خطاب اليونسكو
الخميس 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013
السيدة المديرة العامة لمنظمة اليونسكو السيدات والسادة
اسمحوا لي في البداية أن أتقدم بأصدق التهاني إلى السيد هاو بينج رئيس المؤتمر العام لليونسكو على نيله ثقة المجلس التنفيذي للمنظمة وأن أتقدم بالشكر لسلفه السيدة كاتالين بوجياي على ما بذلته من مجهودات طيلة السنتين الماضيتين.
كما يسعدني أن أتوجه بالتهنئة إلى السيدة ايرينا بوكوفا لإعادة انتخابها على رأس المنظمة متمنيا لها كل التوفيق وأودّ بالمناسبة أن أعبر لها باسمي الخاص وباسم كل التونسيين عن امتناننا لدعمها لثورة الحرية والكرامة وذلك بزيارتها لبلادنا وهي تسعى عبر مرحلة انتقالية دقيقة لتصفية تراث دكتاتورية دمّرت المؤسسات والقيم ولعبت دورا هائلا في تخريب التعليم. إن كل مجهودنا الآن في تونس هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي ستعيد للتربية مكانها المركزي.
اسمحوا لي أيضا بالمناسبة أن أشكر السيد بان كي مون الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة على اختياره تونس لتكون من بين الدول العشر الراعية لمبادرته التربية أولا Education Firstوهو شرف نقدّره حق قدره.
أيها السيدات والسادة
قد لا يوجد إجماع اليوم بين الشعوب والدول على قضية قدر الإجماع على أهمية التربية وضرورة تعميمها خاصة بعد أن أثبتت الدراسات العلمية
أن السبب الرئيسي في تحول بلدان فقيرة في الخمسينيات مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية إلى النمور الصناعية التي نعرف هو نجاعة سياساتها التربوية عشرين سنة قبل وصولها إلى المستوى التي وصلت إليه أي أن أي بلد يستثمر في التربية يجني ثماره تقدما اقتصاديا وقوة سياسية بعد عقدين من الزمان على الأقل.
مثل هذا الاكتشاف لا يزيد إلا في تثبيت إرادة كل البلدان أن ترتقي بتربيتها إلى أعلى مستوى حتى تحقق الشرط الضروري وإن لم يكن الشرط الكافي للتقدم واحتلال مكانتها بين الشعوب.
فلا غرابة إذا أن يصبح هاجس الجميع تفعيل النظام التربوي مما يجعل العالم اليوم حقل تجارب يسعى فيه كل شعب إلى اكتشاف أحسن نظام تربوي يمكنه من تدارك الوقت الضائع أو المحافظة على مكانه في مقدمة القافلة.
فكلنا نبحث عن أنجع طرق التمويل والتكوين والتقييم .
كلنا نعاني من صعوبة إدارة أنظمة تتزايد تعقيدا وكلفة يوما بعد يوم.
كلنا تحت ضغط البحث عن أنجع السبل من أجل الملاءمة بين النظام التربوي وبين حاجيات السوق وإلا فإنها البطالة حتى لحاملي أكبر الشهادات وهو في المنظومة الفكرية الحالية أكبر شهادة على فشل مجهوداتنا وضياع كثير من الموارد الذي خصصت لهذا القطاع.
كلنا نكتشف بأن كل نظام اجتماعي سواء في الصحة أو الاقتصاد أو القضاء أو الإعلام محمول على طبقة حاملة غير منظورة تتحكم في أداء القوانين التي تسير النظام وحسن استعمال الخبرات العلمية والموارد البشرية والمادية والبشرية الموضوعة تحت تصرّفه . هذه الطبقة الحاملة لكل النظام هي القيم ، إن ضعفت تصدّع كل البناء.
لكن من أين لنا التحكم في مثل هذا العامل وهو مرتبط بتاريخ المجتمع وبثقافته وبنظامه السياسي وبوضعه الاقتصادي الخ.
هذا ما يجعل تحكمنا في النظام التربوي مثل تحكمنا في بقية الأنظمة الاجتماعية تحكما تقريبيا.
