لا يوجد عاقل يدعو لتطوير الإسلام بحذف ركن من الأركان الخمسة أو إضافة ركنين أو 3 أركان، لكن الأمر مقبول في الديمقراطية ومطلوب أكثر من أي وقت مضى.
لماذا ما لا يمكن أن يكون مسموحًا به في الدين، يُطالب به في الديمقراطية؟ هذا لسبب بسيط، هو أن الديمقراطية ليست دينا، بل عقدا أو مجرد قواعد لعبة لتنظيم السلطة داخل المجتمع. هذا العقد قابل للفسخ كما يحصل في الانقلاب الدكتاتوري العسكري في مصر أو الانقلاب الدكتاتوري الشعبوي في تونس. وهو قابل أيضا للمراجعة لتحسين شروطه بما يضمن أقصى المصلحة للمتعاقدين، خاصة عندما تظهر التجربة ما فيه من ثغرات كما يحصل طوال الوقت في البلدان الديمقراطية، فالتعديلات القانونية فيها لا تتوقف أبدا.
من نافلة القول إن البدائل للديمقراطية كما هي اليوم ليست سهلة، وإنه لا توجد وصفة سحرية صالحة في كل مكان وزمان لإنقاذ أهداف الديمقراطية من وسائل الديمقراطية.
كل ما علينا، أمام حجم المخاطر والتحديات، التفكير من خارج الصندوق، وكفى ما ارتكبنا من أغلاط ومن أوهام جرينا وراءها فقادتنا من سراب إلى آخر.
أولًا: مراجعات السطح.. الوسائل والأهداف
بالتجربة المباشرة لـ30 سنة من المعارضة و3 سنوات من الحكم في أعلى مراكز القرار والمراقبة لعمل أجهزة الدولة، أصبحت مقتنعا بأن أكبر خطر يهدد الديمقراطية هي وسائلها التي تم تحويل وجهتها منذ زمن بعيد.
حتى يتضح للقارئ فهم موقف سأسرده وقد يبدو له غريبا، وجب التذكير بأن أهداف الديمقراطية ليست حرية التعبير وحرية التنظيم واستقلال القضاء وتنظيم الانتخابات النزيهة.
نحن هنا نتحدث عن وسائل الديمقراطية، أما أهدافها التي يجب التذكير بها، فهي:
- التداول السلمي للسلطة.
- وحكم القانون والمؤسسات حتى لا يسقط المجتمع ضحية مجنون أو أحمق تحيط به عصابات المجرمين بالجملة.
- وبلورة شعب المواطنين من رحم شعب الرعايا الذي يخلقه الاستبداد والفقر والجهل.
- وتحقيق السلام بين الشعوب، وتسهيل اندماج بلدانها.
السؤال إذن، هل آليات الديمقراطية حقا في خدمة الأهداف؟ أم أنها أصبحت أهدافا في حد ذاتها لا تخدم إلا مصالح المنتفعين بها؟
عندما سيتفحّص المؤرخون أسباب إجهاض التجربة الديمقراطية في مصر وتونس، سينبهرون أمام قدرة المال الفاسد على الاختباء وراء حرية التنظيم لخلق شركات مقاولة سياسية تحت اسم هذا الحزب الديمقراطي أو ذاك، وكيف استطاع بعضهم الارتقاء إلى أعلى مراكز الحسم والقرار وإعداد العدة لعودة الاستبداد.
أما القضاء المستغلّ طيلة الاستبداد، فقد خرج منه فجأة أبطال وبطلات لا همّ لهم إلا توسيع سلطات القضاء، بل ووضعه فوق كل السلطات، يحاسب الجميع ولا أحد يحاسبه. سيندهش هؤلاء المؤرخون أن الشعب الذي استهل موجات الربيع العربي صوتت فيه أغلبية لعودة النظام القديم، ثم انتخبت شعبويا نكرة قاد البلاد لحافة الهاوية.
وسيندهشون حين يعرفون الدور الهائل الذي لعبه إعلام فاسد كان خانعا طوال الدكتاتورية واستأسد على الثورة محتميا بالحريات التي أتت بها لأول مرة في تاريخ البلاد، مستعملا أخس الأساليب لتأليب الناس على هذه الثورة ورجالاتها.
