خطاب 25 آفريل 2015
أيها الاخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
شكرا لكم جميعا على الحضور ومرحبا بضيوفنا الكرام.
لأوّل مرّة بعد الانتخابات الرئاسية آخذ الكلمة في اجتماع عام ، لذلك أغتنم الفرصة لأجدّد عميق امتناني لكل من شرفوني بثقتهم بالتصويت لي ولكل من ساندوني إبان الحملة وأخص بالذكر الجموع التي استقبلتني في كل أرجاء الجمهورية بالترحاب وبالتشجيع.
أقول لكل من ساندوني إبان الحملة الانتخابية أن حماسهم والتزامهم والشعار الذي رفعوه في كل مكان “جيناك بلا فلوس جيناك” هو الذي أوحى لي بفكرة شعب المواطنين وبالقوة المعنوية لمواصلة النضال. فألف شكر لكم .
نتيجة هذه الانتخابات ، أنا وحدي من يتحمّل مسؤوليتها ولا أريد أن أبحث لها عن تبرير كما لا أتنصّل من مسؤوليتي في كل الاخفاقات التي واكبت المرحلة الانتقالية. لقد اخطأت أحيانا في تقييم الوضع وفي اختيار بعض مساعدي وفي التواصل مع الشعب وأخطأت عندما لم استقل وأنا اشاهد استفحال الفساد والعرقلة للعدالة الانتقالية ممنيا النفس بفرض مثل هذه السياسة إذا تغيرت موازين القوى ، لكن الرياح مشت بما لم تشتهي السفن …ومن ثمّ اعتذاري للشعب التونسي عن كل خطأ وكل تقصير ،لا يشفع لي، والله على ما أقول شهيد، إلا أنني لم أدخّر جهدا أو تضحية ولم أتراجع أمام خطر لخدمة الوطن المفدى والشعب الذي أحمل انتمائي إليه بكل اعتزاز.
ايها الاخوة والأخوات
نعم ، بوسعنا جميعا أن نفخر ببلادنا وبما أنجزنا خلال المرحلة الانتقالية. حافظنا على الوحدة الوطنية وعلى السلم المدني وهما أغلى مكسب بالنسبة لأي شعب…كتبنا دستورا توافقيا من أرقى دساتير العالم…سلّحنا جيشنا الأبي وأمننا الجمهوري … واجهنا الارهاب …. حافظنا على الحريات الفردية والجماعية في أصعب الظروف خاصة حرية الرأي والتعبير …أقمنا انتخابات وفرنا لها كل شروط الحرية.
نعم نستطيع أن نعتزّ بثورتنا وبما حققنا طيلة المرحلة الانتقالية ، لكن علينا الاعتراف أيضا أننا لم ننجح لحدّ الآن في تحقيق أهداف الثورة نتيجة شراسة الثورة المضادة، لكن خاصة نتيجة غياب الشجاعة السياسية ، فلا أنصفنا عائلات الشهداء ولا قدنا الحرب ضد الفساد ، ولا أعدنا الآلة الاقتصادية لخلق الثروة ،ولا شمّرنا عن سواعدنا للعمل ، ولا دخلنا في الاصلاحات الجذرية المطلوبة في الاقتصاد والتعليم والقضاء والاعلام.
في 20 مارس من السنة الماضية وفي قصر قرطاج تساءلت عن أي استقلال نتحدث وتبعيتنا الاقتصادية تتعمق ونحن لا ننتج أدويتنا وبذورنا . لي اليوم أن أضيف سؤالا جديدا: عن أي استقلال نتحدث وقد أصبح لبعض الدول بفضل ما تملك من مال ونفوذ رأي مسموع في اختيار رؤسائنا وتحديد سياستنا ؟
نحن لم ننجح أيضا لحدّ الآن في إرساء أسس ديمقراطية سليمة حيث عرّت الانتخابات الأخيرة الدور الهائل للمال السياسي الداخلي والخارجي وللإعلام الموجّه وتغلغل آلة التجمع المنحلّ نظريا ، بل وحتى لتهديد المواطنين وشراء الذمم وتصويت الموتى. مما يعني أننا دخلنا ديمقراطيتنا الناشئة بأسوأ التصرفات.
الأخطر من هذه التجاوزات ظاهرة عزوف أغلبية الشعب عن ممارسة حق ناضلت الأجيال من أجله. فعلى الثمانية ملايين من لهم حق التصويت لم يسجّل في القوائم الانتخابية إلا خمسة ملايين ولم يشارك فيها إلا ثلاثة وبقي الشباب بعيدا عن صناديق الاقتراع….وهذا فشلنا نحن القيادات السياسية في إقناع أغلبية شعبنا بالمشاركة في انتخابات تقرّر مصيره.