وهذا ما يفسّر ضعف مردود نظام يرمي في بلد كبلدي بعشرين في المائة من الأطفال بين 12 و18 سنة إلى الشارع دون حصولهم على حقهم من معرفة أصبحت اليوم المدخل الضروري للحرية والكرامة التي قامت من أجلها الثورة التونسية.
ثمة ايضا تحدي جديد حتى وإن كان محملا بكل الوعود ألا وهو ظهور أمية جديدة قد تكون أخطر من الأمية القديمة التي لا زالت تستأثر بكل اهتمامنا.
بديهي أن كل إنسان يريد مواكبة عصره لا يستطيع الاكتفاء بتقنيات فك رموز النصوص المكتوبة الموروثة عن عصور ما قبل الإعلامية. عليه اليوم إجادة استعمال وسائل المعرفة الجديدة سواء تعلق الأمر بالبحث فيها عن المعرفة أو برفض ما تفيض به من سموم.
نحن نرى الضغط الجديد الذي فرضته التكنولوجيا الحديثة على التربية في التجارب الكثيرة في بلدان الجنوب والشمال على حد السواء لإدماج الاعلامية في التعليم الابتدائي ونراها أيضا في التجارب التي تقوم بها بعض مؤسسات المجتمع المدني في بلد كألمانيا لتعليم الأطفال الحذر في التعامل مع صفحات التواصل الاجتماعي.
الثابت أن التكنولوجيا الحديثة التي فتحت أرحب الآفاق للمعرفة والتربية وضعت أمامنا تحديا جديدا ونحن استطعنا بالكاد رفع التحدي الذي فرضه ظهور الكتابة فالأمية بما هي مكبل للطاقات البشرية وعامل من عوامل توسع الهوة بين من يعرفون ومن لا يعرفون ارتفعت بكيفية رهيبة بظهور هذه التكنولوجيا التي ستبقى لزمن طويل حصرا على جزء صغير من الإنسانية.
ايها السيدات والسادة
إن كان من البديهي أن علينا تطوير أنظمتنا التربوية كما وكيفا مهما كانت الصعوبات والحدود فإنه يبدو لي أن علينا أيضا مساءلة الأهداف التي نضعها لها .
لقد أظهر عالم الاجتماع الامريكي ألفين طوفلر أن التربية كما نعرفها اليوم بالتعميم والتخطيط وتجنيد كم متعاظم من الموارد البشرية والمادية انطلقت في غرب القرن التاسع عشر لمواكبة الطفرة التكنولوجية التي أحدثتها الثورة الصناعية
هذه الثورة كانت بأمس الحاجة ليد عاملة تعلم أطفال الفلاحيين الحدّ الأدنى من القراءة والكتابة والحساب وخاصة السلوكيات مثل الالتزام بالوقت والطاعة والانضباط . ثم واكبت التربية تطور الاقتصاد الجديد المحتاج إلى عدد متزايد من المختصين سواء كانوا مهندسين أو إداريين. مما يعني أن مجهود التربية انطلق وتوسع ليلبي حاجيات الاقتصاد الصناعي أي في آخر المطاف مصالح رأس المال.
هكذا انطلقت التربية في المجتمعات الصناعية الناشئة ظاهريا لخدمة الناس وواقعيا لخدمة مستخدميهم.
إنها نفس الظاهرة على مستوى آخر. فقد فهمت كل الدول أنها لا تستطيع فرض وجودها وتوسيع سلطانها إلا بمواطنين أصحاء فخلقت وطورت الأنظمة الصحية وبمواطنين متعلمين فعممت التعليم كجزء لا يتجزأ من أمنها القومي وتقدمها الاقتصادي وإشعاعها الثقافي أي في آخر المطاف كعامل أساسي من عوامل السيادة والاستقلال والوزن السياسي في عالم ليس فيه إلا حليف عابر ومنافس دائم.
هكذا أصبحت خريطة القوة السياسية والاقتصادية هي خريطة انتشار ونوعية التربية وهكذا أصبحنا نرى فوارق شاسعة بين من لم ينالوا حظهم من التربية ومكانهم أسفل السلم الدولي والمجتمعي ومن يملكونها وهي اليوم من أهم أدوات سلطة الأفراد و الطبقات والشعوب…، والهوة كما تعلمون تتوسع يوما بعد يوم بين الطرفين.
