الثورة الفكرية التي نحتاج
من كان يتصور في ستينيات القرن الماضي هذا الكم الهائل من الطائفية والقبلية والجهوية والحقد الطبقي الموجود داخل مجتمعاتنا؟ أنكرنا وجود هذه الشقوق وغطيناها بقشرة سميناها الوطنية أو القومية، فجاءت الأحداث لترمي في وجوهنا بكل المطمور الكريه الذي فشل الفكر في تشخيصه في الإبان، وفشل العمل السياسي في علاجه قبل استفحال المرض.
كأن الشقوق الموروثة من أعماق التاريخ لم تكن تكفي، فانضاف إليها منذ منتصف القرن الماضي شرخ الإسلاميين (بمختلف أصنافهم) والحداثيين (بتسمياتهم المختلفة: علمانيين، ليبراليين، لائكيين، يساريين.. الخ)، لتزداد الأوضاع تعقيدا وتعفنا.
لم يكن الصراع بين التيارين أبدا تنافسا على البناء وتداولا عليه وإنما كان ولا يزال تنافسا على الوصاية والإقصاء، وكل تيار ينفي وجود جزء من المجتمع أو يحقره أو ينكل به كلما أمكنه الأمر، دون أن يكون له بالمقابل عطاء يذكر.
فلا الحداثيون أثبتوا عندما حكموا قدرتهم على حل مشاكل المجتمع، ولا الإسلاميون حين حكموا أثبتوا جدارتهم بما علقت عليهم الشعوب من آمال. هكذا لم يبق من مبرر للوجود أو بضاعة للتسويق، غير التخويف من الطرف الآخر والتجييش ضده ليوهِم أبطالُ “الحداثة” المجتمعَ أنهم يحمونه من ”الظلاميين”، أو ليوهمه فرسان الإسلام السياسي أنهم درعه ضد “المنبتين” وعملاء الغرب”.
يا للثمن الإنساني الباهظ!
هل يستطيع أي مؤرخ أن يقدر كم من قتيل وسجين ومعذب وثكلى وأرملة ويتيم ولاجئ دُمرت حياتهم في الجزائر ومصر وتونس وبقية الأقطار؟ لا أظن أن وحدة الإحصاء إلا مئات الآلاف، وأفظع ما في الأمر عبثية هذه التكلفة.
اجتماعيا الثمن كالتالي:
1- مناخ متزايد التشنج والعنف والانقسام، وصل حد التغني- كما حصل بعد انقلاب السيسي- بأغنية لا تُغفر: “أنتم شعب واحنا شعب”.
2- هدر لطاقات هائلة، بدل استثمارها في محاربة الآفات الحقيقية، أساسا الفقر والبطالة والفساد، وكلها مشاكل لها حلول أخلاقية وسياسية واقتصادية لا تربطها أي علاقة عضوية أو ضرورية بأيديولوجيا هذا أو ذاك.
3- إطالة عمر سبب وأصل جل الآفات؛ ألا وهو الاستبداد. فكم من حداثيين ارتموا في أحضان النظام القديم لحمايتهم من الغول الإسلامي مثلما حدث في تونس التسعينات. وكم من إسلاميين ارتموا في نفس الأحضان لحمايتهم من الاستئصال كما حدث في نفس البلد مؤخرا، وهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.
أما النتيجة فهي دوما في صالح المفسدين وآخر همهم ما يتخاصم حوله الأغبياء من أفكار، وأول همهم ما يتخاصم حوله الخبثاء من أموال.
على العقلاء اليوم أكثر من أي وقت مضى -وهم متواجدون داخل كل الأحزاب والتيارات الفكرية- كسر هذا الاستقطاب الثنائي كسبب، فهو من أهم أسباب شقائنا وتخلفنا.