هنا رفعا لكل التباس أجدّد ما قلته ليلة التصريح بنتائج الانتخابات الرئاسية أي تمسكي أكثر من أي وقت مضى بالخيار الديمقراطي وقبولي بإرادة الشعب أيا كانت وأنني من موقع الحرص على استقرار البلاد ووحدتها وحقنا للدم التونسي لم ولن أطعن في شرعية السلطة المنبثقة عن هذه الانتخابات . لكن هذا لا يعني السكوت عن الخروقات الخطيرة التي عرفتها هذه الانتخابات ولا بدّ للعدالة التي رفعت أمامها الأمر أن تبتّ فيها ولا بدّ للرأي العام أن يعرف تفاصيلها لضمان حياد الاعلام والادارة حتى لا نسمح في المستقبل بتكرار نفس الأخطاء.
ما يجب أن يشغلنا كثيرا أننا لم ننجح لحدّ الآن أيضا في خلق مناخ معنوي سليم كالذي رأينا بوادره أياما بعد الثورة ، فقد عاد الاحباط والتشاؤم وتنامي العنف اللفظي وخطاب الكراهية والتحقير. إنها مؤشرات عن مدى الاحتقان النفسي وعن الحالة المعنوية المتردّية لشعب فقد الثقة بنفسه ، بنخبه وبمستقبله.
أيها الاخوة والأخوات
إنني أعلم الناس بصعوبات الحكم وقد تمنيت بكل إخلاص للرئيس المنتخب كل التوفيق ورفضت إبداء أي نقد تجاه للحكومة لمعرفتي بضرورة التحلي بالصبر لظهور النتائج . إلا أنني لا أستطيع إلا إطلاق صرخة فزع أمام وضع نرى فيه تفاقم كل الأزمات التي قيل أن الترويكا سببها والتي يعاني منها شعب منهك بصعوبات العيش ومتزايد الاحباط لعدم رؤية أي أفق . إن أكبر خطر لهذا الوضع أن تتعمق الهوة بين عامة الناس ونخب سياسية واعلامية تعطي عن نفسها صورة جدّ سلبية وأن يتزايد يأس شعبنا وحتى أن تكفر أجزاء منه بالديمقراطية وأن تفتح قلبها وعقلها لأصحاب الحلول غير الديمقراطية وغير السلمية وهو ما سيزيد الطين بلّة…ومن ثمة واجب طرح البدائل في إطار حق كل التونسيين والتونسيات في الرأي والتعبير والمشاركة في شؤون بلادهم.
أيها الاخوة والأخوات
ليلة 23 ديسمبر التي طرحت فيها لأول مرة مشروع حراك شعب المواطنين كان هدفي الآني التأكيد على أن مسار الثورة لم ينتهي وأن علينا مواصلة النضال في إطار الاستقرار والوحدة الوطنية والحفاظ على الدم التونسي وهي هواجسي الثلاث وأولياتي في كل ما أقول وأفعل . كنت واعيا أيضا أن المعارضة المدنية ستكون بحاجة ماسّة لإعادة رص الصفوف بعد ظهور التحالفات السياسية الجديدة وخاصة لتأطير كل القوى الجبارة التي وعيت بوجودها إبان الحملة انتخابية. لقد تبين لي أن تونس ستكون بحاجة لتيار سياسي جديد يوفّق من جهة بين الالتزام بالمطالب الأساسية لشعبنا وثورته والالتزام بالخيار السلمي لتحقيقها.
اقولها بكل وضوح ، تونس ليست بحاجة للتطبيع مع النظام القديم خوفا من قدرته على الإيذاء. إنني لا أعني بالنظام القديم الأشخاص بقدر ما أعني عقليات وممارسات وسياسات هي التي قادتنا للثورة وهي التي قد تقودنا لها من جديد لأن نفس الأسباب تؤدي غالبا لنفس النتائج ولأنّ ما بالطبع لا يتغير. تونس لن تتقدم إلا بالقطع الجذري لكن السلمي والديمقراطي مع الماضي ،أما المصالحة الوطنية التي نريدها جميعا فهي لن تكون حقيقية إلا بعد العدالة الانتقالية القادرة وحدها على طي الصفحة وارساء أسس الاستقرار الحقيقي . ما يتطلبه وضع بلادنا بناء نظام سياسي مجتمعي ثقافي جديد يحققه تيار وطني عارم متجذّر في ثوريته وفي سلميته وهو الذي سميته حراك شعب المواطنين.
