في الجزيرة نت
الانتخابات التونسية بين التمرير والتبرير والتحرير
الاحد 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2009
تنظّم السلطات التونسية يوم 25 أكتوبر مهرجانا انتخابيا معروف النتائج مسبقا سيعاد فيه انتخاب بن علي رئيسا بنسبة لن تقل عن التسعين في المائة العادية ، وسيتمّ فيه توزيع عدد من المقاعد في البرلمان كرشوة سياسية على أشخاص ينتمون للحزب الحاكم ، وآخرون تمّ اختيارهم تحت يافطات أحزاب معارضة صورية، والقاسم المشترك وفائهم لوليّ نعمتهم وخدمته بسنّ كل القوانين التي تضمن دوامه وسلطته.
لا أحد مخدوع بهذا التزييف وبكل ما سبقه من اصطناع أحزاب معارضة وما يتبعه من رمي البطاقات في الصندوق وحتى دعوة مراقبين لا يراقبون شيئا ، ولا أحد في تونس أو خارجها ينتظر شيئا من استشارات صورية هي البيعة في ثوب عصري . فبديهي اليوم حتى لأبسط الناس في تونس وخارجها أن الانتخابات الحقيقية محطّة في حياة اجتماعية تتّسم بحوار ساخن بين أحزاب سياسية لها كل الحرية في نقد السلطة الحاكمة دون أن تخشى على نفسها شيئا وتتقدم ببرامجها لناخبين يستطيعون طرد الحكومة القائمة واختيار البديل بكل أمان .
أما ما يجري فهو بعلم الجميع إجراء شكلي هدفه التمديد الآلي للسلطة الحاكمة في ظل استشراء الفساد والقمع والتضليل الإعلامي .
إن الموضوع لم يعد في فضح ما لم يعد خافيا على عين بصيرة أو في التنديد بما لا يستأهل حتى التنديد.
الأهمّ من هذا تفحّص رهانات انتخابات مفبركة تنظمها ديمقراطيات مزيفة -اليوم في تونس ، البارحة في الجزائر غدا في مصر – هي اليوم مع الدكتاتوريات القديمة الشكل الآخر للنظام السياسي العربي الفاسد.
ثمة ثلاثة أطراف سياسية تطرح عليها هذه ” الانتخابات” تحديات بالغة الخطورة .
السلطة والفخّ الذي نصبته لنفسها
منذ انتصابه والنظام التونسي ضالع في عملية مغالطة و تزوير شامل للنظام السياسي لإخفاء دكتاتورية بوليسية في ثوب نظام ديمقراطي، أو على الأقل في ثوب نظام في طور التطور البطيء لكن الثابت نحو النظام الديمقراطي . قد لا يكون من باب المبالغة القول أنه لا يوجد نظام استبدادي في العالم عمل بمثل جدية وخبث وإصرار النظام التونسي لبيع العالم صورة النظام الديمقراطي المعتدل المتسبب في ” معجزة اقتصادية ” .
هذه الانتخابات الرئاسية والتشريعية ” التعددية” التي تنظم كل خمسة سنوات تعدّ مظهرا من مظاهر وآليات هذا التزييف الشامل الذي ربما بدا لأصحابه في بداية التسعينات قمة الدهاء السياسي .
المشكلة أنك تستطيع كما يقول المثل الفرنسي ” أن تكذب مرة واحدة على شخص ولا تستطيع أن تكذب طول الوقت على كل الناس”.
هذا ما يجعل النظام في وضع بالغ الحرج وهو مضطرّ للتزوير المفضوح تحت نظرات الإشفاق والسخرية من شعب استخفّ بسرعة بذكائه… وهكذا يجد نفسه في كل موسم انتخابي في قلب مشكلة متعددة الأوجه .
ثمة في البداية استحالة تمرير كذبة بحجم إيهام الناس أنهم يعيشون حدثا ديمقراطيا وكأن ” الدهاة” الذي خططوا لعملية التضليل هذه يحاولون إخفاء ذئب ضخم تحت قناع حمل صغير .