كيف؟ عبر معركتين لن تكونا سهلتين:
المعركة الأولى سياسية لبلورة أحزاب القرن الواحد والعشرين، ولا مكان فيها لأصحاب الرؤى الشمولية والحلول الجاهزة وتحقير أي مكون من مكونات المجتمع. أحزاب تجمع أصحابها أهداف وقيم قاطعة للأيديولوجيات، وقِيَم عابرة للأيديولوجيات. فلا الأخلاق كانت يوما حكرا على الإسلاميين، ولا حب الطبقات الفقيرة كان حكرا على اليسار، ولا الحداثة علامة مسجلة لا يملكها إلا العلمانيون وحدهم.
المعركة الثانية فكرية؛ إذ على هذه الأحزاب أن تبلور وتدافع وتجسم فكرا مخالفا تماما لفكر التوأمين العدوين، وإلا فلن تفعل إلا إضافة الفشل إلى الفشل. مما يعني أن علينا الآن وضع ذلك الفكر على طاولة التشريح لنفهم مكمن أمراضه القاتلة فنتفاداها.
*
الظاهرة التي استرعت انتباهي منذ الشباب وأنا في جدل فكري مستمر مع الطيف العقائدي هي التباين الشديد في الأفكار والتشابه الكبير في طريقة التفكير.
تدريجيا تحول فضولي العلمي من أطروحات الطرفين إلى محاولة فهم طريقة تفكير أصحابها. أنتج هذا البحث كتابا له اليوم ربع قرن من العمر أسميتُه “في سجن العقل” (وهو متوفر على موقعي الإلكتروني) حاولت فيه وصف كل ما يجمع بين العقائديين على اختلاف مللهم ونحلهم.
إنه نفس الغرور والرفض للآخر، إنها نفس المنهجية في تبسيط المعقد وتثبيت المتحرك، إنها نفس الاستنتاجات التي لا تعرف الشك أو النسبية.
لا أبعدَ من إسلامي متشدد عن حداثي متشدد في الظاهر.. وفي العمق لا أقرب لحداثي متشدد من إسلامي متشدد. إنهما توأمان مشدودان من عظم الصدر وُلِدا من نفس رحم الفكر الشمولي، وكل واحد مآله الموت إن فصلْته عن نصفه الآخر، لأنه لا يوجد إلا بوجوده ولا يتواصل إلا بتواصله.
للأمانة، لا أدعي سبقا فقد انتبه ابن المقفع منذ قرون للظاهرة، وله وصف رائع يقول فيه: “وأما الملل فكثيرة ومختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاثة أصناف: قوم ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أكرهوا عليه حتى ولجوا فيه، وآخرون يبتغون به الدنيا. وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى وأن من خالفه على خطأ وضلالة”.
قناعة كل عقائدي “أنه على صواب وهدى وأن من خالفه على خطأ وضلالة” هي حجر الزاوية في العقلية المشتركة. لا أعرف عقائديا واحدا متزمتا كان أو متسامحا، لا ينظر إليك باستعلاء إن كنت من غير أبناء القبيلة الأيديولوجية المالكة للحقيقة. هذا الغرور هو مقتل كل فكر لأن المغتر لا يرى العمود الذي في عينه في حين يرى القشة في عيون الآخرين-كما يقول السيد المسيح- وفي الأخير ينتهى أعمى فكريا لا يرى شيئا.
الخاصية المشتركة الثانية هي إنكار أهم ما يميز الواقع الذي نحاول فهمه وتغييره أي التعقيد والحركية. يقول ماكسيم رودنسون “إن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة. إن هذا التراث كالكتاب المقدس (أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها) حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيها ما يؤيد ضلالته”.
