في الجزيرة نت
هذه “الديمقراطيات” المبغّضة للديمقراطية
الخميس 29 نيسان (أبريل) 2010
كأنّ هناك لعنة مسلطة على مشروع الدمقرطة العربية الذي خرج في سبعينات القرن الماضي من رحم المجتمعات العربية وبدفع من نخبها العلمانية واليسارية ، هو والمشروع الإسلامي تقريبا في نفس الفترة ، كأحد ردّي الأمة على الهزيمة الكبرى للنظام السياسي العربي قبل وأثناء وبعد 1967. لا يستطيع المرء إلا أن يضحك ضحكة صفراء أمام قدرتنا الباهرة على إفراغ الديمقراطية من كل محتوى وعبقريتنا في تزييفها بضرب هذا المبدأ الأساسي أو ذاك. لنستعرض بعض ” الإنجازات”.
1- لا أحد يجهل لا داخل تونس ولا خارجها أن الانتخابات دوما تسعينية ، أن الرئاسة مؤبدة، أن” الأحزاب المعارضة ” الموالية نصفها بوليس والنصف الآخر انتهازيون ، أن مقاعد ” البرلمان” موزعة بينها حسب الولاء ، أن الأحزاب الرافضة لكل شرعية للدكتاتورية ممنوعة وملاحقة، أن أحزاب ما بين المنزلتين تتحرّك داخل ربع سنتيمتر مربع من الحرية المراقبة ، أن هناك سحق للعظم لأبسط الحريات الفردية والجماعية . ومع هذا لا تتوقف الأبواق المأجورة بصفاقة منعدمة النظير عن التشدق بتعلّق النظام بحقوق الإنسان وسهره الحنون على مشروع ديمقراطي يتطوّر تحت بصر الجميع لكن في اتجاه المزيد من الظلم والفساد والقمع. نحن أمام وضع شبيه بمن يتوسط السوق في وضح النهار بطابعة قديمة ينسخ الأوراق النقدية تحت بصر البوليس والنظارة وبعدها يأخذ في تسريب “العملة ” على أشدّ القناعة انه ضحك على ذقون الزبائن. المطعون هنا مبدأ أن الديمقراطية ليست خدعة حرب ساذجة وإنما منظومة وآليات لتنظيم اللعبة السياسية مبنية على تعاقد جماعي بين الأطراف مع حدّ أدنى من الثقة والمصداقية.
2-إذا كان النموذج التونسي المطلق في التزييف الغبي ، فالنموذج المغربي أحسن ما في السوق من التزييف الذكي. ففي المغرب جمعيات ونقابات لا تتحرك بالرموت كونترول وصحافة تتمتع بهامش محترم من الحريات وتستطيع التحدث حتى عن ثروة الملك .هناك أحزاب كبيرة وصغيرة تتنافس في انتخابات شبه حرة شبه نزيهة ثم تجتمع تحت قبة برلمان لتنبع عنها حكومة . المشكلة أن المسلسل البارع الذي يحاكي كل آليات الديمقراطية لا يؤدّي في آخر المطاف إلا لصنع آلة لا تصلح إلا للضجيج ونفخ الريح، فالحكومة لا تحرّك شيئا حيث تسود ولا تحكم والسلطات الفعلية في يد الملك ومجموعة ضيقة محيطة به ليس لها أدنى مسؤولية إلا أمام سيدهم. الأخطر في هذا النموذج، الذي نجده أيضا في الأردن والخليج، أن هرم السلطة لا يتحكم فقط في كل ميادين السلطة السياسية أي التشريعي والتنفيذي والفضائي وإنما هو أيضا أول مقاول اقتصادي في البلاد. المطعون هنا مبدأ منع تجميع السلطات في يد واحدة ،لكن في هذه الديمقراطية الغريبة يقع الجمع لا فقط بين كلّ السلطات السياسية وإنما أيضا بينها وبين السلطة الاقتصادية وهو ما لا يوجد حتى داخل الاستبداد الفجّ كالذي تعرفه تونس أو سوريا.
3- وفي النموذج الموريتاني عايشنا الحلم الجميل لانتقال سلمي يسلّم بموجبه العسكر السلطة للمدنيين وأفقنا منه على وقع البيان رقم 1 مجددا وإزاحة أول رئيس عربي مدني منتخب ديمقراطيا ، مما أعاد للأذهان ما أردنا نسيانه وهو أن التجربة الديمقراطية التي سمح بها العسكر في موريتانيا سنة 2005 كانت والمسدس فوق صدغ المدنيين ( إنه نفس الوضع الذي تعيشه الديمقراطية في باكستان والذي تحاول تركيا الخروج منه) المطعون هنا مبدأ علوية قوة الشرعية على شرعية القوة وأولوية المدني على العسكري .