أيها الاخوة والأخوات
إن شعب المواطنين يعني شعبا حقق سيادته الكاملة على أرضه وحافظ على هوية يواصل تطويرها وإثرائها وحقق أقصى قدر ممكن من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل مكوناته وبنى استقرارا مبنيا على التشارك العادل في الخيرات وفي الجهود المبذولة لخلقها … شعب خلاّق للمواد وللأفكار والقوانين والقيم يساهم بنشاط في تقدّم الانسانية جمعاء .
إذا كان شعب المواطنين نسيجا فالخلية المكونة هي المواطن و أحسن تعريف له لنلسون مانديلا الذي قال أن الانسان الحرّ ليس الذي يدافع عن حريته فقط وإنما الذي يدافع عن حرية الآخرين.
ومن ثم فالمواطن هو من جهة الشخص الواعي والمطالب بحقوقه السياسية والاقتصادية الاجتماعية والفردية كما وردت في الاعلان العالمي لحقوق الانسان…ومن جهة أخرى هو الشخص المجنّد للدفاع عن كل هذه الحقوق ليتمتع بها كل الناس. هو الشخص الذي يدرك أن حقوقه هي واجبات الآخرين تجاهه وأن واجباته هي حقوق الآخرين عليه ، أنه لا حقوق دون واجبات لأنهما وجها نفس قطعة النقد. هكذا تتشكل لديه منظومة فكرية قيمية مبنية على حسّ فطري بكرامته في علاقته بنفسه وايضا بمسؤوليته في علاقته بالآخرين.
تقدّرون كم نحن بعيدين عن الهدف إذا قارنتم طموحنا بوضعنا الفعلي كشعب وكأفراد .
لكن إذا تأملنا المسار التاريخي لشعبنا والمحطات الكبرى لتضحياته : 8 أفريل 1938، 20 مارس 1956 ،26 جانفي 1978، 4 جانفي 1984 ، 17 ديسمبر 2010، فسنكتشف نضالا لم يوقفه أي إخفاق لبلورة مثل هذا الشعب ومثل هذا المواطن .
سنكتشف أن هناك قوة جبارة تحرّك كل التنظيمات السياسية والاجتماعية والفكرية وتدفع بها في نفس الاتجاه حتى وإن كانت تتحرك غالب الوقت دون تنسيق أو تدخل في صراعات هامشية تضرّ بها وبالمشروع المشترك. مهمتنا اليوم أن نشكّل داخل هذا الزخم المتباين القوة والفعالية تيارا أكثر وعيا وتنظيما تعلّم من كل التجارب وخاصة من الاخفاقات وهذا التيار الجديد هو حراك شعب المواطنين.
لقد انطلقنا بعد الاعلان عن المشروع يوم 23 ديسمبر 2014 في مشاورات معمقة في كل الجهات ومع طيف واسع من الشباب ليتمّ الاتفاق على أن الأداة لبلورة مشروع بضخامة شعب المواطنين لا يختزل في حزب سياسي ولا يكون بدونه.
لذلك أدعو كل القوى السياسية المؤمنة بنفس الأهداف والمتشبعة بنفس القيم إلى الانخراط في بناء الإطار السياسي للحراك أي القوة السياسية الوازنة التي تنصهر فيها شخصيات وتيارات وأحزاب سياسية حتى لا تبقى كل هذه القوى تصارع وحدها أو تصارع بعضها البعض وهو تبذير لطاقاتنا.
أما الوظائف لهذا الإطار فثلاث
1-عليه أن يتشكل كسدّ منيع ضد أي عودة للاستبداد والشعار إذا عادت الأفعى عدنا لها بالنعال.
2-عليه أن يكون عنصر شحذ للهمم وتنبيه للأخطاء وضغط متواصل لتؤدي أي حكومة دورها تحت الرقابة الديمقراطية .
3-عليه أن يعدّ البدائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تنسيق كامل مع بقية مكونات الحراك لينفذها يوم يصل للحكم في إطار انتخابات يجب أن تكون حرّة وأكثر نزاهة من التي سبقت.
على هذه القوة السياسية الجديدة أن تكون جاهزة قبل الخريف المقبل لكل الاستحقاقات السياسية ومن أهمها الانتخابات البلدية التي تعلمون الأهمية التي أوليها لها والتي أطالب مجلس الشعب أن يضع قوانينها على رأس أولوياته وأطلب الحكومة تنظيمها قبل نهاية 2015 لأن الديمقراطية الحقيقية هي التي تبنى من القاعدة إلى القمة وليس العكس.
