الكنوز العربية التي في المزابل والسجون
الاربعاء 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2010
ما القاسم المشترك بين السوري العربي هيثم المالح واليابانيين ’’أراكاوا تيوزو’’ و’’شيبا أيانو’’ و’’كاناموري أيشي’’؟ لا شيء تقريبا باستثناء الاشتراك في نفس العمر (ثمانين سنة) عندما عرفوا حدثا هاما في حياتهم، ربما شكل ذروة هذه الحياة.
لنتوقف في البداية عند اليابانيين الثلاثة.
هم ينتمون لمجموعة تضم أكثر من خمسين اسما ويعرفون تحت اسم ’’نينجن كوهيهو” أي الكنوز البشرية الحية. سنة 1950 قررت الحكومة اليابانية أن تعطي الدولة، بعد استشارة أهل الذكر، لقب كنز بشري حيّ، لكل رجل أو امرأة تميّز بعمله المتقن في أحد الميادين الفنية التي تعرّف الثقافة اليابانية مثل الصناعات التقليدية.. وبالطبع تكريمه بصفة تفوق المعتاد.
وفي غضون أقل من نصف قرن تشكلت قائمة لا تفوق حاليا مائة شخص، تضمّ عمالا وعاملات في قطاعات فنية، أحيانا جدّ هامشية، لكنها تلعب دورا هاما في هوية الأمة اليابانية ويمكن اعتبارهم أعضاء جديرين بأصدق وأشرف أرستقراطية. إنه تقليد رائع لم تأخذه عن اليابان لحدّ الآن إلا كوريا وتايوان وتايلاندا وحاولت اليونسكو أن تتبناه وأن تعممه في العالم بغية الحفاظ على كل تراث فني أصيل مهدد بالضياع. ألا يقول مثل أفريقي إن موت بعض الشيوخ كاحتراق مكتبة ؟ صحيح أن هذا التكريم الخارق للعادة لا يشمل إلا صنفا معينا من الأعمال الفنية ذات العلاقة الوثيقة بالتراث التقليدي،
لكن لنتأمل بعض المعاني التي تزخر بها ظاهرة الكنوز البشرية الحية. هي دلالة على حقائق جعلتها ممكنة ومنها أن هناك:
تقديس الأمة اليابانية للعمل والعطاء.
ترصّدها للبحث عنه ومكافأته.
تمثيلها من قبل دولة لا تخشى من إعطاء لقب كهذا يضع المكرّم فوق كل رجل سياسي وربما حتى فوق الإمبراطور.
إرادتها رفعةَ من رفعوها خاصة إذا كانوا أشخاصا متواضعين ومغمورين ولم يسعوا للشهرة وإنما أفنوا أعمارهم في خدمة ثقافتها وهم لا يعون حتى بخطورة ما يفعلون.
انتباهها لضرورة وصول التكريم والاعتراف للشخص قبل فوات الأوان وألا يموت الشيخ الجليل بالحسرة في الفؤاد ليمضغ وهو ميت عنقود العنب الذي رفضت له حبة واحدة منه وهو حيّ.
فخرها واعتزازها بهؤلاء المبدعين ووعيها بأهميتهم في تواصلها وعظمتها.
أخيرا لا آخرا حثّها على الخلق والإبداع والرسالة داخل الرسالة: قوموا بواجبكم تجاهنا نحن الأمة وسنقوم بواجبنا نحوكم إذا اتضح أنكم أحسن أبنائنا.
كيف نستغرب بعد هذا تفجّر الطاقات وكيف لا تكون اليابان من أولى الدول والشعوب في كل الميادين، علما بالطبع بأن مبدأ الاعتراف والمكافأة والتكريم الكبير قائم في كل الميادين، حتى وإن لم يتخذ صبغة تكاد تكون من قبيل التقديس كما هو الحال في الكنوز البشرية الحية؟
انظر وضع هيثم المالح مقارنة مع اليابانيين المذكورين أعلاه. لنذكّر مرة أخرى أن الرجل بلغ ثمانين حولا ولم يسأم –من النضال عن شعبه وأمته- وكل جريمته ما سمي في سوريا إطالة اللسان… اللسان الذي هددني على مرأى ومسمع من الملايين لواء مخابرات مصري بقطعه، لأن أسيادنا أينما كانوا لا يطيقون نقدا.
تأمّل المعاني المضمنة في سجن مريض في الثمانين، سبق أن قضى في ضيافة النظام السوري ست سنوات. الرسائل المراد توصيلها كالآتي:
لا نقدّر ولا نحترم أحدا ولا يكبر في أعيننا كبير ولا نستحي من سجن عجوز في الثمانين فانتبهوا لحالكم.
