مفصلة في آداب المجلس وآداب الجليس وشروط مجالسة أصحاب السلطة أولئك، شروط علمية وأخلاقية وأخرى متعلقة بالسلوك الاجتماعي وحتى بالمظهر الخارجي فإنه لا يرقى إلى مجالسة “الخاصة” ومسامرتهم من شاء.
أما المسامرة المرزوقية فقد انقلبت فيها الأدوار بتحول الشكل العمودي فيها شكلا أفقيا: فقد سامر فيها صاحب المقام (الصفحة الألكترونية) -و قد توفرت فيه وجوه متعددة للسلطة سياسية كانت أوعلمية أو رمزية. – جمع قرائه، وتقاسم معهم سلطة المقام بإشراكهم، فأشبه الحديث “الدردشة” -كما يقول الكاتب-وفي هذا ما فيه من تصرف في العلاقة التي تجمع تراثيا بين المتسامرين.
يمكن أن نقول على سبيل التمثيل, إنها كانت “مسامرة تشاركية” لا في نص المسامرة و لكن في توزيع أدوار المقام.
نلمس هذا الميل الى “التشاركية” في تعليله حبّه السمر مطلقا فيقول: “نحبّه لأن حديثه ليس درسا يلّقن فيه عالم جاهلا، إرشادا، وعظا، ملامة، عتابا، مناظرة فيها غالب ومغلوب، إنما هو ثرثرة لا رهان فيها، كلام مسترسل على سجيته يختلط فيه الجد بالهزل والخاص بالعام”. في هذا القول بيان لانزياحه المطلق على توزيع الادوار التقليدي في مقام المسامرة.
-2 المحمل
المحمل أيضا طريف أعني الفيسبوك، اختاره المرزوقي للخلاص من عيب المسامرة التقليدية وقد جرّبها (حدثنا عن تجربته المريرة معها في التوطئة)، يتمثل هذا العيب في خروجها في الأحوال كلها عما اختاره لها المرزوقي لتفضي إلى موضوع واحد أحد “السياسة، السياسة، السياسة ” أولا وأخيرا.
المحمل الإلكتروني حقق له الالتزام بالمضمون الذي يريد فأسمعه مسامريه دون مقاطعة تذكر أو “انقلاب” على إرادته. يقول في هذا: “أستطيع أن اقترح –حتى لا أقول أفرض-على سمّاري منذ البداية موضوعا أدبيا”.
هو محمل طريف أيضا لأنه محمل وسيط بين الشفوي والمكتوب، له من المكتوب الحروف المخطوطة والإنشاء وله من الشفوي العفوية والتواصل المباشر مع الجمهور وردود فعله وتعليقاته. هو إذن محمل مثالي حقق حرية الجميع، حرية صاحب المقام في اختيار مضمون نصه وحرية مجالسيه في رد الفعل والمحاورة.
لسائل أن يسأل: لماذا التوفيق بين الشكل التراثي والمحمل الحديث هذا؟ هل هي إرادة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة؟ يقول المرزوقي: “لماذا لا أكون رجل عصري وأجرب المسامرة في هذا الفضاء؟”
لا يحضر المحمل –عندي-باعتباره شكلا من أشكال “التزيين” المعاصر لجنس أدبي ضارب في القدم، بل يدل اختيار الكاتب لمحمل الفايسبوك على طموح معاصر وعاجل هو “دمقرطة للثقافة”، هذا الحلم الذي حلمت به الدولة في أوروبا وحاولت انجازها فلم تفلح إلا قليلا (أندري مالرو في فرنسا مثلا). حلمت بها الدولة الوطنية عندنا فلم تعرف توفيقا أكبر (بورقيبة خاصة) وطمح إليها الساسة والمثقفون والفلاسفة والناشطون في المجتمع المدني في كل برّ. لكن خلافا لكل منتظر أنجزها رجال التكنولوجيا و العلوم: “الانترنات” هي اليوم محرك دمقرطة الثقافة الأول, هو المحمل الذي قدر على نشر الثقافة دون قيد أو شرط و أتاح –في سياق حديثنا- للمسامرة المرزوقية أن يشترك في تقبلها آلاف من كل حدب و صوب. هذا المحمل هو ما أملى على الكاتب أيضا صنفا من النصوص المستجيبة لمساحة الكتابة في الفيسبوك أعني “المسامرة”، بل لاحظت شخصيا عودة كثير من أجناس الأدب التراثية بمناسبة انتشار هذا المحمل، أجناس تناسب شروط الفيسبوك مثل: الخبر والملحة والمقامة والمسامرة، في حين تغيب أجناس أخرى من هذا المحمل مثل الرواية أو القصة.
أعني ب “الشروط”:
– الحجم المادي/القصر (الذي يعني التركيز و لا يعني السطحية) و هو حجم يستجيب اليوم للعلاقة الجديدة التي تصل الانسان المعاصر بالزمن و هي غير العلاقة التي وصلته أمس به.
