هل بدأ غرق الباخرة وهي ما زالت راسية؟
الخميس 14 تموز (يوليو) 2011
يقول مثل شعبي “’من المرسى بدينا نجدّفو”’ أي من الميناء بدأنا نجدف لرحلة الخطر. ربما يجدر بخصوص التجربة الديمقراطية في تونس، أن نتساءل هل من المرسى بدأنا نغرق؟
فالديمقراطية تخطو أولى خطواتها لكن كم من أضواء حمراء تشتعل. بعض الشهادات التي يجب على التونسيين والعرب تفحصها بمنتهى الجدية وهي تختزل أخطر الأمراض التي تهدّد المولودة الجديدة وآلام المخاض الثوري التي جادت بها لم تنه بعد.
انحراف الإعلام
طلبني مسؤول في قناة تلفزيونية خاصة ليخبرني أن صاحبها السيد زيد بن عَمرو يرغب في مقابلتي. فقلت سأرحب به في مكتبي يوم كذا. فتنحنح وقال: السيد المدير يرغب أن تتحول أنت لمكتبنا للسلام عليه. حاولت إفهامه أن قواعد التأدب تفرض أن من يطلب اللقاء هو الذي يتحول لمقابلة من يريد الحديث معه ولا يستدعيه، لكن الموظف أصرّ بل وأفهمني أن كل السياسيين في تونس قبلوا الاستدعاء.
فاعتذرت ولما أغلقت السماعة، كنت أعلم أنني لن أضع رجلا في هذا التلفزيون. المصيبة ليست وقاحة الرجل وإنما ضعف الذين تتابعوا على مكتبه حتى يضمنوا استضافتهم على شاشته، وفي المقابل كان عليهم الخروج من المقابلة للإدلاء بتصريح تذيعه القناة بتلذّذ يقولون فيه كم سعدوا بلقائهم مع الرجل الهام وأنهم تناولوا معه الوضع الراهن بالتحليل كما لو كان صاحب الأمر اليوم أو غدا.
كل هذا وهم يعلمون أن الرجل يستخدمهم لتلميع صورته ويستخدم قناته لأغراض سياسية شخصية على رأسها الإعداد للرئاسيات. نفس الظاهرة عند صاحب قناة أخرى تبثّ من لندن ويستعملها طول الوقت للدعوة لنفسه بصفته مرشحا لهذه الانتخابات.
أضف القناة الخاصة الثالثة المملوكة لرجل أعمال، وهي تعمل بكل وضوح لخدمة تيار سياسي معين مقصية كل ما عداه بتحامل فجّ، فتكتمل صورة المشهد التلفزيوني في تونس وكيف انحرف بشقيه الخاص والعمومي من المهنية الإعلامية للتأثير السياسي لصالح أشخاص ومجموعات تملك أخطر وسائل التأثير على الرأي العام ومغالطته.
كل هذا يطرح إشكاليتين بالغتي الخطورة. أولاهما تبعية السياسيين المتزايدة لأصحاب القنوات التلفزيونية، وقدرة هؤلاء على ابتزازهم انطلاقا من أن السياسي المقاطع إعلاميا محكوم عليه بالموت سياسيا أو هكذا يعتقدون. الثانية اتضاح حدود حرية الرأي: أنت حرّ في الصراخ في بوق في مظاهرة، وأنا حرّ في تبليغ صوتي للملايين والفارق بيننا ليس القيم والأفكار وإنما الدنانير والسندات.
إذا كان المبدأ الأول للديمقراطية هو الفصل بين السلطات، وإذا اعتبرنا أن الإعلام هو اليوم السلطة الرابعة وربما الأولى وأن من طبيعة كل سلطة أن يُساء استخدامها، فلا بدّ من اعتبار الإعلام سلطة يمكن أن تفسد وأن تستبدّ، ويجب تقييدها بالقيم والقوانين.
الإشهار الحزبي والمال المشبوه
فوجئ التونسيون في بداية شهر يونيو/حزيران الماضي بظهور ملصقات ضخمة على الأماكن المخصصة للإشهار للغسالات والهواتف والمرطبات، لكن الإشهار هذه المرة كان لحزب سياسي عبر صورة منمقة لقيادييْنِ يبتسمان أجمل بسمة ربما خضعت لبروفات متعددة. ولتبرير تقليع جديد لم يتوانَ أصحابه عن الكذب مدّعين أن الإشهار الحزبي أمر عادي في البلدان الديمقراطية، والحال أنه ممنوع قانونيا في البلدان الإسكندنافية وغير موجود في كل البلدان الغربية خارج زمن الحملات الانتخابية حيث تحدد له أماكن معينة توزع بعدل على كل الأحزاب.
بل وصلت الوقاحة إلى حدّ مطالبة الآخرين بفعل نفس الشيء إن قَدِروا عليه. المشكلة أنه يستحيل على أغلب الأحزاب تمويل مثل هذه العملية التي تتطلب مئات الآلاف من الدنانير، ولا مصدر لها سوى رجال أعمال بدؤوا يستثمرون في بعض الأحزاب كما لو كانت شركات سياسية ستضمن لهم يوما عودة رأس المال والفائدة.
