من حقك بل من واجبك تنظيفٌ دوري للذهن، كأن تنسى ولو لحظة منشار ابن سلمان… وسيارة الشاهد… وأموال الرياحي… ومعطف السبسي وسروال عبد الرحمان.
أدِرْ ظهرك للمستنقع. سدَّ أنفك وابحث عن الهواء النقي وشساعة الرؤية بتسلق جبل، سواءً أكان من صخر أو من فِكْر.
الجبل الذي أتسلقه هذه الأيام بكثير من المشقة واللذة هو “رسالة الغفران” للمعري (ذخائر العرب-دار المعارف-الطبعة التاسعة-تحقيق د. عائشة عبد الرحمان.)
*
تجعلني الظروف أقرأ النص بروح السخرية التي أصبحَت لا تفارقني وقد حُكم عليّ كما حكِم علينا أن نشاهد مآسينا تنقلب مهازل لم يعد ينفع في تحملها إلا الضحك… وعلى كل حال أنت لا تفهم المعري إن لم تتسلّل لعقله الساخر والتهكّمُ حاضرٌ في “الرسالة” من البداية إلى النهاية، متعدد المواضيع ومتعدد الطبقات في كل موضوع.
بالمناسبة، أليس من سخرية الأقدار أن “رسالة الغفران”، وهي أعظم نص أدبي ساخر بالعربية، بقيَت لِقرون مخفية، إلى أن أعادها لنا في نهاية القرن التاسع عشر إنجليزي اسمه نيكلسون؟ ناهيك عن أن عرب العصر لم يقدّروه حق قدره إلا وهم يكتشفون عمق تأثيره في الآداب الأوروبية، وكيف أن الشاعر الإيطالي الكبير دانتي استعار منه الكثير في رائعته “الكوميديا الإلهية”.
إنها نفس الظاهرة التي جعلتنا لا نكتشف ونعشق رباعيات الخيام إلا بفضل إنجليزي آخر اسمه فيتزجرالد.
في نفس السياق تروي الدكتورة عائشة عبد الرحمان، الأديبة الكبيرة التي اشتهرت ب “بنت الشاطئ”، والتي قضت عمرها في تتبع وتدقيق المخطوطات المتفرقة للرسالة، أنها سقطت بالصدفة في قرية مصرية على مخطوط بدون عنوان ولا مؤلف، ينام بين الرفوف منذ زمن لا يعلمه إلا الله… فإذا به “الرسالة” المنسية. صدق عزّ وجلّ في قوله “مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ”.
ربما تناساه القوم وأهملوه كل هذه العصور عمدا لأنهم لم يتحملوا تهكم المعري على فهمهم الساذج للمقدّسات …أو لعجزهم عن فهم عقل أكبر من عقولهم.
أتوغّل في “الرسالة” لأنتبه أنني أقضي في قراءة الهوامش وتفسير المحقّق للكلمات أكثر مما أقضّي من الوقت في قراءة النص نفسه ومن ثمة لحظات الإعياء والتشنّج: يا رجل، كُفّ عنا استعراض عضلاتك اللغوية والبلاغية والنحوية وعدد من تعرف من كبار الشعراء، فالشيء وأنت سيد العارفين إذا بولغ فيه انقلب إلى ضده !!!
انتقام سحري من كاتب موسوعي كما لم تعرف له لغة الضاد مثيلا، يجعلني أكتشف عمق جهلي بلغة كنت أتوهم أنني ضليع بها ومِنها متمكن.
والآن إلى صلب الموضوع.
*
أول من يسخر منه كاتبنا هو ابن القارح أي بطل الرحلة الخيالية العجيبة التي ستحمله لاستكشاف مجاهل الجنة والنار والتعرف على من انتهت بهم تجربة الحياة لسكنى هذه وتلك. وبما أن ابن القارح هو لسان حال المعري فهل يمكن أن نرى في سخريته من ابن القارح سخريته من نفسه؟ تقول كيف؟ انظر إلى الطريقة التي دخل بها البطل الجنة. هولم يدخلها بفضل أعماله الصالحة (وهي معدومة) وإنما بالمحسوبية والتدخلات وبالوساطة (وساطة أهل البيت) وكأن المعري يقول: البشر هم البشر، محتالون دنيا وآخرة، ولا أشذّ عن القاعدة.
لا يطول المقام بابن القارح في الجنة وهي على ما عليه حسب تصورات العامة والقراءات الحرفية للنصوص.
مرحبا بك في الجحيم، إنه مكان أكثر جدارة بالاهتمام والتوقف. كيف لا وأنت تجد فيه كل من تحبّ من فطاحل الشعراء: عنترة، امرؤ القيس، طرفة، الأخطل، الشنفرى وغيرهم.
الأغرب في الأمر ليس وجود خيرة العقول العربية لتلك العصور وإنما الأسباب التي جعلتها تجد نفسها في الأصفاد والأغلال.