بديهي أيضا أن الأضواء الخارجية تسلّط في هذه الفترة على دكتاتورية لا يجد أصحابها راحتهم مثل الخفافيش إلا داخل المغارات المظلمة مساهمة في عملية التعرية لرأي عام جاهل أو مخدوع .
هناك أيضا نقمة الناس ضدّ النظام وهي تتصاعد من مهزلة انتخابية لأخرى للوعي بأن الاستخفاف لا يتعلق بذكائهم فقط وإنما بكرامتهم و لسان حال السلطة يقول : أعلم أنكم تعلمون ومع هذا تصدّوا لي إن استطعتم. أضف لهذا أن تورّط الدكتاتورية في تنظيم انتخابات تحاكي الديمقراطية أمر محفوف بالأخطار. إنها اعتراف ضمني بأولوية الديمقراطية على الدكتاتورية لأن المزيّف لا يزيف إلا ما له قيمة .
ثمة خاصة صعوبة التحكم المتزايدة في اللعبة حيث يتصدى للتزييف من هم ضحاياه مثل السياسيين المقصيين من اللعبة المغشوشة. فهؤلاء يجدون آذانا صاغية من “الغلابة ” الصامتين الذين يساقون خاصة في الأرياف كالقطيع للبصم على تواصل معاناتهم .
المعارضات والتحدّي الضخم
نخلص إلى الطرف الثاني المواجه بتحدي الانتخابات المفبركة . هنا يجب تفحص الستراتجيات التي اعتمدتها الأحزاب السياسية منذ بداية لعبة الانتخابات “التعددية” أي سنة 1999.
بالطبع نحن لن نعتبر في التقييم الذين قبلوا أن يكونوا جزءا من التزييف بقبول تعيينهم في البرلمان من طرف البوليس السياسي والإدعاء أنهم يمثلون الشعب . فهؤلاء الناس سواء من المعارضة الرسمية أو من الحزب الحاكم ، عرضة للمتابعة أمام المحاكم العادية بتهم التغطية على التزوير والمشاركة فيه وانتحال صفة كاذبة وهي جرائم يعاقب عليها القانون في كل بلدان الدنيا. لنعتبر فقط ستراتجيات الأطراف المستقلة عن النظام.
ثمة في البداية الستراتجية الحقوقية لمنظمات حقوق الإنسان . هي تحتجّ على غياب الظروف الضرورية لنجاح أي استفتاء شعبي قبل وقوعه أي حرية التنظم والتظاهر والرأي . هي تركّز أيضا على غياب الضمانات إبان الاستفتاء نفسه ومنها كثرة المراكز لمنع كل مراقبة جدية، ناهيك عن علنية الاقتراع وسرية الفرز. هي تصدر توصيات تذهب مباشرة لسلة مهملات الدكتاتور، على فرض أنه أخذ الوقت لقراءتها . وفي آخر المطاف فإن هذه التقارير التي توزّع بعد انتهاء عملية اغتصاب سيادة شعب ليست هي التي ستعيد لهذا الشعب شرفه وسيادته. يبقى أن مثل هذه الحملات ضرورية لأنها تساهم، ولو بقدر متواضع، في إنهاك الاستبداد بجعله يتحرك عاريا تحت الأضواء الكاشفة .
هناك ستراتجية المشاركة الاحتجاجية . إنها خيار بعض السياسيين الديمقراطيين -الذين تسمح لهم السلطة بالنشاط لمعرفتها بقلة خطرهم – والداعي لاستغلال الفرصة لمزيد من توريط السلطة في تناقضاتها . هم يريدون إظهار سوء نيتها وتعصّبها وأحاديتها برفضها للمنافسين، حتّى الذين لا يريدون الخروج على اللعبة وإنما الانخراط فيها بكل نواقصها وعيوبها .
القناعة وراء هذا الموقف أن الانتخابات المفبركة مرحلة للمرور للانتخابات الحقيقية. يكفي أن يكون المرء صبورا ومطمئنا و” معتدلا” حتى يقبل المشارك الإيجابي يوما في اللعبة ، فتتحقق تدريجيا الانتخابات المنشودة ولو ضمن نفس الإطار السياسي أي استبداد مروّض .