4- خاصية النموذج اللبناني أن مهمة المؤسسات والآليات التشريع للتوازن الطائفي التي تسهر عليه أحزاب عائلية هدفها تقاسم النفوذ بين الأعيان والحفاظ على امتيازات الملل والنحل.المطعون فيه مبدأ أن ركيزة النظام السياسي هم الموطنون الأحرار من كل تبعية طائفية أو قبلية أو دينية والذين يتخذون مواقفهم على أسس سياسية بحت لا كزبائن وجنود لشيوخ العشائر وأحبار الكنائس وبقية الوسطاء .
5- قد لا يوجد نموذج تجمعت فيه كل الموبقات قدر النموذج العراقي. فهذه ديمقراطية أفسد من أفسد الأنظمة الاستبدادية وهي من صنع المحتل وطائفية على الطريقة اللبنانية بخطورة أكبر. يوهمونك بأن المشاركة الكبيرة في الانتخابات الأخيرة الدليل الساطع على نضج الديمقراطية في بلاد الرافدين وهي مؤشر على الخوف من أن تفوز طائفة بغياب أخرى. لكن الأخطر غير كل هذا .
لنذكّر أن الإضافة النوعية الكبرى للديمقراطية للأنظمة السياسية هي امتصاص العنف الجسدي بمقايضته بعنف رمزي . هكذا تتشكل الأحزاب كجيوش سياسية تتصارع والكلمات بمثابة اللكمات لتنظّم بينها “أم المعارك” التي يعدّ فيها كل جيش أنصاره بعد حشدهم في ساحة الوغى يوم الانتخابات، ثم يعلن صاحب أكبر جيش من المصوتين انتصاره ويعظّ الجيش المهزوم التراب لكنه يحافظ على دمه ويحافظ قائده على رأسه فوق كتفه. لهذا ثمة من عرّف الديمقراطية بأنها حرب لكن سلمية من نوع الرياضة والشطرنج . ما فعله النموذج العراقي عبر رغبة الثأر وقانون اجتثاث البعث ليس امتصاص العنف وإنما تغذيته. المطعون هنا الهدف الأسمى للديمقراطية أي حقن الدماء ليسيل بدلها الحبر واللعاب والعرق.
يعطينا النموذج السوداني مثالا آخر عن كيفية ضرب مبدأ القبول بالآخر والاعتراف بحقه في الاختلاف والصراع معه بالكلمات- اللكمات لا بالهراوات والسكاكين. ففي السودان حارب نظام عسكري انقلابي الطرف الآخر بلا هوادة وبكل الوسائل العسكرية بما أنه مسلّح ( بينما يكتفي الاستبداد السوري أو التونسي بمواجهته بكل الوسائل البوليسية بما أنه اعزل) وعندما استحال النصر الجسدي نادى للانتخابات كآخر حلّ وحيلة ومن باب مكره أخاك لا بطل.
ما يتناساه الكثيرون أن الانتخابات قطعة من “المحرك” ولا قيمة لها إن فصلت عن بقية “القطع” التي يشكّل عملها المتناسق المنظومة الديمقراطية وهي استقلال القضاء وممارسة الحريات الفردية والعامة وحياد إدارة تخدم الدولة والشعب لا نظاما ورئيسه . أما وقود “المحرّك” فالمبدأ المطعون هنا أي علوية قانون يسنه برلمان ممثل ويسهر على تطبيقه قضاء قادر على إحالة الرئيس أمام أي محكمة سودانية أو تسليمه للعدالة الدولية. أما في أقطارنا فلا قانون ولا من يحزنون وإنما انتخابات مهمتها التشريع لوضع قائم قبلها لا فيه حريات أو استقلال القضاء أو حياد إدارة. كيف نستغرب أن يعاد انتخاب البشير اليوم والبارحة بوتفليقة وولد بن عبد عزيز وكل أجهزة الدولة ،ومنها القضاء المستغلّ، في خدمتهم.