أيها الاخوة والأخوات
قلت وأردّد أن المشي قدما في مشروع شعب المواطنين بحاجة لحزب سياسي لكنه بحاجة إلى شيء أوسع من حزب سياسي ، فتونس تتخبّط في ثلاث أزمات مترابطة : السياسية ، الاقتصادية ، الثقافية الاخلاقية ولا بدّ من التعامل معها كمنظومة واحدة أو كمشكل واحد له حلول أو مداخل ثلاثة : المدخل السياسي بمفهومه الحزبي والمدخل الاقتصادي والمدخل الثقافي الاخلاقي
بالنظر لمعاناة شعبنا اليومية ولمشاغله الحياتية وخاصة الغلاء ، فإن أهم واجباتنا اليوم هي التي تتعلق بتحسين مستوى معيشة الناس واخراج مليوني تونسي من لعنة الفقر.
على الحراك إذن إعطاء أقصى الأهمية لبناء هيكل جمعياتي ينسّق مع ما هو موجود ويضيف إليه وأهدافه القصيرة المدى الالتحام بمشاغل الناس والبحث معها عن حلول آنية ولو صغيرة لمشاكل التنمية المحلية بمواكبة كل المشاريع الموجودة والتي ستتواجد على الأرض. لقد كان لي أبان فترة الرئاسة شرف بعث مشروع وطني لمحاربة الفقر تأسست على اثره قرابة الثلاثمائة جمعية هي الآن في حالة توقف ويجب دعمها لتواصل رسالتها.
إلا أن أهم وظيفة للهيكل المجتمعي هي بلورة رؤيا جديدة للتنمية في بلادنا
إن النموذج الليبرالي الصرف يضاف له الفساد أدى لارتفاع هائل في ثروة أقلية وضمور متسارع للطبقة الوسطى وفقر في أغلب مناطق الداخل وهو ما كان أهم سبب في الثورة.
ولأن نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج ، ولأن من موّلوا الثورة المضادة بالإعلام والمال السياسي، سيطالبون بنتائج استثمارهم ، فالمتوقّع تفاقم وتيرة اقتصاد الريع ونهب خيرات البلاد وتراجع الطبقة الوسطى وتوسع البطالة مما سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى انفجارات اجتماعية لن يكون للسلطة خيارا آخر غير التصدي لها بالقوة .
لتفادي هذا السيناريو المخيف لا خيار غير اعتماد سياسات اقتصادية جريئة تركز على الحرب ضد الفساد وتفرض العدالة الجبائية وتعيد دور الدولة التنموي التعديلي وتبني شراكة مع رأس المال الوطني ومع المجتمع المدني في إطار اقتصاد تكافلي هدفه الأول القضاء على الفقر وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وحمايتها من انجراف مقدرتها الشرائية.
إننا أكثر من اي وقت مضى بحاجة للعودة لأبجديات الفكر الذي سمي في وقت ما باليساري إي اعتبار الفقر هو العدو لا الإسلام واعتبار الفاسدين والمستغلين هم الخصوم لا الإسلاميين . هل لي أن أذكّر أصدقائي من اليسار أن القضية المركزية كانت ويجب أن تبقى القضية الاجتماعية التي تهم الشعب لا القضية الايدولوجية التي تهمّ النخب.
أيها الاخوة والأخوات.
إن من يتصوّر بناء نظام اقتصادي فعال أو ديمقراطية نزيهة على أرضية ثقافية وأخلاقية كالتي ورثناها من الاستبداد كمن يريد بناء عمارة شاهقة فوق مستنقع ورمال متحركة.
لقد عايشنا بداية انهيار أخلاقي مريع في أواخر عهد بورقيبة ورأيناه يتسارع ويتفاقم ليشكّل كارثة بأتمّ معنى الكلمة إبان عهد المخلوع حيث تفشّت -والناس دوما على دين ملوكها-تصرفات الانتهازية والغشّ والكذب والتحايل للكسب السريع والعمل الرديء وانتشار الفساد انتشار النار في الهشيم داخل أجزاء متوسعة من النظام الاقتصادي والسياسي والصحي والتربوي والأمني والاعلامي والقضائي.