السؤال هل يمكن أن نتحدث عن تربية إذا كان الهدف الضمني تكوين الأدمغة لكي تخدم بأقصى قدر من الفعالية رأس المال المحلي والعالمي أو مشاريع الدولة ومنها افتكاك أكبر قدر ممكن من حصص الاستثمار والتصدير أو فرض القوة العسكرية وحتى الغزو الثقافي للشعوب الأقل حظّا من التربية.
بالانخراط في مثل هذه الرؤيا نقبل ضمنيا أن كل ما نفعل لا يرمي إلا لنموّ رأس المال و تنامي قوة الدولة، أما ما يجنيه الإنسان فمن التبعات الثانوية التي يفوز بها عرضا مقابل ما سيقدمه من خدمة للأهداف الحقيقة
إن تحقيق الهدف الأسمى للتربية كما تراه الأمم المتحدة واليونسكو على وجه الخصوص أي بناء السلم في العقول يمرّ على العكس بجعل هذه التربية في خدمة الإنسان والإنسانية. أما يتحقق من خدمة أهداف اقتصادية واجتماعية وسياسية فهو من التبعات الثانوية الإيجابية.
إذا قبلنا بهذه المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها الأسلم فإننا سنرى تحولا في إعادة رسم الأهداف الكبرى للتربية وهي في نظري ثلاثة:
الهدف الأول هو تمكين الإنسان من الأدوات الأساسية التي تسمح له عبر القراءة والكتابة والحساب واليوم الإعلامية من الدخول إلى كل التراث الفكري والفني والقيمي والمساهمة في تطويره.
لننتبه هنا أن الطريقة البيداغوجية التي تعتمد في التعليم ليست بريئة فالتركيز على التلقين والحفظ عن ظهر قلب والتعامل مع النصوص وكأنها مقدسة موقف سياسي . الدليل على ذلك أن السعي لإشراك المتعلّم وتنمية ملكة النقد عنده وتعليمه عقلية المبادرة وتمكينه باكرا من المنهجية لا من نتائجها، خيار لا نراه إلا في أكثر البلدان ديمقراطية وإيمانا بحقوق الإنسان. في الحالة الأولى نحن أمام التربية – بالمحتويات وبالمنهجية التي تحتاجها الدولة القديمة والاقتصاد القديم لأن الاقتصاد المتطور اليوم مثل الدولة الحديثة بحاجة إلى نوعية جديدة من المتعلمين ، هذه النوعية التي لا توفرها إلا المقاربة الديمقراطية والحقوقية والهادفة لخلق مواطن حرّ وليس رعية لمستبدّ أو تقنيا ساميا لرأس المال.
الهدف الثاني هو بلورة الاستعدادات الفطرية عند كل إنسان وتنميتها إلى أعلى درجة ممكنة لتكون مصدر قوة وإشعاع للفرد والمجتمع.
صحيح أن كل طفل ليس نابغة محتملا في الفنّ والعلم والأدب بالضرورة، وأننا قد نتعسّف كثيرا على أطفالنا ونطلب منهم بأن يكونوا عباقرة أو لا يكونوا. لكن علينا أن نتلمّس عند كل طفل طاقاته الممكنة وأن نتعهدها بالعناية والمتابعة والتشجيع وأن نوفّر له كل الفرص لبلورة أحسن ما عنده. إن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلّب أن نتصور التعليم منقسما بالضرورة إلى جذع مشترك هو الذي يعلّم استعمال أدوات القراءة والكتابة والحساب والإعلامية ونركز مرة أخرى على ضرورة أن تكون نشيطة تفاعلية، ومن هذا الجذع ينطلق تعليم خاص يتوجه إلى مجموعات تتشارك في بوادر النبوغ في هذا الفرع أو ذاك من المعرفة. فما كان يبدو مستحيلا أو صعب التحقيق في ظل ندرة الموارد المادية والبشرية أصبح ممكنا ولو جزئيا بفضل التكنولوجيا الحديثة وما تسمح به من إمكانيات وخاصة من مرونة في تمرير المعارف.