*
والآن لنتصور تأثير هذه ” الديمقراطيات” – المسوخ في العقول والقلوب
من أين لنا لوم أغلبية العراقيين على بغضهم لديمقراطية تكلفت مليون قتيل و 4 ملايين يتيم و 1.5 مليون أرملة و4 ملايين لاجئ ، وتنتج حكومة تتشكل في طهران وواشنطن.كيف لا نفهم تحسّرهم على أيام الطاغية رغم أنه هو الذي قادهم للهلاك لا لشيء إلا لأنه وفّر لهم على الأقل الخبز والأمن والعزة الوطنية.
ثمة أيضا السخرية وهذه اختصاص المصريين أو التونسيين الذين أطلقوا على انتخابات الدكتاتورية منذ في عهد بورقيبة اسم انتخابات الحنّة .فالأوراق الخضراء (بلون حزب معارض ذلك الزمان) المودعة في الصندوق كانت تنقلب بقدرة ساحر إلى حمراء عند الخروج منه ( لون حزب السلطة) . أما موقف المغاربة فتصاعد العزوف عن المشاركة في اللعبة الانتخابية بين الطبقات الوسطى والمتعلمة واقتصارها على الطبقات الفقيرة في الأرياف التي يستطيع النظام تجييشها بكل أصناف الوعد والوعيد. لكن حتى هذه الطبقات ستدير ظهرها للعملية عاجلا أو آجلا.
لقائل أن يقول نحن هنا أمام ديمقراطيات يعلم الجميع أنها مزيفة ، لكن ماذا عن التأثير الإيجابي للديمقراطيات الحقيقية ؟ ألا تثير الإعجاب والسعي لتقليدها . المصيبة أن العرب لا يعرفون من هذه الديمقراطيات إلا الغربية وسياساتها المكيافيلية التي عمّقت عندهم قناعتين خاطئتين
الأولى أن الديمقراطية بضاعة يحاول الغرب فرضها علينا لتسويق مصالحه مما يجعل منها جزء من مخطط الغزو الثقافي والاقتصادي والسياسي الشامل الذي نتعرض له في إطار مواصلة فرض تبعية لم ينهها ما سمّيناه بكثير من التفاؤل والمبالغة الاستقلال. الثانية أنها بضاعة مغشوشة يدجل بها علينا هذا الغرب ، والدليل أن تصرفاته تناقض خطابه . هو يعترف بانقلاب جنرالات الجزائر ويرفض انتخابا نزيها في غزّة .هو يدين النظام الليبي كإرهابي ويتقبله بالأحضان عند دخوله بيت الطاعة لا يهمه ما يعانيه الشعب الليبي .هو يتشدق بحقوق الإنسان ويصنع شيئا ببشاعة قوانتانامو. هو.يدين انتهاكات حقوق النساء في السودان ولا يضيره أن يكون حامي النظام السعودي الذي يعرف الجميع إنجازاته الباهرة في الدفاع عن حقوق المرأة والرجل على حدّ السواء.
الغريب في الأمر أن العقل العربي الذي يرفض بشدة أن يحمّل الإسلام أخطاء وخطايا الأنظمة والمنظمات الناطقة باسمه، هو نفسه الذي لا يتورّع عن وضع كل أخطاء وخطايا الدول الخمسة على كاهل الديمقراطية وحقوق الإنسان. يمكنك أن تشرح ألف مرة للعرب أن الغرب ليس فقط حكومات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا المساندة للاستبداد العربي والتي تضرب مبدأ أساسيا في الديمقراطية هو عدم دعم الدكتاتورية … أنه دول أخرى ومجتمعات مدنية هي حليفتنا في نضالنا من أجل الديمقراطية … أنه مناضلو العفو الدولي الهولنديين أو الفرنسيين الذين كتبوا مئات الرسائل لإطلاق سراحي عندما ضيفتني الحكومة التونسية على نفقتها بضعة أشهر في إحدى سجونها ولا زالوا لحد هذه الساعة يكتبون من أجل آلاف المساجين العرب وغير العرب… أنه قيم محلية يحق لنا تركها وقيم عالمية وإنسانية يجب أن نأخذ بها لمصلحتنا … أن الديمقراطية ليست خاصية ثقافية غربية وراثية وإلا لما كانت أشرس الدكتاتوريات في القرن العشرين ألمانية وإيطالية وإسبانية وحتى فرنسية لبعض سنوات …أن أكبر الديمقراطيات وأمتنها الهند…أن الديمقراطية تقنية حكم وليست دينا جاء لينافس الإسلام …أنه علينا السطو عليها كما سطونا على الكهرباء والإعلامية لتحسين عيشنا الخ .