الكارثة في خيار الإشهار السياسي -الذي انخرط فيه حزب ثانٍ ولكن مع تفادي الشخصنة- أنه يفضح قلة وعي بعض السياسيين بدورهم الرئيسي في المرحلة الراهنة ألا وهو إعادة الاحترام للسياسة والسياسيين.
فالموقف السائد في الرأي العام والناجم عن تجربة نصف قرن هو أن السياسة كذب ونفاق وتدجيل، وأن السياسيين انتهازيون يتشدقون بالجُمَل الرنانة وهمّهم الوحيد الجاه والسلطة والمال على حساب الشعب الغلبان.
مثل هذه الملصقات لم تَزِد إلا في تأكيد الصورة، وتأكيد أن رجل السياسة الجديد ليس إلا تاجرا يبيع صورته كما يبيع الآخرون الصابون. كما كان متوقعا قوبلَت الحملة بالاستهجان الشعبي، والناس لا يقبلون أن يَصْرِف حزب مَبالغَ طائلة في الإشهار لنفسه والأزمة الاقتصادية آخذة بخناق الأغلبية.
شراء الذمم
تتخذ هذه الظاهرة المتفاقمة يوما بعد يوم أشكالا، من بينها التي تثير الضحك كالتي تثير الاشمئزاز. فهذا حزب يحشد صبيانا بالمئات ويوفر لهم وسائل النقل ومبالغ نقدية، لكي يوهِمَ بأنه يجنّد الآلاف في اجتماعاته الشعبية. وآخر يدّعي تقديم خدمات للمواطنين حبا لأصواتهم لا لمصالحهم، وثالث له نفوذ عند الإدارة يجعل الانتماء إليه شرطا ضروريا للفوز بفرصة عمل في ظرف تشكّل فيه البطالة مأساة المآسي. كل هذا ينذر بأن ما هو قادم أعظم وأن الأصوات قد تباع وتشترى في الخفاء، بل وربما على قارعة الطريق.
الضحية مرة أخرى هي صورة السياسة، والمذنبون سياسيون لا يفهمون أن دورهم تمثيلُ القيم وبلورة القواعد والقوانين التي تحل المشاكل الجماعية بصفة عادلة وبطرق نزيهة، وليس التكالب على الأصوات ولو بتزييف حجم الشعبية وابتزاز مواطنين مساكين يصبحون هم أيضا جزءا من الفساد العام، بتنامي عقلية الاستهلاك السياسي لديهم، والفيصل في اختيارهم بين الأحزاب ليس ما ستقدمه للوطن غدا بقدر ما هو ما ستقدّمه لي الآن.
الحريات لتغذية الفتن
المشادّة العنيفة التي شهدتها قاعة سينما “’أفريكا أرت” مؤخرا في تونس جِدّ معَبّرة، حيث وضعت وجها لوجه أطرافا ثلاثة أظهرت فهمها الخاص للحريات الديمقراطية. الطرف الأول صاحبة فيلم أسمته “’لا رب ولا سيّد”’ وأصرّت على عرضه في هذا الوضع الدقيق لتستعرض عضلات العلمانية المتشددة وكأنّ مشكل تونس الأساسي اليوم ليس البطالة وإنما الحق في استفزاز مشاعر الناس والتهجم على مقدساتهم.
الطرف الثاني همُ المتشددون الإسلاميون الذين لم يتورعوا عن استعمال العنف وكأنّ مشكل تونس الأساسي اليوم ليس البطالة وإنما الحق في بتر كل لسان ينطق بما لا يقبلون. الطرف الثالث وهو الأخطر متشكل من فلول البوليس السياسي والحزب القديم، فمنهم من تنكّر في ثوب الإسلاميين ووضع لحية مصطنعة وساهم في الاعتداء على المتفرجين، همّهم إثارة الفوضى لتبرير عودة القمع البوليسي.
بجانب هذه الفتنة الطائفية المصطنعة بين العلمانيين والإسلاميين، هناك تحريض صريح من بعض الأبواق المشبوهة على الفتنة الجهوية وهي تركز على ضرورة وضع حد لحكم “السواحلية”’ وتحميلهم وزر دكتاتورية بورقيبة وبن علي، وهم من بين ضحاياها الكثيرين.
الأخطر من هذا أن بعض التيارات السياسية أو الشخصيات سواء من الإسلاميين أو الشيوعيين أو قدماء “التجمّع” لم تعد قادرة على تنظيم اجتماعات في هذه المدينة أو تلك حيث يرفع في وجهها الشعار الشهير ارحل وتتعرض للعنف.
هل سنضطر لفرض حرية التعبير بالقوة هنا وهناك لتكميم أفواه سكتت دهرا فنطقت كفرا؟ وفي هاته الحالة ما الذي يبقى من الديمقراطية التي حلمنا بها كل هذه السنين؟
الأرستقراطية المخفية وأجندتها الفاعلة
كل الأنظار مصوبة هذه الأيام في اتجاه الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي، وفي اتجاه اللجنة المستقلة للانتخابات، بمآخذ كبيرة على عملهما وتحميلهما مسؤولية تأخير انتخابات المجلس التأسيسي المقررة يوم 24 يوليو/تموز إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول.