إضافة للضغط الداخلي لا يرى أصحاب هذه الستراتيجية حرجا من استعمال الضغط الخارجي لدول الوصاية ، خاصة فرنسا وأمريكا، ومن ثمّ زياراتهم المتكررة إبان ” حملتهم” الانتخابية لواشنطون وباريس وبروكسل.
المشكلة أن السلطة ليست بحاجة لمن يثبت سوء نيتها وتزييفها والأمر واضح للجميع بل هو أساس ومنطلق كل العملية. عن الضغط الخارجي أحسن وصف له مثالنا الشعبي ” استني ( انتظري) يا دجاجة حتى يجيك القمح من باجة ” ( مدينة بالشمال الغربي شهرت بوفرة إنتاجها من الحبوب ).
إن التجربة وحدها أصدق دليل على خواء هذا التوجه حيث لم تؤدي المشاركة الاحتجاجية في 2004 و2009 إلا لبعض الإشهار لحزب أو شخص يلعب دور الضحية ويشتكي ويتباكى، وما أتعس هذا الدور. أما تحريك جلمود الصخر خطوة إلى الأمام ، فلم يقع مطلقا وإنما العكس هو الذي حدث حيث تتحرك الصخرة كل “انتخابات ” خطوة إلى الوراء.
هل من الضروري التذكير هنا بالنتائج المتواضعة حتى لا نقول المعدومة لكل القوى السياسية وخاصة الإسلامية التي قبلت بدخول برلمانات لا سلطة لها ، جامعة وصمة قبول صفة ممثلي الشعب وهم أول من يعلم أن وزارات الداخلية هي التي عينتهم ووصمة المشاركة في ديكور ديمقراطي مع إدّعاء مناهضته. أخيرا لا آخرا ستراتجية المقاطعة التي دعت لها أحزاب ليس من الصدفة أنها كلها غير معترف بها .
المشكلة في هذا الخيار المنطقي القائل بعبثية الدخول في لعبة عبثية، هو ترك الحبل على الغارب لدكتاتورية آخر ما يهمها نسبة مشاركة تعرف ضعفها بدعوة أحزاب المعارضة للمقاطعة أو بدونها . فالسلطة القادرة على منح الزعيم المزمن تسعين في المائة من الأصوات لا يقلقها رفع مستوى المشاركة الشعبية إلى نفس الرقم السحري. أما الاحتجاج المصاحب لطلب المقاطعة فليس أكثر ضررا من صراخ الحقوقيين والمشاركين المحتجين .
إن الفشل النسبي لهذه الستراتجيات المختلفة هي التي ستجبر الطبقة السياسية والمجتمع ككل على ابتكار أساليب جديدة لرفع التحدي . إن ما يختمر في الأذهان، وما يدعو له كاتب هذه السطور منذ مدة ، الانطلاق من عبثية واستحالة المعارضة تحت نظام استبدادي وقبول الواقع الصعب أي أنه لا خيار للشعب المقهور إلا بين المقاومة المسلحة والعصيان المدني .
السؤال المحوري ليس هل الدخول في إضرابات قطاعية مسترسلة تنتهي بالإضراب العام إلى رحيل الدكتاتور خيار قابل للترجمة على أرض الواقع….وإنما هل هو خيار متقدم على الوضع، أو جاء متأخرا عليه وقد وصل القمع والفساد والإذلال مستوى غير مسبوق وبدأ الاستعداد للمواجهة الدموية من كل الأطراف ؟
الحامي الخارجي و الخيار الصعب.