قد أفهم أن يُخلّد في جهنم زنديق من اليمن عُرف بالمنصور، مَدح نبيا مزيّفا وجاهر بكفره منشدا:
خذي الدفّ يا هذه والعبي ** وبثّي فضائل هذا النبي
فما نبتغي السعي عند الصفا ** ولا زورة القبر في يثرب
إذا القوم صلّوا فلا تنهضي ** وإن صوّموا فكُلي واشربي
لكن أن يُحكم بالعذاب الأبدي على الأخطل فوالله إنه لضرب من تجاوز السلطة.
أنظر ما يورد المعري على لسان ابن القارح كسبب إدانة الشاعر العبقري بأقصى عقوبة، بما أنه لم يعد هناك خلاص بعقوبة الإعدام:
“وإذا هو برجل يتضوّر فيقول: من هذا؟ فقال: الأخطل التغلبي. فيقول له ما زالت صفتك للخمر حتى غادرتك أكلا للجمر”.(ص 345).
ما الأبيات التي ارتكبها الشاعر لتسلمه لجمر لا ينطفئ أبدا؟ قوله:
فصبّوا عقارا في الإناء كأنها ** إذا لمحوها جذوة تتأكّل
فلذّت لمرتاح وطابت لشارب ** وراجعني منها مراح وأخيل.”
بضعة أبيات في مدح خمر أصبحت مجازة في الجنة كافية لتنتهي إلى الأبد في صقَر!!!
ثمة أيضا سبّ الرؤساء أو حرية الرأي والتعبير كما نسميها اليوم. أنظر لماذا انتهى بشار بن برد أسوأ نهاية. بيت يتيم وإذا هي المصيبة العظمى.
ليس الخليفة بالموجود فالتمسوا ** خليفة الله بين الناي والعود
*
يصل الكلام إلى الخنساء.
تابعْ معي ما يقوله المعري على لسان ابن القارح:
“فإذا هو بامرأة في أقصى الجنة قريبة من المطّلع إلى النار فيقول من أنت؟ فتقول أنا الخنساء السلمية“
لأذكّر هنا الجهّال بالأنساب بأن المرازيق أحفاد بني سليم، وهم قوم الخنساء. مما يعني أنها جدتي الأسطورية وربما الحقيقية، ومن ثَم ابتهاجي بموقف المعري (حتى ولو أن فكرة قضاء جدتي كل الأبدية محفوفة بالغلمان المخلّدين تثير لديّ مشاعر ملتبسة، والكل يعلم فِيمَ يقضّي وقتهم الصالحون والصالحات)
لا علينا من هذه الجنة التي لا شغل فيها غير ممارسة كل ما حرّمه الدين في الدنيا وأباحه في الآخرة. المهمّ. تردّ الخنساء على سؤال ابن القارح عن سبب وجودها على التخوم الفاصلة بين النار والجنة: “أحببتُ أن أنظر إلى صخر فاطّلعت فرأيته كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه، فقال لقد صحّ مزعمك فيّ، يعني قولي:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ** كأنه علَم في رأسه نار” (ص 308)
هنا أتوجه بلغة أهل الحداثة والنمط للمعري: “ستوب” يا هذا … الخنساء خط أحمر!!!!
عدا كونها جدتي الأسطورية وربما الحقيقية، بالله عليكم ألا يكفي أن المرأة بكت طيلة حياتها موت صخر، وها هي بسبب كلمة طائشة تتسبب له فيما هو أفظع من الموت: العذاب الأزلي. مما يعني أنها ستعود من جديد للبكاء أبدية بأكملها. يا للعقاب الرهيب (حتى ولو أن مزيته الوحيدة أنه سيشغل جدتي عن “الغلمان المخلّدين” آنفي الذكر وعدم تعريض شرف القبيلة لما لا يقبله لا الأجداد ولا الأحفاد)
ثمّ كيف يخلّد في النار شخص مثل صخر؟ أليس ….
هو الفتى الكامل الحامي حقيقته ** مأوى الضريك إذا ما جاء منتابا
المجد حُلّتُه والجود علّتُه ** والصدق حوزته إن قرنُه هابا
خطّاب محفلة فرّاج مظلمة ** إن هاب معضلة سَنّى لها بابا
أيُحكم بالعذاب الأبدي على جواد، صادق، “فرّاج مظلمة”؟
هل هذا حقا إله عادل؟ ماذا لو كان أيضا ساديا افتعل الاستجابة لدعاء الخنساء ليسخر من بريئيْن وقعا في حبائل مكره !!!
في مثل هذا الموقع من “الرسالة” لم يعد المعري قادرا على إخفاء نظرته بأن الآخرة كما يروّج لها الخبثاء ويؤمن بها السذّج ليست إلا صورة مضخّمة لدنيا الظلم التي يتمتع فيها صغار النفوس بكل الملذات الحسية البهيمية بينما يحكم على كبار العقول بالشقاء والبؤس.