عم يتحدثون داخل ما يسمى علمانية؟ عن الفرنسية المتشددة أو الفرنسية المعتدلة، عن البريطانية، عن التركية الكمالية؟ قس على نفس المنوال بخصوص أصحاب نظرية ”الإسلام (أي الإسلام السياسي) هو الحل’.. هم أيضا بالعشرات وربما بالمئات والطيف يتزايد تعقيدا وتشرذما، فداخله تجد حل داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وحل القاعدة وحل الإخوان وحل النهضة وحل حزب التحرير وحل آيات الله.. الخ، فأي هذه الحلول هو الحل؟
لكن ”لمن تقرأ زابورك يا داوود” فالفكر العقائدي لا يتعامل مع الواقع، أي مع عشرات ”الحداثات” المتناقضة بينها، وعشرات أنواع “الإسلام السياسي” المتناحرة بينها، وإنما تراه غير معترف إلا بمفاهيم هلامية ليس لها فعل في الواقع مثل الإسلام والحداثة والديمقراطية والاشتراكية (هكذا في المطلق).
كل هذه المفاهيم مجرد ”فكريات” أي كائنات نظرية خيالية تعيش في فضاء الرموز، ذلك العالَم الذي لا يرتاده إلا عتاة المثقفين المتحصنين من فوضى الواقع في أبراجهم العاجية. وهذا واقع انفصل منذ زمن بعيد عن واقع الناس، يختلق فيه المثقفون معارك وهمية بل ويقومون فيه أيضا بمصالحات وهمية. لا أتذكر كل الذين ضيعوا شبابهم في التوفيق بين الإسلام والاشتراكية إلا وجاءتني نوبة من العطف على المساكين.
إن موت آنشتاين ونيلس بوهر، أكبر عالمي عالميْن بالفيزياء في القرن العشرين، لم يلغ تناقض رؤيتهما حول طبيعة القوى التي تتحكم في الطبيعة، والنقاش إلى اليوم على أشده بين أتباع هذا وذاك، لمحاولة إيجاد نظرية توفق بين رؤيتي الرجلين العظيمين. أما إشكالية التوفيق بين الإسلام والاشتراكية فقد اختفت بين عشية وضحاها بعد انهيار الاشتراكية، مما يدل على أنها لم تكن إلا إشكالية موسمية كالكثير من المشاكل التي يصطنعها الفكر العقائدي.
تُكرر نفس العقول اليوم الظاهرة، لإيجاد توافق بين بين الإسلام والديمقراطية؛ لكن أي إسلام من بين المذكورين أعلاه يتماشى مع الديمقراطية وماذا نفعل بالأنواع الأخرى التي لا تتوافق معها؟ هل نكفرها باسم الديمقراطية بعد أن كُفرت الديمقراطية باسم هذا الإسلام السياسي أو ذاك؟ ثم من يدعم قول هذا الطرف أو ذاك، بأنه ممثل الإسلام ”الصحيح”، وكل واحد يدعي ذلك ولا دليل له إلا دعواه. ضف لهذا أن الديمقراطية، الواحدة في النظرية، هي في الواقع ديمقراطيات، وأنها ملأى بالعيوب والنواقص وفي تغيير وتغير مستمر. كيف يكون التوفيق بين شيئين تعصف داخلهما التناقضات ولا يتوقفان عن التغيير؟
العلاقة الوحيدة بالواقع هي أن هذا التوفيق والتلفيق أصبح “بزنس” يتعيش منه البعض وتموله أطراف خبيثة لخدمة مصالحها، ويوم تغير هذه الأطراف سياستها فسيكون على المعتاشين الاختفاء أو البحث عن ممولين آخرين لهم مصلحة ما في هذا ”البزنس التوفيقي”.
يبقى أن أهم ما يجمع بين العقائديين ليس الغرور والسطحية واختلاق الحروب ومعاهدات السلام الوهمية، وإنما التبعية.
علمنا ابن خلدون أن من طبيعة المهزوم تقليد المنتصر، وهذا بالضبط لب تفكير الطرفين. ثمة طرف يقلد المنتصر في التاريخ، أي أجدادنا الحقيقيين والخياليين، وطرف يقلد المنتصر في الجغرافيا، أي الغرب كما هو في الخيال وفي الواقع.