لا قيمة لأي شخص فيكم بما يقدم إلا إذا كان ما يقدمه لنا، لأننا نحن الوطن ومن ضدنا آليا ضد الأرض والتاريخ والشعب والأجيال القادمة.
لا نريد عطاء ولا بذلا إلا الذي يصب في مصلحتنا والبقية شغلكم.
لا وجود لكنز بشري إلا القائد الملهم الفذ الذي لم تجد بمثله الأقدار وكل ما عداه من ضمن الألف كأفّ.
تقول المقارنة لا تجوز فاليابان تكرّم فنانين تقليديين لا سياسيين أو مناضلي حقوق الإنسان وهيثم المالح ليس رساما على الخزف أو خطاطا على خشب الأبنوس لحشره في موضوع كهذا.
اعتراض وجيه يقابله اعتراضان نتمنى أن يكونا وجيهين أيضا.
الأول أنه لا شيء يشابه التكريم الياباني يتلقاه حرفيو فاس وحلب والقاهرة، في ميادين فنية مثل الخط والرسم والنقش والسجاد الخ.
من منكم سمع يوما بعاملة في مصانع السجاد بالقيروان ابتدعت أجمل اللوحات الفنية، لم يعرف قيمتها إلا السياح الأجانب وعرفت تكريما كالذي عرفته “جونوكوشي ميي” التي دخلت سنة 1955 قائمة الخالدين والخالدات في الثقافة اليابانية؟ القاعدة أن كل فنانة مبدعة في فن السجاد، تموت بعد أن أكل العمل المضني عمرها وعينيها دون أن تجني منه إلا ما يسدّ رمقها ورمق أطفالها.
ثم من سمع منكم بأن أهل المهن الفنية يتابعون بنشاط كل مبدع ومبدعة ويتفقون على ترشيحه للتكريم ولا يبقى على الدولة إلا التنفيذ؟ أغلب أهل الصناعات التقليدية والفنون المرتبطة بها يعيشون بقرب المزابل في أزقة مدننا العتيقة يجاهدون لبيع بعض البضاعة للسياح، من أجل البقاء على قيد الحياة. وحتى عندما يتمّ تكريم بعض الكتاب أو الفنانين فهو مجرد إجراء شكلي تمنّ فيه دولة لا شرعية ببعض الفتات من الاعتراف، على من أظهروا لها الولاء الكافي. ثم استغربوا بعد هذا الكساد الفكري والفني في وطننا العربي والحال أنه لم يثبت لحدّ الآن أن للدماغ الياباني ضعف الخلايا في الدماغ العربي.
الاعتراض الثاني أنه لا شيء يمنعنا من توسيع مفهوم “الكنز البشري الحيّ” إلى كل المبدعين أيا كان مجال خدمتهم للمجموعة الوطنية من الرسم على البلوّر أو المحافظة على أقدم طريقة في تزيين ملابس العرس، إلى العطاء في ميادين العلم والأدب والسياسة… بالطبع كل هذا يوم يصبح للشعوب العربية دول وللدول العربية شعوب وتردم الهوة بينهما بالشيء الذي تبخر متسببا في معاناتنا جميعا: الاحترام المتبادل.
والآن كفى بكاء ونحيبا على حالنا. يجب تغيير ما بأنفسنا كما أُمرنا بذلك من أحسن آمر. لنستبطن أن هيثم المالح، مثل الصادق شورو في السجون التونسية ومناضلي الحرية في السجون العربية، ليس ضحية وإنما أسير حرب… أن الحقوق تفتكّ ولا تعطى… أن واحدا من حقوقنا التي يجب أن نمارسها -لا أن ننتظرها دوما من دول لا تخدم إلا عصابات وعائلات- هو التعرّف على كنوزنا البشرية الحية وتكريمهم قبل خطب التأبين الرائعة والعبثية.
نعم بانتظار أن تكون لنا دول مهمتها تحفيز الطاقات الهائلة التي تنضح بها مجتمعاتنا وليس إجهاضها… وبانتظار أن تكون لنا حكومات تعرف أن الزمردة لا ترمى في المزبلة أو في سجن وإنما توضع أينما يجب أن توضع الكنوز… ولأن كل طريق طويل يبدأ بخطوة والغيث النافع بقطرة، فهل تسمحون لي باسمكم جميعا أن أرشح هيثم المالح للقب كنز عربي حيّ، وأن نكرّمه كلنا هذا اليوم في عقولنا وقلوبنا.