الرسالة
الخميس 18 آذار (مارس) 2010
أخبار متواترة ومن مصادر مختلفة تؤكّد أن السلطة التونسية اتصلت بتوفيق بن بريك في سجنه لتضع بين يديه عرضا واضحا : كتابة رسالة للدكتاتور يعتذر فيها عن كل ما قال وكتب بخصوصه ويتعهد بالكفّ عن كل نقد يستهدفه هو وزوجته، وفي المقابل إطلاق سراحه وحتى تمويل جريدة له. لم أستغرب لا العرض ولا رفض توفيق فكل إناء بما فيه يرشح. لكن القصة أعادت للذاكرة حادثتين تتعلقان بما يمكن تسميته ظاهرة الرسالة.
الأولى في بداية التسعينات وكانت الحرب على أشدها بين الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي كنت أرأسها وبين سلطة تمارس التعذيب في وضح النهار في الوقت الذي تتشدق فيه بحقوق الإنسان. يومها استدعاني لوزارة الصحة الدالي الجازي الوزير آنذاك وكان من أقرب الأصدقاء قبل دخوله الحكومة . بدأ بسرد ذكرياتنا المشتركة في الثمانينات ثم وصل إلى بيت القصيد أن السيد الرئيس جد غاضب مني وأنه تطوّع لإصلاح الأمور بيننا واعدا إياه أنني سأكتب له رسالة في القريب العاجل. أجبت الدالي الجازي ببرود أنني لست من النوع الذي يكتب الرسائل في الخفاء و ما على السلطة إلا أن تتوقف عن التعذيب وستتحسن العلاقات بصفة طبيعية فنبهني أن عليّ أن أفكّر مليا . خرجت من الوزارة وقراري مأخوذ أنه لا رسالة ولا من يحزنون .
سنتين بعد الحادثة دخلت السجن. لم يمض أسبوعان حتى طلبني مديره وخاطبني بكثير من اللطف بما معناه أن رجلا بقيمتي وفي عمري لا يجب أن يكون في مثل هذا المكان وأنه يمكن تسوية القضية بكتابة رسالة للسيد الرئيس ….والفاهم يفهم. أجبت السيد المدير ببرود أنني لم ارتكب جرما لأعتذر أو أطلب العفو فنبهني أن عليّ أن أفكّر مليا. دخلت الزنزانة وقراري مأخوذ أنه لا رسالة ولا من يحزنون. أذكر أنني فكرت مليا يومها في ظاهرة الرسالة .
كنت أعرف أن عشرات الآلاف من الغلابة والمساكين في إطار غياب القانون واستشراء الظلم والفوضى يكتبون الرسائل للدكتاتور طمعا أو أملا في حلّ مشاكلهم الشخصية وهم بهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار . لكن ما كان يثير استغرابي أن كثيرا من رجال السياسة ومنهم بعض كبار المعارضين كانوا يكتبون رسائل للدكتاتور ولا أشك أن فيهم من يواصل إلى اليوم. كم سيكون ممتعا قراءتها يوما من الأيام إذا قيض الله لنا أن نعيش إلى مرحلة فتح الأرشيف.
صحيح أن اليد الممدودة والرغبة في الحوار أمر ضروري في السياسة لكنه لا يكون إلا في إطار العلنية والشفافية وخاصة في إطار احترام الإنسان لنفسه . أما الرسالة التي يريدها الدكتاتور ويحث أتباعه على كتابتها ويكتبها ضعاف النفوس فشيء جدّ مختلف.هي الصدى الباهت للقصيدة التي كان الشاعر يبعثها للخليفة حتى يعفو عنه.
تذكروا قصيدة الحطيئة للفاروق الذي رماه في السجن نتيجة هجائه المتواصل للناس
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
المطلوب من الرسالة إذن استرضاء الأمير القروسطي النائم تحت بذلة وربطة عنق الرئيس العصري. هي علامة الخضوع والولاء والاستعطاف والاسترحام. هي خاصة الاعتراف بأن إرادة الأمير وحتى مزاجه هو الفيصل وليس القانون . الرسالة إذن من بين المظاهر البليغة الدالة على مدى تخلّف الحاكم وضعف المحكوم . لكنها آيلة للسقوط هي وبقية مظاهر الاستبداد يوم تعود للشعب سيادته وللدولة شرعيتها وللمواطن كرامته