لكن لا أحد انتبه لكون طريقة الاقتراع -وهي المحدّد الرئيسي لمستقبل النظام السياسي- اعتُمِدت بين أربعة جدران من قِبَل أناس لا يعرفهم أحد، بهدف واحد هو تعويم الأصوات ومنع ظهور أي أغلبية، وذلك عبر ما يسمى بالتصويت بالنسبية وبقوائم مغلقة.
فبينما لا تستطيع حركة “النهضة” مثلا أو “المؤتمر من أجل الجمهورية” إلا تقديم قائمة واحدة، فإن الأحزاب العديدة التي تكونت من رحم حزب بن علي المنحل “التجمع”، تستطيع تقديم قوائم مختلفة وفيما بعدَ إعادة توحيد صفوفها.
عدا عدم عكس المجلس المنتخب القادم للقوى السياسية الحقيقية وربما إعادة السلطة “للتجمع”، فإن طريقة الاقتراع هذه تحمل في طياتها خطرين:
أن يكون المجلس التأسيسي فسيفساء من الأحزاب العاجزة عن بلورة أي أغلبية قادرة على الحكم، مما يعني دخول تونس في مرحلة عدم استقرار كالتي يعرفها نظام الحكم في العراق وإعطاء العذر لتواصل الحكومة الحالية وهي حكومة بالغة الضعف وعديمة الشرعية.
أن تفرض الأقليات التي دخلت بمثل هذا النوع من التصويت تواصله في القانون الانتخابي الجديد خوفا من أن تجد نفسها خارج اللعبة في أي انتخابات تشريعية لاحقة تعطي الأغلبية للتيار العروبي الإسلامي.
يخطئ من يتصور أن هذا المقال نواح على الموءودة التي لا تدري بأي ذنب ستقتل. إنه تشخيص الطبيب لكل الأمراض التي بدأت تهاجم المولودة الجديدة، مما سيمكننا من معرفة العلاج والتلقيح لتكون لنا في تونس وفي كل قطر عربي ديمقراطية تصبح جزءا من الحل لا جزءا من المشاكل الماسكة بخناق الناس.
تدابير العلاج والوقاية
منع الجمع بين السلطة الإعلامية والسلطة السياسية كما يمنع الجمع بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، ومن ثم ضرورة قوانين تجبر أصحاب القنوات الخاصة على الخيار بين العمل الإعلامي الصرف أو العمل السياسي.
بعث مجلس لمراقبة الإعلام السمعي البصري، يضمن حياده ونزاهته وشفافيته.
تحريم الإشهار السياسي.
حماية الحق في الرأي أيا كان ولكل الناس، مع تنبيه كل الأطراف بالقاعدة الوحيدة التي تضمن أن لا تنزلق هذه الحرية “بارك الله في من عرف قدره وجلس دونه”، والتذكير بمبدأ أساسي في الديمقراطية “لا وجود لحرية في المطلق وحريتك تتوقف أين تبدأ حرية الآخر”.
تمويل الأحزاب بطريقة شفافة وعادلة وبكيفية تضمن استقلاليتها عن المال المشبوه.
وضع نظام انتخابي يفرز أغلبية تحكم وأقلية تعارض حتى يكون النظام ليس فقط ديمقراطيا وإنما مستقرّا وفعّالا.
معاقبة شراء الذمم بالطرد المؤقت أو النهائي من اللعبة السياسية، مثلما يفعل الحَكَم في مباراة كرة القدم عندما يغشّ نادٍ أو لاعبٌ قواعد هذه الرياضة، مما يعني ضرورة حكم وحتى اثنين في شكل رئيس جمهورية أهم سلطاته التصفير على الأخطاء وإحالة المخطئين إلى محكمة دستورية تحلّ أي حزب تثبت عليه التهمة أو تمنع قياديه من الترشح والتصويت لمدة معينة.
ننسى أن الديمقراطية لعبة مثل الشطرنج وكرة القدم، وأنه بقدر ما تكون القواعد محترمة ويكون اللاعبون نزيهين والحَكَم محايدا، بقدر ما تكون اللعبة شيقة وجميلة. أما إذا كانت القواعد مغشوشة واللاعبون بلا شرف والحَكَم ضعيفا أو فاسدا، فإن اللعبة تنتهي بالخراب والفوضى.
لكي لا نغرق في المرفأ ولكي نُبحِر عقودا -ولِمَ لا قرونا- في محيط الديمقراطية، يجب وضع أمْتن القواعد وآليات فرض احترامها، لكن أكبر ضامن هو الشعب، أو بالأحرى الجزء الفاعل منه أي جمهور المواطنين الذين يحملون مسؤولية الحفاظ على أثمن ما ضحوا من أجله وهم أحسن من يعلم أنه إذا كان فساد الاستبداد يمهّد لتمكّن الديمقراطية فإن فساد الديمقراطية هو الذي يعبّد الطريق لعودة الاستبداد