*
تأتي بعد هذا بنت الشاطئ لتقول لك إن المعري ليس زنديقا.
يا بنت الحلال، الرجل زنديق ونصف، ولم يكذب عليه ابن الجوزي وهو يعدّه إلى جانب التوحيدي وابن الراوندي ثالث أكبر الزنادقة في الإسلام.
أليس هو من قال متهكما على جميع الأديان؟
عجبتُ لِكسرى وأشياعه ** وغسل الوجوه ببول البقر
وقـــول اليـهـود الـه يحـب ** رشاش الدماء وريح القثـر
وقول النصارى إله يُضـــام ** ويُظلــم حيــًّـا ولا ينتصــر
وقوم أتوا من أقاصي البلاد ** لرميِ الجمار ولثم الحجر
كفى حبا أعمى يا ستّي، فأنا أيضا أحب الرجل لكن بعينين مفتوحتين.
هنا قد تواجهك المرأة الطيبة بكم من استشهاد وكأن قائله شيخ تقي ورع من أجود طراز. عيّنة: “الله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسه فينا نصب ولا يمسنا فيها لغوب، فتبارك الله القدوس.” (ص226)
ولو!
*
بنت الشاطئ كالكثيرين، سجينة الثنائيات الساذجة: إما أن تكون مؤمنا وإما أن تكون ملحدا، لذلك رمت بكل إلحاد المعري جانبا لتركّز فقط على إيمانه.
لكن حصر الرجل في إيمانه ونسيان إلحاده مثل حصره في إلحاده وإغفال إيمانه.
فالمعري عقل أوسع من أن تسعه الثنائيات الساذجة، لأنه في الواقع ملحد ومؤمن… مؤمن-ملحد… ”مؤمنملحد ”
أهم سؤال: بماذا هو مؤمن وبماذا هو كافر؟ ما الذي قبله عقله وقلبه وماذا لفظ العقل والقلب؟
بداهة هو مؤمن أشد الإيمان بوجود واحد أحد أرفع من أن يختزل في أي منظومة فكرية وخاصة في ثنائيات تبسط كل شيء مثل ثنائية الظلم والعدل.
هو كافر أشد الكفر بالتصورات السطحية له نتيجة قراءات حرفية ساذجة للنصوص المقدسة وبهذا تراه سبق بتسعة قرون غاندي في مقولته الشهيرة: “إنما الأديان لغات ناقصة يتكلم بها بشر ناقصون في محاولة يائسة للتعبير عن حقيقة كاملة”. هو لم يسخر من الحقيقة الكاملة بل بالعكس أراد أن يخلصها من الأدران التي ألصقت بها لتشع أكثر. هو سخر فقط من اللغة الناقصة ومن الناقصين الذين يستعملونها كأنه يقول لهم: أفيقوا، أنضجوا.
قيل عن رابعة العدوية أنها ردّت على من سألوها إلى أين تركضين بهذا المشعل الملتهب وبهذا الطشت من الماء؟ قالت لأطفئ نار جهنم بالماء وأحرق الجنة بهذا اللهب حتى يعبد البشر الله دون خوف أو طمع. لم يفعل المعري إلا نفس الشيء ولنفس الهدف والماء والنار عنده الكلمات.
المعري صاحب معادلة وفّقت في تربيع الدائرة: الايمان العميق الطاهر غير الخائف غير الطامع في الذي يعطي لكل موجود وجوده ولكل معنى معناه + التمسك بمكارم الأخلاق التي جاء الرسول الكريم ليعلمنا إياها+ التصدي بالسخرية والتنديد لتدين الخبثاء وهم لا يبتغون به إلا الدنيا + الصبر على تديّن البؤساء وهم لا يبتغون به إلا العزاء والسلوى لكل ما رفضته لهم هذه الدنيا.
*
لم يبق لي إلا ذريعةُ تغفر للمعري فعله بصخر وبالخنساء: العَدَس طبعا.
كان الرجل معرضا عن كل ملذات الدنيا-ومن ثمة ضعف إغراء ملذات ” آخرتهم”. كان نباتيا عاش طول عمره على الخبز الحافي والعدس. مؤكَّدٌ أنه كان في أوج عسر هضم عدس مغشوش فتعكّر مزاجه وشاءت الصدف اللعينة أن يحدث ذلك وهو يكتب في الخنساء.
تقول: أتسخر يا هذا من شيخ الساخرين؟ لا والله لن أتجاسر على رجل قال مغلقا الباب في وجه كل متطاول:
وما يُضير البحر أمسى زاخرا ** أنْ رمَى فيه غلامٌ بِحجرْ
رحم الله أبا العلاء. أتعبَ كارهيه كما أتعب محبّيه على مر العصور.
سَمَّوه رهين المحبسين: البيت والعمى، والحال أنه كان وسيبقى طليق الحريتين: حرية الفكر والحرية القصوى التي لا يحققها إلا التعفف والزهد.