إبان فترة تدريس عن الثورات الديمقراطية العربية دعتني لها جامعة هارفارد السنة الماضية، كان من بين المواظبين على دروسي مهندسة فرنسية متخصصة في الإعلام وباحثة في جامعة “إم آي تي” (MIT) مجال أبحاثها هو العوامل التي تمكّن الشعوب من حسن الاختيار في الانتخابات. أخبرتني أنه ثبت لديها، بعد التدقيق في قرابة 200 عملية انتخابية في كل العالم، بأكثر المعادلات الرياضية تقدما، أنه لا العرق ولا الجنس ولا درجة التعليم أو الفقر هو العامل المحدّد لحسن الاختيار في الانتخابات، وإنما كمية ونوعية المعلومات التي يتحصّل عليها الناخبون. على الأقل، الخبر الطيب في هذا الاستخلاص هو نهاية أسطورة الشعوب الغبية التي لا تعرف مصلحتها، والتفريق بين الشعوب الناضجة التي تستحق الديمقراطية والشعوب غير الناضجة التي لا تستحقها ولا تعرف إدارتها.
هذه النتيجة لا تبعث على التفاؤل، بل على العكس تمامًا، هي نتيجة مقلقة ومحبطة بشأن نجاعة الديمقراطية. يخطئ من يتصور أنه يكفي على الديمقراطيين في المستقبل عدم التساهل مع القنوات التلفزيونية الخاصة أو مراقبة صفحات التواصل الاجتماعي لتعديل الكفة. كأنّ الفتق اتسع على الراتق، إذ لم يعد بقدرة أي إنسان ولا حتى أي دولة فقيرة، التحكم في كل وسائل التضليل القديمة والجديدة التي أصبح يوفرها الفضاء الافتراضي.
ثمّة اليوم جيوش جرّارة وراء الحواسيب، وخوارزميات بالغة القوة، وشركات متخصصة، وأجهزة مخابرات دول عظمى مهمتها التدخل في انتخابات أي بلد وتوجيه الرأي العام في الاتجاه الذي تريد وهي قادرة على ذلك.
أضف إلى ذلك خطرا جديدا اسمه الذكاء الاصطناعي الذي سيمكّن المزيفين غدا من إغراق الناخبين بفيديوهات تُقوِّل الرجل السياسي المزعج لمراكز النفوذ المحلية أو الدولية أقوالا لم يتفوه بها يوما أو تخلق له فضائح جنسية أو مالية، والصوت هو صوت الضحية والصور لا أحد يبحث وراء مصداقيتها.
بعد هذا، كيف يمكن الثقة بأقوال طالما اقترنت بالديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة مثل “إرادة الشعب”! أو أن “الشعب سيد قراره”! ما العمل إذا كان البعض يعتبر معركة الإعلام خاسرة سلفا!
هي بالفعل معركة، ومن ثمّ يمكن لموازين القوى أن تختل في صالح إعلام يركّز على فضح تضليل الإعلام، وهذا ممكن ومطلوب. لكن هناك توجها ثاني، هو سحب البساط من تحت أقدام إعلام التضليل، أو بالأحرى جعله عديم الجدوى وخارج الموضوع تماما.
ثمّة اليوم في كبرى الجامعات الأميركية أبحاث عن بدائل للانتخابات التي يتضح أنها لم تعد الحل الأمثل لتحقيق أهداف الديمقراطية، وهي لا تحقق أحيانا إلا عكسها، وثمة أبحاث حاليًا عن مدى نجاعة وفعالية فكرة “القرعة”.
ثمة من يتساءل لماذا يُختار رؤساء الجامعات حسب مقاييس صارمة، ويختار رؤساء الدول حسب قدرتهم على الصراخ: فلسطين، الفساد، العدالة … إلخ! ألا يجب التفكير في اختيارهم كما تختار لجنة نوبل أحسن الأدمغة. تصوّروا لو كانت رئاسة الجامعات والشركات وجوائز نوبل تمنح بالانتخابات الحرة والنزيهة لكي يمارس الشعب سيّد نفسه سيادته الكاملة!