كذلك شاهدنا انهيار التعليم قيمة ومنهجا ومحتوى وذلك على امتداد الثلاثة عقود الأخيرة مما أعطانا جامعات صنفت في آخر قائمة الجامعات الدولية ومجازين لا يفوت مستواهم مستوى تلميذ ياباني في الثانوي وأجيال لم تعد قادرة على الكتابة أو الحديث بأي لغة سليمة .
إن وضعا كهذا في عالم يوصف بأنه عالم المعرفة لهو بمثابة انتحار بطيء علينا إيقافه وعكس التيار علنا نعوّض في عشرية ما أفسده استبداد أفظع ما فيه ليس فساده وإنما جهله .
أيها الاخوة والأخوات
إنني أتوجه بنداء حار للإعلاميين والمثقفين ورجال ونساء العلم والتعليم للالتحاق بحراك شعب المواطنين ليبنوا معا هيكله الثقافي والأخلاقي والأهداف :
1-تشخيص دقيق لكارثة المعرفة والقيم في وطننا.
2-تدارس واعتماد، كل في ميدانه وبالتنسيق مع الميادين الأخرى ، خطط لثورة شاملة في مناهج التعليم واستعمال الاعلام والفضاء الافتراضي وكل وسائل الابداع الثقافي لتوزيع المعرفة داخل المجتمع والدعوة لقيم المواطنة.
3-الضغط المستمرّ على الحكومات والأحزاب أيا كانت لاعتماد هذه الاصلاحات الهيكلية.
لكن أصعب سؤال كيف التعامل مع الأزمة الأخلاقية؟
ثمة ضرورة العودة للبّ ديننا الحنيف وهذه مهمة المربين الدينين والوعاظ. إن الرسول الكريم لما أراد تلخيص المهمّة التي عاش من أجلها لم يقل جئت لأعلمكم الطقوس أو جئت لسن قوانين لا تبلى أو جئت لفرض الاسلام على من لا يريده وإنما قال ” بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” وهو أشرّ بهذا على أن الطريق القويم للفرد وللأمة هو طريق القيم لا غير.
لكن أكبر محفّز للتصرف الأخلاقي وذلك في أي مجتمع هو القانون الذي يعاقب الفساد والتسيب والتحيل وهذه من مشمولات دولة ديمقراطية قوية يتمتع من لهم شرف قيادتها بالقدر الأقصى من النزاهة ونظافة اليد. تعلمنا مقولة ” سيد القوم خادمهم ” وأقول أن السيّد من يعطي المثل وليس من يعطي الأوامر. هذا المجتمع المريض بأمس الحاجة لرجال ونساء يكونوا القدوة والمثال خاصة إذا شرّفوا بالتواجد في مراكز القرار وإلا فإنها دوما نفس الحلقة المفرعة من الفشل المهين للأفراد وللمجموعة الوطنية ككلّ.
أيها الاخوة والأخوات
لأسباب عملية بحت وبانتظار انعقاد المؤتمرات التأسيسية الثلاث لهياكل الحراك التي سيعهد لها ديمقراطيا بترجمة الميثاق واللوائح التي اعددتموها إلى برامج وباختيار القيادات على الصعيد المحلي والوطني ، فإنني سأكلّف بعض الاخوة والأخوات بتكوين لجنة اتصال وعمل للتواصل مع الشخصيات والناشطين والقوى السياسية على المستوى المركزي والجهوي من أجل بلورة الاطار السياسي على المستوى الجهوي والوطني .
وحتى لا نضيع وقتا ثمينا فإنني سأطلب من لجنة العمل والاتصال إنهاء مهامها التحضيرية جهويا ووطنيا في 25 جويلية المقبل والإعداد لعقد المؤتمر التأسيسي في الخريف المقبل انطلاقا من الميثاق الذي اعتمدناه يوم 27 جانفي الماضي.
كما أنني سأكلف لجنتين تحضيريتين للمضي قدما في بلورة الهيكل المجتمعي والثقافي وآمل أن يكتمل الهيكل المجتمعي والثقافي بناء بداية سبتمبر وسأعلن عن أسماء المكلفين باللجان التحضيرية الثلاث في نهاية الأسبوع المقبل. ولينطلق عمل كل هيكل قبل بداية السنة السياسية الجديدة علما وأن الآجال الزمنية مختلفة فإذا كان أفق الإطار السياسي الخمس سنوات المقبلة لضرورة أن يكون جاهزا للانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية القادمة ، فإن أفق الإطار المجتمعي هو العشر سنوات المقبلة ، أما افق الإطار الثقافي فليس أقل من الخمسين سنة المقبلة لأن من يطمح إعادة تشكيل النسيج الفكري والقيمي لشعبنا حتى يكون فعلا شعبا من المواطنين مطالب بالتخطيط للأمد البعيد المدى والشعار زرعوا فأكلنا ، نزرع فيأكلون.