اسمحوا لي هنا أن أؤكّد أن هاجس النوعية لا يجب أن يغفل عنا أن درجة التحضّر في مجتمع ما تقاس بمعاملته لأضعف مكوناته مثل المساجين والمرضى العقليين وخاصة أصحاب الاحتياجات الخاصة. إن ما تقوم به دولة كالنرويج في دمج الأطفال المعاقين في الأقسام العادية مثال يجب أن يحتذى وهو أحسن تعبير عن الفلسفة التربوية التي يجب أن تسند كل تفكيرنا ليكون واضحا أن هدفنا تنمية قدرات كل الأطفال بما فيهم المعاقين وليس تركهم في آخر القافلة بانتظار أن نترك خارجها كل الذين لم يرتقوا لمصاف طلبات الدولة والصناعة وطموحات الآباء والأمهات.
الهدف الثالث هو ما أسميه التربية المواطنية والإنسانية لقد احتلت مادة التربية المدنية مكانا هاما في التعليم الثانوي في تونس وذلك لأجيال إلا أن تفحص فلسفتها ومحتواها يظهر بصفة كاريكاتورية ما هو موجود بأكثر ذكاء أو خبث في جلّ البرامج المثيلة عبر العالم ألا وهو السعي لإدماج الطفل باكرا في الاسطورة الجماعية التي تعتمد عليها الدولة لإرساء سلطانها – ومنها نضال الزعيم الأكبر وحزبه الأوحد – وأن كل ما تسعى إليه هذه التربية مرة أخرى هو خلق المواقف والتصرفات التي تخدم مصالح الدولة وورائها مبادئ مصالح ومصالح مبادئ الجماعات التي تتحرك وراء الستار.
إنني من أشدّ المتحمسين لتدريس الفساد والتعذيب وتزييف الانتخابات وتقنيات الإعلام والإشهار في آخر مراحل التعليم الثانوي وفي الجامعات في إطار دروس إجبارية لكل الطلبة أيا كان اختصاصهم حتى يتعلّم أبناؤنا وبناتنا كيف يقوا أنفسهم ويقوا ديمقراطيتنا الناشئة من كل هذه الأمراض .
إن دور أي تربية مدنية بديلة تعليم الطفل والمراهق والشاب تفكيك بقية الأنظمة المجتمعية مثل النظام المصرفي والاقتصادي والقضائي والصحي لفهم كيف تعمل هذه الأنظمة وكيف تزوغ عن مهامها.
إلا أن مثل هذه التربية المدنية التي تهدف لتحرّر المواطن لا لترويضه هي نفسها محدودة لأنها قد تبقى أسيرة الرؤيا الضيقة للوطنية التي تتكلف بترويجها مادة التاريخ. فكلنا ندخل باكرا السرد الجميل لتاريخنا المنمق والمخيل أغلب الوقت.
بديهي أن هدف هذا الجزء من التربية دمجنا في المجموعة الوطنية لأن الالتحام بها والدفاع عنها كان ولا زال من ضروريات البقاء في وضع تاريخي لم يتوقف فيه صراع الشعوب والأمم وثمة من يريدون توسيعه إلى الحضارات.
لكن نفس ضروريات البقاء تفرض اليوم أمام التشابك والترابط والتلاحم بين القضايا المصيرية وعلى رأسها قضية البيئة أن ننمي حس الانتماء والمسؤولية لا فقط تجاه الوطن والشعب وإنما أيضا تجاه الأرض والإنسانية
وكما يجب أن ندرّس لأطفالنا أنظمتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الوطنية علينا أن ندرّسهم أيضا أنظمتنا على الصعيد العالمي أي هيكلية ووظائف الأمم المتحدة وكل وكالاتها المختصة.
ثمة ما أهمّ في نظري.
إنني أتقدّم هنا باقتراح لمنظمة اليونسكو بدعوة كبار المؤرخين لوضع تاريخ جماعي يروي ملحمة الجنس البشري برمته ويكون تاريخا أفقيا يظهر عصرا بعد عصر كيف شهدت أماكن متفرقة من العالم انفجارات الخلق والإبداع وكيف ساهمت كل الشعوب في الحضارة البشرية .
ويمكن الحاق هذا التاريخ المشترك بالتواريخ الخصوصية وتدريسه مبسطا في الابتدائي وبأكثر تدقيق في الثانوي وسأسعى بكل قواي لتكون تونس من أولى الدول التي تنخرط في مثل هذه التجربة .