نعم، ولكن كيف نرمي في سلة المهملات بأهم ما في الانتخابات، أي التصريف الدوري للعنف الذي يسكننا جميعا والذي نتخلص منه بالقتل الرمزي للزعيم والانتقام الدوري ممن يتسببون لنا في القهر بطردهم من السلطة؟ أليس من الخطر بعد التخلي عن هذه المعارك الرمزية أن يشدّنا الحنين للمعارك الدموية!
في هذا الصدد، سينظّم “المجلس العربي” مؤتمرا للديمقراطيين العرب يتداولون فيه الإشكاليات المطروحة في هذه المقالات. والأمل أن تخرج من العصف الذهني الجماعي رؤى ومقترحات فكرية وسياسية جديدة تضمن لديمقراطيتنا الوليدة كل حظوظ البقاء والتمدد والتجذر.
ثانيًا: مراجعات العمق.. شرعية السلطة الديمقراطية
الانكباب على الآليات ليس له جدوى إذا لم نذهب إلى أسس النظام الديمقراطي نفسه للتأكد من سلامتها، إذ ربّما تجب إعادة هندستها هي نفسها، أي العودة للمنطلقات.
حتى لا يكون المجتمع مجتمع غاب تسوده الفوضى ويحكمه العنف ويأكل فيه القوي الضعيف ويستحيل فيه العيش المشترك، لا بد من تنظيم، ولا بد للتنظيم من سلطة، ولا بد للسلطة من شرعية تجعل أوامرها ونواهيها مقبولة من دون حاجة لقدر كبير من الإكراه والعنف.
الإشكال الضخم الذي تواجهه كل المجتمعات هو على أي شرعية نبني السلطة التي هي حجر الزاوية لأي مجتمع منظم وقابل للبقاء.
تاريخيا -وما زال الأمر كذلك في الأنظمة الاستبدادية الدينية- لا شرعية للسلطة إلا التي تستمدها من الله ومن ممثليه على الأرض (أولياء الأمر).
نظرا للعلمنة المتزايدة في العالم وتراجع هذا النوع من الشرعية بتراجع دور الأديان في حكم المجتمعات، وقع استبدال الشعب بالله. هكذا أصبحت الدساتير تكتب والقوانين تسنّ والعدالة تصدر أحكامها باسم الشعب، والكل يلهج بحمده وادعاء الموت في سبيل خدمته، وأنه لا يضع شيئا فوق إرادته، وقد أصبحت البديل لمشيئة الله التي لا قدرة ولا حق لأحد على تجاوزها.
رأينا فراغ مفهوم الشعب وكذبة إرادته عبر رأي جزء من القوائم الانتخابية، ومن ثم عبث تصور شرعية مبنية على وهم، في أحسن الأحوال، وخديعة في أسوأ السيناريوهات.
ربما لقائل أن يقول المَخْرج هو إسناد الشرعية إلى “المصلحة العامة” وليس إلى إرادة خيالية لشعب خيالي. لكن بهذا الخيار نرحّل الأزمة فقط لمستوى آخر، ولا نتخلص منها كليةً. من البديهي أن الشعب طيف واسع من المصالح المتناقضة، مثل مصالح أرباب العمل ومصالح العمال، أو مصالح الجهات المتنافسة على الموارد القليلة للدولة.
حدّث ولا تسل عن مصالح الأحزاب واللوبيات والأفراد، وكلهم يدعي أن فهمه للمصلحة العامة هو الفهم الصحيح.