كل هذا الخطاب العقلاني دون تأثير أمام مشاعر الحفيظة والريبة والاحتقار لكذب واضح ونفاق لا يحتمل من قبل أنظمة لا تقل ازدواجية الخطاب عندها عماّ نعرفه من أنظمتنا. صحيح أننا أمام صفاقة مثيرة لبالغ الاستنكار خاصة في ميدان حقوق الإنسان. يتباكون على حالات فردية ويدعون التدخل لصالحها في الوقت الذي يدعمون فيه بكل قواهم المكنة الرهيبة التي تصنع مئات الآلاف من الضحايا المجهولين.
حان الوقت أيضا لكي تعكف منظمات حقوق الإنسان العربية والإفريقية على أفظع انتهاك للكرامة البشرية بل وأفظع أنواع التعذيب في العالم ألا وهو وضع آلاف المحكومين بالإعدام في أمريكا والذين ينتظرون في أروقة الموت سنوات وأحيانا عقودا تنفيذ الحكم . تصوروا التعذيب اليومي والدمار النفسي لمن ينتظر الموت سنوات وعقودا قبل حقنه بالإبر وسط موكب طبي مثير للغثيان.هذا العالم موبوء بالهمجية البدائية لمن يقصون الرؤوس بالسيوف في الساحات العمومية ، لكنه موبوء أكثر بالهمجية المتحضرة التي تعطينا عقوبة الإعدام في أمريكا أبشع صورها. إن واجب منظماتنا وكل التي تعنى بكرامة الإنسان متابعة الظاهرة المشينة للبشرية جمعاء وإصدار التوصيات للسلطات الأمريكية بوضع حدّ لأقسى المعاملات وأكثرها دمارا وتنكيلا بالنفس البشرية ومواصلة إدانتها إلى أن تكتسب يوما الحق المعنوي في تدبيج التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في العالم.
الديمقراطية الإسرائيلية :
لم يبق إلا هذه لإتمام الصورة القاتمة . هي ليست فقط نظام أكره بلد عند العرب وإنما أيضا المرآة التي ترجع لنا عجزنا وتفاهتنا. “هم” بإمكانهم استنطاق رئيس الحكومة بتهمة الفساد أو تعليق قضايا بأي وزير أو ابن وزير و نحن نرى بأم أعيينا استفحال الفساد في كل مرافق الدولة وفي أعلى مستوى ولا نستطيع فعل شيء . هنا يتضافر الكبرياء القومي والكره الدفين لمن يفضح أعمق عيوبنا ، لتصبح الديمقراطية نفسها مشمولة ببغض الآخر الظالم والذات العاجزة عن وقف الظلم. إذا حوصلنا مفعول كل هذه الديمقراطيات على العقول والقلوب العربية فإننا لا نجد إلا الصور والمشاعر والأفكار السلبية من كره أو سخرية أو ريبة أو مبالاة أو حفيظة أو رفض التشبه بمن يعتبر الخصم والعدو… كل هذا في إطار الضغط المتعاظم للخيار الإسلامي واحتداد التنافس بين الخيارين رغم محاولة بعض العقلاء ( يأمل كاتب هذه السطور أن يعدّ من بينهم) التقريب بينهما.
يجعل هذا المناخ النفسي المشروع الديمقراطي الذي حملناه نحن الديمقراطيون العرب منذ السبعينات مثل جنين يلفظ في الرحم قبل ولادته أو يولد مسخا مشوها ، أو إن ولد سليما فثمة حوله دوما من ينتظر خطاه الأولى للفّ حبل من الحرير حول عنقه.
أي أمل يبقى لنا في مثل هذه الحالة وما معنى الإصرار على مشروع يبدو بلا مستقبل وقد تضافر ضده القدر والبشر ؟ هل الخيار الوحيد أمنا بين الاستبداد الفجّ أو الديمقراطية المغشوشة …أم هل سيتطور فضاء الخيار ليصبح بين من الاستبداد البدائي الذي نعرف واستبداد متطوّر تعطينا الصين نموذجه المغري ؟ أم حتى هذا سيصل متأخرا والكارثة العظمة التي نتخبط فيها تدفع بنا بأسرع ما نتصور نحو التحلل والفوضى ؟
لهذا المقال الذي قسّم لجزئين لضروريات النشر بقيّة قادمة قد يجد فيها القارئ بعض الإجابات ومزيدا من الأسئلة المقلقة القلقة