لا أحد يجهل اليوم دور الطرف الثالث أي كبرى الحكومات الديمقراطية الغربية التي تدعم النظام السياسي العربي الفاسد عسكريا ومخابراتيا وماليا . لقائل أن يقول ما الغرابة في ذلك وقد عوّدنا الغرب على ازدواج المعايير وعلى أنه كلما وقع تناقض بين مصالحه ومبادئه ضحى بالمبادئ من أجل المصالح . السؤال الحقيقي ليس هل هذا مقبول أخلاقيا أم لا، وإنما ما التكلفة السياسية لموقف مثل رفض الاعتراف بنتائج انتخابات حرة ونزيهة في غزة، والمبادرة ببرقيات التهنئة حال ” انتخاب” الدكتاتور التونسي سنة 1999 و2004 ومن المؤكد يوم 26 أكتوبر المقبل ؟
كثيرا ما ننسى أن الغرب الذي نتحدث عنه بصفة عامة هو “غربان” اثنان : الأوروبي والأمريكي، وهما واقعان غير متطابقان تطابق اليد اليمنى واليسرى، وثلاثة ” غروب” : غرب القيم والحضارة وغرب الحكومات وغرب المجتمعات المدنية. ستقودنا مثل هذه القراءة لبديهية نتعامى عنها بالتبسيط والتعميم وهي أن حليف دكتاتورياتنا هو تحديدا حكومات الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتوسطية وليس كل الحكومات الغربية، فما بالك بالمجتمعات المدنية المتعلقة بالمبادئ والتي كانت دوما في صفنا ضد قمع حكوماتنا وجشع وأحيانا غباء حكوماتها.
يعني هذا أن هناك تكلفة داخلية للاعتراف بالانتخابات العربية المفبركة لا زالت خفيفة لأننا لم نعمل كثيرا على تأليب الرأي العام الغربي ضد حكوماته . ويوم تصبح قضية التواطؤ فضيحة داخلية فإن السياسيين المكيافليين سيبدؤون في مراجعة حساباتهم . على كل حال هم أخذوا في هذه المراجعة وكل المؤشرات تظهر أن الأنظمة التي يساندون آيلة للسقوط بفعل التعفّن الداخلي أكثر من فعل معارضات دمّرت إلى العظم ولا زالت في طور إعادة التكوين.
بديهي أيضا أن حجم الفساد والإذلال والفشل في كل الميادين لأنظمتها العميلة هو الذي يولّد أخشى ما يخشاه الغرب : العنف الإسلامي والهجرة السرية. هذا ما سيزيد من صعوبات كبرى الحكومات العربية في تبرير الدفاع عن سياسة هي على الأمد المتوسط وليس فقط البعيد كارثة على القيم وعلى المصالح.
معنى هذا أن الانتخابات المفبركة التي نشاهد تواتر مسرحيتها هنا وهناك مرحلة انتقالية هامة في حياة وموت النظام السياسي العربي الفاسد.
هي تطرح لكبرى الحكومات الغربية الخيار بين مواصلة الاعتراف بشرعية انتخابات لا شرعية لها والتواطؤ مع أنظمة تجلب لها الحرج وحتى العار….أو التضحية بأنظمة متخلفة و البحث الحثيث عن بدائل تحفظ المصالح الكبرى وتكون مقبولة ولو نسبيا من شعوبها .
أما بالنسبة للدكتاتورية فهي حيلة ساذجة لإرجاء لحظة الحسم بين خيارين لا ثالث لهما : إما العودة للدكتاتورية الفجة أو المرور للديمقراطية الفعلية . هي بالنسبة للقوى السياسية الحالية قضية مصيرية، فإما قيادة العصيان المدني – وهو خيار كاتب هذه السطور – للانتهاء مع أنظمة الفساد والقمع والتبعية …أو الاختفاء لصالح عناصر جديدة تقود معركة التحرير وتحقيق الاستقلال الثاني. قد لا يترك تحالف الاستبداد والاستعمار لهذه القوى من خيار غير المقاومة المسلحة وهو الاتجاه الذي تدفع له بكل وعي أشرس القوى داخل الدكتاتورية لتوهمها قدرة السيطرة على ” الإرهاب” بل وتجدّد شبابها بالحرب الأهلية . وإذا وصلنا لا قدّر الله مثل هذه الحالة، فالتحالف الشيطاني وحده من يتحمل مسؤولية وضع شعوبنا بين خيار التمرّد أو الاستعباد إلى الأبد والموت البطيء