– استقلال الوحدات و هو أمر مريح في تجربة نشأت في اتصال مباشر مع الجمهور.
-3 الوظيفة
نادرا ما كانت المسامرات التراثية تنفتح على ذات المسامر فنرى الهمّ فيها مصبوبا كله على وجوه العلم والآداب مقصودة لذاتها أو منطلقا وتمهيدا لوظائف فيها جانب تعليمي أكيد بما في ذلك الوعظ، وعظ صاحب المقام وتدريبه على السلطة وفنونها (أنظر مسامرات بيدبا الفيلسوف لدبشليم الملك مثلا في كليلة و دمنة).
الحديث عن الذات توجّه لا تعرفه مسامرات التراث إلا نادرا، فإن حضر فإن حضوره يكون مختصرا يراد به عادة شكل من أشكال التكسّب عبر شكوى الدهر ووصف الضنك …. (مما رأيناه في مسامرة التوحيدي مثلا وشكواه لابن سعدان من “الكسيرة اليابسة” و “البقيلة الذاوية”).
أما المسامرة المرزوقية فإنها مغرقة في الذات إغراقا يجعلها تنفتح على أسلوب الكتابة السير-ذاتية وهو بعض ما به تنزاح عن وظائف المسامرة التراثية.
من وجوه هذا التوجه السير ذاتي في المسامرة المرزوقية:
حضور الشعراء في كثير من المسامرات المرزوقية معبرا الى الذكريات الحميمة، فنرى المنطلق فيها حدثا طبع المرزوقي في مختلف فترات حياته، طبع طفولته أو شبابه أو كهولته، طبع الإنسان فيه أو الحقوقي أو رجل الدولة…. يكون هذا الحدث عندها معبرا إلى هذا الشاعر أو ذاك يعرف به حينا، يوافقه حينا آخر بل ويختلف معه أحيانا أخرى……وهو في كل الأحوال يحاوره فيحاور نفسه ويحاور مسامريه…. هذا المزيج هو جوهر أسلوب الكتاب السير ذاتية. مثال ذلك:
المرزوقي الطفل
– المعبر إلى الشنفرى: ذكريات الطفل الذي عوقب لأنه لم ينجز ما طلب منه, لم ينجزه لأنه بدت له أبيات للشنفرى أشبه بطلاسم
– المعبر الى الخنساء: للمرزوقي أخت توفيت رحمها الله و هي طفلة تحمل الاسم نفسه, فيتساءل : لماذا اختار والده لابنته هذا الاسم…
المرزوقي الحقوقي
– يقول بمناسبة محاورته الشنفرى: “كيف يمكن التفاخر بالسطو و القتل و كيف لفارس أن يتبجح بأنه جعل من نساء ثكالى و من أطفال يتامى”
– نراه في سبيل نبذ العنف يراجع صورة شخصية هامشية هازلة عرفها تاريخ الأدب (أبو دلامة) فيخرجها من صنف “الظرفاء” ليجعل منها نموذجا ل”البطل المضاد” بسبب رفض هذه الشخصية النزال في أحد أخبارها و هو عند المرزوقي موقف نبذ للعنف و لا موقف جبان.
المرزوقي المناضل المضطهد
تستوقفه في مواضع أخرى من الكتاب نصوص شعرية يراجع من خلال محاورتها مسار نضاله، فيعزي النفس حينا ويشك حينا آخر ويصر ويثبت في أغلب الأحيان وهو في كل الأحوال يحاور ذاته وهو يحاور الشعراء. من أمثلة ذلك:
– لحظة تعزي
بمناسبة تعرضه لنصوص أبي العلاء المعري يقول معللا: ” لم يكن من باب الصدفة أن أعود لرهين المحبسين أنا شبه المحبوس في بيتي و أن يشدني تصوره للحياة”
– لحظة الشك
بمناسبة تعرضه لنصوص أبي الطيب المتنبي يعلق على قول ابي الطيب:
“الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم”
ثم يعلق: “لسنوات طويلة شكّل لي البيت منغّصا أساسيا وهو يهمس في فكري “ناضل من أجل العدل يا سيزيف”
– لحظة الإصرار
الإصرار هو ما تنتهي إليه محاورته الشعراء كلهم فإن الكاتب لم يتوقف مرة واحدة عند الإحباط لا يبرحه، وسيلته في ذلك الانفتاح على أمرين مترابطين: التاريخ الإنساني وجوهر الإنسان العابر للتاريخ كله.