ثمة أيضا الجغرافيا المشتركة التي يجب أن تدرّس هي أيضا في كل مدارس العالم ولا أقصد الجغرافيا الكلاسيكية.
إنني من اشدّ المعجبين ببرنامج اليونسكو ’’كنوز البشرية ’’ ومن المتابعين لقائمته التي تتزاحم اليوم كل البلدان لكي توضع فيها ما تنغلق عليه من آثار أو ما حبتها بها الطبيعة من مناظر خلابة .
إنني جدّ فخور بأن تونس موجودة في قائمة التراث العالمي التي.أدرجت فيها مدن تونس وسوسة والقيروان وآثار قرطاج وكركوان والجمّ ودوقة وبحيرة اشكل.
أذكر أن هذا البرنامج هو الذي أوحى إلي بأهمّ أفكاري حول الخصوصية والعالمية. هو الذي افهمني أن العالمية ليست الانخراط في قالب حضاري غالب هو القالب الغربي وإنما ارتفاع الخصوصية إلى أعلى درجات الإبداع مما يجعل منها في نفس الوقت ملكا لشعب وملكا لجميع الشعوب. لا أحد يجادل أن الأهرامات ملك للمصريين لكن روعة هذا المعلم رفعته لمقام تراث لكل البشرية في حين بقيت أعمال أخرى للمصريين خاصة بهم وحدهم لأنها لم ترتقي للمصاف المطلوبة.
إن علينا تدريس هذه القائمة في كل البلدان ليشعر الطفل الكمبودي بأن آثار أنجكور-فات ملكه وأيضا ماتشو بيتشو وأهرامات الجيزة وسور الصين والزمبابوي الأكبر.
أي خيار آخر إذا أردنا أن ننمي في كل طفل إحساسه بالانتماء لا فقط لشعب وأمة وحضارة وإنما ايضا للإنسانية إذا أردنا فعلا أن نبني حصونا للسلام داخل العقول والقلوب ؟
أيها السيدات والسادة
لا يجب أن نهوّل من المصاعب التي ستعترضنا على مثل هذا الطريق ولا أن نستهين بها
حقا سيبقى تحديد الأهداف لنظامنا التربوي ولأمد طويل بين يدي الدولة الوطنية بحدودها الجغرافية والذهنية وكذلك بين يدي رأس المال الذي لا يهمه من هذه التربية إلا أن تمدّه بمادته الأولية ألا وهي العامل والتقني والباحث والإداري الماهر.
نعم التربية هي اليوم في جزء كبير منها بين ايدي وسائل إعلام يريد هو أيضا دخول العقول والقلوب لمصالح من يملكونه.
الأخطر من هذا كله أن أهم عنصر في التربية خارج وفوق ما نخطط وما يخططون من أهداف وما يولدونها من برامج . لقد دأبت على القول أن السيد من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر وكل التاريخ شهادة على أن من أعطوا المثل من رجال ونساء من طينة مانديلا وغاندي ولوثر كنج والأم تيريزا هم الذين طبعوا العقول بطابع لا يمحى. صحيح أننا لا نتحكم في ظهور الذين يعطون المثل ، صحيح أن الدولة والإعلام ورأس المال هم القوى الكبرى التي تسعى لقولبة العقول وغزو القلوب .
لكن من حسن حظنا أن خبرتنا تتزايد يوما بعد يوم …من حسن حظنا أن الأجيال التي تتابع تنطلق بأدمغة بكر وإن تشبعت باكرا برؤى وقصص واساطير ليست التي تحتاجها الفترة الحرجة التي تمرّ بها البشرية
من حسن حظنا وجود منظمات مثل اليونسكو تستطيع أن تحمل مشاريعنا نحن الحقوقيون والديمقراطيون والعالميون وتدعم مفهومنا لتربية هدفها الإنسان لا أداتها.
عندما تتلبّد السحب وتأتي لحظات الإحباط أمام ضخامة التحديات أذكّر نفسي بشعار وضعته لمثل هذه الفترات الصعبة : من السذاجة محاولة تغيير العالم ومن الجريمة عدم المحاولة.
فلنحاول لا نكفّ عن المحاولة وكما يقول شاعرنا الوطني والإنساني أبو القاسم الشابي
ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر
شكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.