انظر لمتشدد إسلامي وسترى كاريكاتور التبعية للتاريخ، وانظر لمتشدد حداثي وسترى كاريكاتور التبعية للجغرافيا. هذا يواصل في فكره بشرا كانوا لا يرون حرجا في السبي والتجارة بالعبيد، وذاك يواصل بشرا يرون قمة الحداثة في زواج المثليين. هذه تلبس برقعا لا يرى منها إلا عينيها وتلك تدفع ثمنا باهظا في سروال جينز ممزق -بأناقة- عند الركبتين. يوم ترون نساءنا بزي عربي لم نستورده لا من الماضي ولا من الخارج وإنما من عبقرية مصممي الأزياء العرب، وتتسابق على لبسه أنيقات باريس وطوكيو وبوسطن، يومها يمكن الجزم بأننا لم نعد أمة عاقرة، لأن تصدير الأزياء لن يكون إلا الجزء الظاهر من تفوق الأمة في بقية الميادين.
كيف ومتى سيفهم الناس أننا نحن العرب العاربة والمستعربة لبداية القرن الواحد والعشرين، لسنا لا عرب القرن الأول من الهجرة ولا غربيين سمرا أو غير ذلك.
إن الرسول الأعظم لم يأت لاجترار القديم ولا للبحث عن حل وسط مع النظام القرشي، ولم يتفادَ الصراع معه، وإنما جاء لتجديد جذري في البنية الفكرية والسياسية لبني قومه.
نفس الشيء عن الحداثة الغربية. هي بُنيت على القطع الجذري مع الفكر اللاهوتي القديم وقد دفع مفكرون مثل جيوردانو برونو وقاليليوغاليلي ثمنا باهظا لهذه الحرية، لكنهم عبدو الطريق الذي أوصل الغربيين للمشي فوق سطح القمر.
الأهم من هذا أن تطوير الفكر في الحالتين كان من داخل المنظومة، فالحداثة الغربية مثل الطفرة الإسلامية كانتا نتيجة فعل مفكرين محليين متجذرين في واقعهم أبدعوا وطوروا وجددوا وأحيانا نقلوا، لكن بلغتهم وبمحض الإرادة ومن موقع استقلالية الخيار والقرار.
من هذه القراءة نستخلص الدروس التالية:
– أنت لن تفهم ولن تطور واقعا بمجرد أن تُسقِط عليه قراءات مستوردة من الماضي أو من الخارج.
– أنت لن تفهم ولن تطور عالما يتحرك بأفكار ثابتة.
– أنت لن تفهم ولن تطور واقعا معقدا بتفكير تبسيطي.
– أنت لن تفهم ولن تطور واقع مجتمع إلا من داخله وبمواكبة خصائصه الثقافية والموضوعية وديناميكية صراع مكوناته.
– أنت لن تفهم ولن تطور واقع مجتمع بالقطع الكلي عبر فرض قطيعته كُليا مع تراثه، ولا بالتواصل الكلي معه عبر فرض تواصله حصريا مع ذلك التراث، لأن حاجة المجتمع للاستقرار حاجته للتغيير، وحاجته للتغيير حاجته للاستقرار.
– أنت لن تفهم ولن تطور واقعا هو تجربة عظمى بعقل غير تجريبي، والعقل التجريبي هو الذي يتعلم من الأخطاء ولا يبررها.
– أنت لا تكون عنصرا فعالا في مجتمع يبحث عن توازنات صعبة داخل حركية هوجاء وتعقيد متصاعد إلا إذا كنت عنصر تجديد لا عنصر تقليد، وشعارك:
“إن الفتى من يقول ها أنا ذا***ليس الفتى من يقول كان أبي”.
منصف المرزوقي
رئيس تونس السابق
الثورة الفكرية التي نحتاج
[:ar]