أريد أن أؤكّد هنا على أن الإطار السياسي في تصوري ليس قيادة الحراك فنحن لسنا في منظومة التفكير القديم الذي يجعل المدني والثقافي خاضعا للحزبي وإنما في منظومة تريد عملا سياسيا متكامل الأبعاد وتتظافر كل مكوناته لتحقيق أهداف مترابطة ولم يعد من الممكن تجزئتها . مما يعني أن الأطر الثلاثة في تصوري متساوية في الأهمية والقيمة وتعمل في إطار الاستقلالية والتعاون والتنسيق .
بديهي أن على الجمعيات التنموية والثقافية أن تخضع لقانون الجمعيات وأن يخضع الحزب الجديد لقانون الأحزاب ، لكن لا شيء يمنع تنسيقا متواصلا بين القيادات الثلاث يرسم الخطّ العام ويترك لكل إطار مجاله ونصيبه من تحقيق الهدف المشترك ألا وهو أن يكون لنا يوما شعبا من المواطنين.
ايها الاخوة والأخوات
نقطة هامة أخيرة أودّ أن اشير إليها وهي ضرورة التشبيب والتأنيث في كل مستويات الحراك وخاصة في مستوى القيادات الثلاث .
هنا اسمحوا لي بأن أتوجّه لشباب تونس ذكورا وإناثا وأن أكون معهم صريحا
1 – ليس من حقكم أن تقولوا بلهجة الاحتقار عن السياسيين ” كلهم كي بعضهم ، لا يريدون إلا الكراسي” . أقول لكم عن تجربة طويلة بالبشر وبالسياسة أنه كما يوجد سياسيون وصحافيون وأمنيون وأطباء ورجال أعمال فاسدون، يوجد أيضا سياسيون وصحافيون وأمنيون وأطباء ورجال أعمال نزهاء لا يريدون إلا الخير لوطنهم ولو على حساب مصالحهم وأحيانا بالتضحية حياتهم.
2- ليس من حسن التخطيط لمستقبلكم تجاهل الشأن العام لأنه يتحكم في كل تفاصيل الشأن الخاص. إنكم عندما تخليتم عن حقكم وواجبكم الانتخابي لم تفعلوا سوى تسليم مصيركم لأيادي تدفع في اتجاه تحقيق مصالحها وآخر ما يهمها مصالحكم . فلتكن من قرارتكم الحكيمة المقبلة التسجيل بكثافة في القوائم الانتخابية وحثّ زملائكم على الأمر الشيء الذي سيدخلكم آليا في مفهومنا لشعب المواطنين.
3- ليس من الحكمة اعتبار تحقيق الأهداف الشخصية الهدف الأوحد في الحياة لأن الحياة المكتملة تكون حقا بالنجاح المهني لكن أيضا بما يقدمه الانسان لمجتمع هو دوما في طور البناء. وثقوا في إن قلت أن أحسن المهنيين من عرفوا كيف يخرجوا من ميدانهم فإذا بما تعلموه في ميادين النشاط المجتمعي أكبر عامل لإثراء مهنتهم وشخصيتهم .
لهذ أدعو الشباب من كل الطبقات ومن كل الجهات إلى التقدّم للصفوف الأمامية وأخذ المشعل وليجعل من حراك شعب المواطنين أداته ليبلور كل طاقاته وفرصته ليشارك في صنع تونس التي يحلم بها.
ايها الاخوة والأخوات
اسمحوا لي ايضا بوضع النقط على الحروف في موضوعين آخرين:
1-حراك شعب المواطنين ليس بديلا لأي تنظيم. هو إضافة للجهود الخيرة التي تتواجد في كل التنظيمات وإذا شكّل ضغطا عليها لتحسّن أدائها فليكن التنافس الشريف الذي نقوّي بها بعضنا البعض ونقوّي حظوظ شعبنا في تحقيق أهدافه بفضل تسابق أبنائه وبناته إلى رضاه وإلى خدمته.
2- أنني لا أنوي مطلقا استعمال الحراك لتحقيق اي مطامح شخصية وكل ما سأسعى إليه مواكبة عملية التأسيس في الميادين الثلاثة ودعمها بكل قواي والمساهمة في تكوين وتمكين جيل جديد من القادة الشبان القادرين على مواصلة السلسلة التي لم أكن فيها إلا حلقة.