لنترك على جهة كل الصعوبات التقنية وكل الأخطاء المنهجية الممكنة في تحديد هذه المصلحة العامة. حتى في هذه الحالة هل نكون قد وجدنا الحلّ النهائي لمسألة الشرعية؟ طبعا لا. هل يجب أن يقبل الشعب الفلسطيني بشرعية قرارات إسرائيل، لأنها كلها في مصلحة الأغلبية الساحقة لشعبها؟ هل كان علينا أن نقبل بشرعية الاستعمار، لأنه كان في مصلحة الشعوب الغربية؟
ثمّة إذن شيء أرفع من المصلحة العامة لبناء شرعية أي سلطة، وهو حق الشعوب في الحكم الذاتي وفي ثرواتها الطبيعية، أي في الواقع احترام العدل والمساواة والحرية والسلام، أي الالتزام بعلوية القيم على المصالح مهما كان مصدرها وتبريرها.
هل نجد ضالتنا في “القيم” لتكون هي الملاذ للحل؟
نعم، ولا بد من ذلك، لأنها أحسن تعبير عن إرادة الأغلبية ومصالحها الشرعية، إذ لا توجد إلا أقلية من الكواسر الآدمية التي لا تقبل بالعدل والمساواة والحرية والكرامة لكل البشر.
لكن من سيحدّد قائمة هذه القيم؟ ومن أي مصدر سنستقيها لنحوّلها إلى قوانين؟
هناك مصدران يمكن استغلالهما لبناء شرعية جديدة للسلطة الديمقراطية.
- أولًا: القيم الدينية أو العلمانية التي يضعها المجتمع على رأس قائمة المواقف والتصرفات المطلوبة من كل أفراده
يمكن للمجتمع المسلم أن يعود لقيمه الإسلامية، والمجتمع المسيحي لقيمه المسيحية، وللمجتمع العلماني مثل الفرنسي أن يركّز على قيمه العلمانية.
- ثانيًا: النص المجمع عليه
النص الوحيد الذي أجمعت عليه كل الأمم والأديان والثقافات والأعراق هو “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. هذا النص هو جرد لأهم القيم المطلوبة لوجود مجتمع سليم، وهو نصٌ بالغ الدقة في تحديد القيم الضرورية، وإن وضعت في شكل نقرأه تارة كحقوق وتارة أخرى كواجبات، فنقول إن لي الحق في الحياة والكرامة والحرية والحرمة الجسدية أو إن من واجبي احترام حقك في الحياة والكرامة والحرية والحرمة الجسدية.
أضف لهذا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو العمود الفقري لعديد من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تشكل قانون البشرية جمعاء. مما يجعلنا في مأمن من الفكر السحري ومن المزايدات الفارغة إن كتبنا في دساتير المستقبل أن شرعية أي سلطة مستمدة من احترامها التام لقيم المجتمع الأساسية ومن الالتزام التام بكل مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وباقي العهود والمواثيق الدولية ومن السهر على سنّ وإعمال كل القوانين التي توصل هذه الحقوق لأصحابها.
من هذا المنطلق، كلما ابتعدت سلطة ما عن هذه القيم، تناقصت شرعيتها لتصبح لاشرعية ويحق إنهاؤها بكل الوسائل.
بهذه الطريقة الجديدة (التي ستطرح بالطبع مسألة القدرة على فرضها)، سنرى تبخّر المفاهيم السحرية. فالمرجع ليس شعبا هلاميا يستعمله من هبّ ودبّ من الاستبداديين والشعبويين، بل قائمة محددة من الحقوق والواجبات التي يحاسب على مدى احترامها كل ماسك مؤقت بالسلطة، والتي يمكنها وحدها تحقيق مصلحة الذين ينتخبون والذين لا ينتخبون أي المصلحة العامة الفعلية.
تبقى الإشكاليات العملية الكبرى: كيف سنفرض مثل هذه الديمقراطية المزيدة والمنقحة في وضع لا أصعب منه.
هذا ما سنتناوله في المقالة الرابعة: “كيف نربح أهمّ المعارك؟”
منصف المرزوقي
الجزيرة نات – 01/ 06/ 2023
https://www.aljazeera.net/opinions/2023/6/1/%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%B7%D8%A9-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D9%83%D9%88%D8%A8%D8%A9-3-%D9%83%D9%8A%D9%81%D9%8A%D8%A9?fbclid=IwAR3Gk44e8kjITdOTXgInTRiQHEneFl-K4Mxf0qAPULuyrgTi9hYKFcLW52w