نرى هذه الروح المصرة الايجابية في مظاهر متواترة في الكتاب , منها اللحظات كلها التي تنفتح فيها هذه الذات على الذات الانسانية مطلقا يحاورها راجيا هدفا وحيدا: إعادة التوازن إليها:
– فنراه يرد المتشائم الى التفاؤل. يقول في سياق تعرضه الى تشاؤم أبي العلاء المعري : “أدقق النظر في الأبيات بحثا عن بعض النور في كل هذا الظلام (يعني تصور المعري للحياة و الموت). ثمة بداخلي شيء يقول: الرجل أذكى من أن يتوقف عند النصف الفارغ من الكأس. على أن أنقب في شعره عن اعتراف ولو ضمني بأن الحياة لا تختزل في هذه اللعنة التي يصف”. يواصل الكاتب البحث الى حين يهتدي في الأخير إلى بيت يعترف فيه المعري أن الحياة نبع لذيذ.
– يبحث في سر تورم الذات عند البعض و الميل إلى جلدها عند البعض الآخر.
تورم الذات في فخر المتنبي و غيره (عمرو بن كلثوم / عنترة /المعري / بشار بن برد… مثلا) عند المرزوقي, دليل جرح غائر في نفوس الفاخرين يدعوه المرزوقي “الجرح المؤسس”.
– تظل استعاره إصراره على الروح الإيجابية أسلوبيا ميله في أحيان كثيرة الى تمرين “المعارضة الشعرية” التي تنقض المعاني و تعكس اتجاهها. مثال ذلك معارضته بيت المتنبي قائلا:
“العدل من شيم النفوس فإن تجد ذا زلة فلعلة لا يعدل”
في هذا الصدور عن الذات وجراحاتها، انفتاح على الإنسان مطلقا ومحاولة فهم آلامه من أجل إشفائها. لا عجب والرجل طبيب أولا وهي صفة أنشأت فيه آليات ردود فعل لم تزل عنه وهو مشتغل بمختلف الوظائف، في نضاله من أجل هدم الديكتاتورية كما في تقلّده رئاسة الدولة وهي إلى الآن ترافق نشاطه السياسي والحقوقي. في هذا نلمس التوجه التر جذاتي:
لا يكتب الادباء سيرهم حتى تظل تجارب مدوّنة “عبرا لمن يعتبر”، بقدر ما يكتبون سيرهم ليرتبوا عبر نظام اللغة حياتهم المبعثرة وليحاولوا السيطرة عبر سلطة الكلمة على واقع خارج السيطرة وليجدوا مراهم لجراحاتهم الكثيرة التي أصابت ذاتهم فأفاقتهم على جراحات الآخر التوأم إنسانيا…. إنهم بهذا يبنون بلبنات هي الكلمات بيتا يسكنونه في بلاد لفظتهم فيها البيوت كلها غير بيت الأدب.
التوجه السير-ذاتي في كتابات المرزوقي كما في كتابات غيره ممن راج في نصوصه هذا التوجه شكل من أشكال مقاومة الغربة وما تجره من إحساس بانخرام التوازن، فلا ننسى أن إدمان المرزوقي على الشعر والشعراء قدحته أيضا “غربته”، نعم غربة المرزوقي التي استمرت عمرا كاملا فقد عاش التهميش السياسي بسبب نضاله فالزم بيته فيما يشبه الإقامة الجبرية سنين قبل أن يغادر البلاد مرغما ويعيش خارجها سنين أخرى.
هي غربته قيمية، تذكّر بغربة البطل الإشكالي في الرواية العربية: البطل الإشكالي الذي يبحث عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور / المرزوقي الباحث عن حقوق الإنسان في دولة الإجرام في حق الإنسان.
يمكن أن نذهب إلى أن “إدمانه” الحميد على الأدب كان خلقا لعالم بديل يعيش فيه مع أشباه له أي تواقين بالحلم إلى خلق هذا العالم بديل, عالم الشعر, خاصة أن للشعر عند الرجل مفهوما خاصا جدا: ليس الشعر عنده الكلام الموزون المقفى بل هو شوق النفس إلى زمن البدايات, زمن الحلم…………. يؤكد المرزوقي في مسامرة له رائعة على مركزية الحلم باعتباره عنصرا أساسيا في بناء تصور الابوريجان –سكان أستراليا الأصليين- للعالم و لمكان الإنسان فيه (مسامرة: “في آخر المطاف, ما الشعر ؟”).
خاتمة
يمكن أن يعترض على “غربة المرزوقي” بسؤال: كيف أمكن لهذا الغريب عن الآخرين أن يمثل الآخرين و الذات و الجميع في لحظة تاريخية معينة هي اللحظة التي ارتقى فيها الى حكم البلاد ؟
الجواب: ارتقى الى حكم البلاد في اللحظة التي تحول اليها الشعب كله الى شعب غرباء، لحظة الثورة، ثورة المهمشين أي ثورة الغرباء في أوطانهم.
اليوم لم يعد المرزوقي حاكما للبلاد ولكنه لن يعود مع هذا الى غربته فإن الثورة التونسية بل الثورات العربية مطلقا كانت الرحم الذي وضع “شعب المواطنين” الذي فهم أخيرا أنه أهل البلد وأنه ليس للبلد أهل غيره.
تونس 20 -7-2018