لقد تشرفت بخدمة هذا الشعب كمواطن طبيب… كمواطن حقوقي… كمواطن رئيس , أملي ان أواصل خدمته وخدمة أمتي كمواطن ملتزم بقضايا شعبه وأمته إلى آخر نفس.
أيها الاخوة والأخوات
على صعيد علاقاتنا الخارجية يحق لنا أن نفخر بإشعاع ثورتنا المجيدة ، ثورة 17 ديسمبر التي ألهمت شعوبا كثيرة ويحق لنا أن نفخر بدبلوماسيتنا التي حملت صورة تونس عاليا إبان المرحلة الانتقالية بالدفاع عن مصالحها وأيضا عن مبادئها. إنني أعتبر أن قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري كان أضعف الايمان بالقياس لجرائم غير مسبوقة في تاريخنا العربي الاسلامي في حق شعب من أرقى شعوب أمتنا وهو يعيش اليوم كابوسا فظيعا أدعو الله أن ينهيه قريبا . كما لا أتراجع عن كل كلمة قلتها من منبر الامم المتحدة في سبتمبر 2013 من الدعوة لحوار وطني في مصر يخرج الشقيقة الكبرى من دوامة العنف وأجدّد من هذا المنبر مطالبتي بإطلاق سراح الرئيس محمد مرسي وكل المساجين السياسيين وأعبّر عن كامل تضامني مع المناضلين السلميين في مصر-أيا كان انتماؤهم السياسي، وبغضّ النظر عن الاختلافات العقائدية والسياسية ، فإنني أرفع هذه الشارة – شارة رابعة العدوية – تضامنا مع كل ضحايا ثوراتنا السلمية وبقلبي ذكرى كم هي أليمة لفتاة انتزعت منها الحياة في السابعة عشر من العمر تدعى اسماء هي ابنة زميلي الدكتور محمد البلتاجي الذي أبتهل لله أن يخفف من آلامه وأن يفكّ أسره هو وكل المساجين السياسيين أينما كانوا.
إنني أدين أيضا بكل قوة الألف حكم بالإعدام التي صدرت في مصر في حق خصوم سياسيين مذكرا مرّة أخرى بضرورة إلغاء عقوبة الاعدام في دستورنا وفي أوطاننا لأنها تحت ذريعة القصاص من جرائم حق عام بشعة موجودة بالأساس لخدمة الاستبداد.
إنني كإنسان وكحقوقي وكمسلم ، كما أدين اضطهاد المسلمين الروهنجا في ميانمار والاسلاموفوبيا ، فإنني أدين بنفس الشدّة اضطهاد اخوتنا المسيحيين في سوريا والعراق والقتل على الهوية الدينية كما وقع مؤخرا للمصريين الأقباط وللإثيوبيين في ليبيا وليهود فرنسيين في باريس.
إن واجبنا جميعا رفض الارهاب ولو حارب الاستبداد و رفض الاستبداد ولو حارب الارهاب لأن أكبر داعم للاستبداد هو الارهاب وأكبر داعم للإرهاب هو الاستبداد وهما وجهان لنفس قطعة النقد يعيشان من بعضهما البعض.
إنني أفخر بدعم تونس غير المشروط للشعب الفلسطيني عموما ولغزة المناضلة على وجه التحديد وأعتبر أن حماس كانت وستبقى حركة مقاومة وطنية لا حركة ارهابية.
بنفس الكيفية أفخر بدبلوماسيتنا النشطة في افريقيا جنوب الصحراء وبموقف تونس المشرف والبنّاء من أشقائنا الليبيين الذين احتضناهم ويجب أن نواصل احتضانهم مهما كلفنا الأمر من تضحيات . كما أعتزّ بمحاولة التقريب بين وجهات النظر المختلفة والتزامنا حيادا إيجابيا بين كل الأطراف وسعينا الدائم للحفاظ على وحدة ليبيا واستقلالها وحقها في نظام ديمقراطي .كم اشعر بالأسى وأنا أرى تونس الدولة الأكثر تضررا من الوضع الليبي الدولة الأكثر غيابا في المحادثات الدولية لتسوية سلمية وذلك للانهيار المريع الذي عرفته دبلوماسيتنا منذ عودة النظام القديم للحكم.
اسمحوا لي هنا بالترحّم على كل اخوتنا العرب والأفارقة، ضحايا الفقر والظلم والاستبداد الذين يبتلعهم منذ سنوات البحر الأبيض المتوسط ، وأدعو حكومتنا لمواصلة المجهودات التي بدأناها من أجل المشاركة الفعالة في قوة إغاثة وإنقاذ متوسطية لمنع تكرر مآسي إنسانية هي وصمة عار في جبيننا جميعا.
أيها الاخوة والأخوات
إن الربيع العربي لم يفقد إلا معركة لأنه كفعل سياسي سلمي مدني ديمقراطي للإصلاح الضروري والحقيقي هو الطريق الوحيد لشعبنا وللأمة العربية ككل للخروج من أزماتنا المستفحلة حتى لا نبقي دوما بين مطرقة الاستبداد وسندان الارهاب . لذلك أدعو شباب تونس الأمة إلى مواصلة التمسك به منهجا في التغيير ومشروعا لا يحيدون عنه لبناء الدولة الديمقراطية المدنية والمجتمع التعددي المتسامح والاقتصاد التكافلي والنظام التعليمي القادر على إخراجنا من العقم العلمي والتكنولوجي.
إن تونس التي تشرفت بإطلاق الربيع العربي والتي كانت دوما سباقة في خلق التنظيمات النقابية والحقوقية والأحزاب الديمقراطية مطالبة من جديد بأن تضطلع بدورها التاريخي كقاطرة للتجديد في الوطن العربي بابتكار وإنجاح تجربة الحراك لتضفي حيوية متجددة على الربيع العربي وتوفّر له آليات عمل أكثر نجاعة .
إذا كانت اخفاقاتنا بالنسبة للبعض فرصة لجلد الذات أو للتنصل من المسؤولية أو القائها على الآخرين أو الاستسلام للإحباط واليأس من ثورتنا و أنفسنا وحتى من وطننا ، فإنها بالنسبة لي فرصة لاستخلاص الدروس الموجعة التي تعلمناها ونحن ” نفارع ” المشاكل الضخمة وفرصة لتفحص الاخفاقات كقائمة التحديات والأشغال غير المكتملة التي يجب أن نعود إليها بكل ما أوتينا من قدرة التعلم من الأخطاء والعودة للعمل شعارنا مقولة أجدادنا ” الدوام ينقب الرخام”.
علينا أن نقبل أن الثورة لم تكن إلا منعطفا أما الطريق فلا زال طويلا ، لكن علينا أن نمشي فيه بثقة وإصرار.
يجب أن نبني معنوياتنا المرتفعة على قناعات فكرية راسخة أن زمن الشعوب ليس زمن الأشخاص ، أن الثورة مسار صعب فيه التوقف والتراجع وفيه الفشل والنجاح ، أن قوى الهدم والخراب سواء في أجسادنا أو في مجتمعاتنا لا تتوقف لحظة وكذلك قوى الخلق والتعافي …خاصة أن ما يصنع الأمم والشعوب كما يقول المؤرّخ البريطاني توينبي هو التحدّي. ونحن سنرفع هذا التحدي وسنحقق مهما طال الطريق وتشعب المشروع التحرري لشعبنا وأمتنا.
إن أمسّ ما نحتاج إليه اليوم هو عودة جذوة هذا الأمل والثقة ورفع الروح المعنوية لشعب يشعر أنه مرّ قريبا من هدفه وأخطأه مرّة أخرى لتظافر قوى جبارة داخلية وخارجية تتأمر عليه لتحرمه كل مرّة من نتاج صبره وعمله وتضحياته.
لنكن جديرين بتضحية محمد البوعزيزي والطاهر العياري وأنيس الجلاصي ومن يمثلون من مواطنين وعسكريين وامنيين وبتضحيات كل من استشهدوا طوال القرن الماضي لكي نقترب أكثر فأكثر من أفق شعب المواطنين.
إلى كل الطاقات الحية في بلادنا وإلى شباب تونس خصوصا أقول تقدموا لتجعلوا من الفكرة مشروعا ومن الحلم واقعا وكلي ثقة أن طاقات الخلق والابداع المكبوتة داخل كل واحد وواحدة منكم ستفاجئ الجميع وأولهم أنا بما ستبدعون من أشكال تنظيمية تعمل بالتنسيق وتحركها قيم العطاء والتضحية والغيرة على الوطن لتعود له طاقة الحلم وابتسامة الأمل.
بعد كل عثرة وقوف ، بعد الجزر يأتي المدّ ولا بد لليل أن ينجلي .
تحيا تونس
تحيا ثورة 17 ديسمبر المجيدة
تحيا كل الثورات السلمية للربيع العربي .
والسلام عليكم