في الجزيرة نت
محمد مزالي في ذمة الله والتاريخ
السبت 26 حزيران (يونيو) 2010
يوم الجمعة 25 حزيران تمّ في مقبرة المنستير دفن محمد مزالي الذي توفي بعد حياة نضال دامت 85 سنة وتقاطعت عنده طرق عديدة لتاريخ تونس . لم يكن من الحتمي أن يأخذ هذا التاريخ المجرى الذي اتخذ جاعلا من كاتب هذه السطور المشرد المنفي الذي يرثي رجلا شرّد هو الآخر ونفي لأكثر من خمسة عشر سنة. كان بوسعه أن يتخذ الطريق الذي يكون فيه الراحل رئيس البلاد خلفا للحبيب بورقيبة. لكن الرياح الشهيرة كما تعلمنا مع أبو الطيب لا تحب شيئا قدر أن تهب في غير الاتجاه الذي تريده السفن . ومع هذا…كم حزين أن هذا التاريخ اللعين لم يأخذ مجرى آخر لنصبح مع محمد مزالي أول دولة عربية ديمقراطية ولنوفر على بلدنا على هذا الوقت الضائع …كل هذا القدر الرهيب من الآلام العبثية .
سنة 81 والرجل هو الوزير الأول منذ سنة ، جاءني الدكتور حمودة بن سلامة – وكان من نفس جيلي من الأطباء والديمقراطيين– قائلا سي محمد يدعوك هذه الليلة للعشاء في مطعم “المغربية” مع ثلة من المعارضين للحديث عن مستقبل الديمقراطية في بلادنا. ذهلت للدعوة وأذهلني أكثر تحمل الرجل طوال العشاء الذي ضم نخبة من المعارضين الديمقراطيين الشبان نقدي اللاذع للوضع الذي كنا نعتقده بسذاجة أسوا وضع ممكن ، وكم صدق من قال رب يوم بكيت منه فلما ولّى بكيت عليه.
تلك الدعوة لم تكن تمويها حيث لم يكن هناك تلفزيون وإعلام رسمي وإنما نية صادقة في فتح الحوار مع الشبان والقوى الصاعدة التي تعبر عن التغييرات العميقة داخل المجتمع . ذلك لأنه وقع اجتماع ثاني بمقر رئاسة الوزارة والرجل يستمع ويكتب في كناشه ويهز رأسه بالموافقة الضمنية على كل ما كنا نقول. نعم كان محمد مزالي صادقا في نيته تأهيل النظام البورقيبي لنمر من الأبوية الاستبدادية إلى دولة القانون والمؤسسات. كان هو ابن الحزب الواحد واعيا أن عهد الحزب الواحد ولي وانتهى وأن مناعة تونس وتقدمها في مواكبة سير التاريخ والانفتاح على الأجيال الشابة والتجاوب مع طموحاتها بدل قمعها الغبي وتجاهلها الأخرق. يا إلهي كيف مررنا من حالة يستمع فيها رئيس وزراء لأشد المعارضين صراحة وصرامة فلا يغضب وحالة اليوم الذي تعطي فيها تعليمات لكي يضرب في الشوارع معارضون تجاوزوا الستين وتوضع الأصابع في مؤخراتهم حسب تقنيات الأوباش لمزيد مما يتصورونه الإذلال.
أن تجد سياسيا ومثقفا في نفس الوقت أمر جد نادر والقاعدة أن السياسيون يحتقرون المثقفين والمثقفين يحتقرون السياسيين . استهواني في الرجل جمعه بين ما لا يجمع وربما كان من أين لا أدري القدوة والنموذج . هكذا أسس الرجل إتحاد الكتاب التونسيين (الذي سيدخل بعده في احتضار طويل وهو اليوم جثة محنطة )و فتح باب مجلته” الفكر” لكل المبدعين لا يحابي على موقف عقائدي أو ولاء سياسي .
ذات يوم اطلع على مقال لي عن الوطن الفكرة الأساسية فيه أنه لا يجب أن نخادع أنفسنا فأوطاننا تعجّ بالتخلف والجهل وصعوبة الحياة فيها هي اللعنة المسترسلة . في هذه الحالة الدعامة الوحيدة لنكون وطنيين أنه لا أحد يستطيع أن يصرخ فيك إن لم يعجبك الوضع فارجع على بلدك . يومها أمر بوضع المقال في البرنامج الدراسي. ما أبعد اليوم عن البارحة والسلطة الاستبدادية تمنع أسماء المعارضين من الصحافة وتحرم مواقعهم وتخرج كتبهم من المكتبات العمومية وتطلق عليهم ألسنة البذاءة اعتقادا أنها تنال من شرفهم .
هذا السياسي المثقف كان من أكبر أنصار العربية في بلد فرض فيه بعض الأغبياء قاعدة أنه لا لحاق بركب التقدم إلا باعتماد لغة أجنبية . كان هو خريج السربون مؤمنا بأنه لا لحاق لركب التقدم إلا باعتماد كل شعب على لغته. لما زرته في مكتبه وهو وزير التعليم العالي في نهاية السبعينات حاولت بسذاجة أن ” أبيعه” فكرة تعريب الطب. ابتسم الرجل بأسى وفهمت أنني أحاول إقناع مقتنع لكن كل أوراق اللعبة لم تكن بيده . المهمّ أنه اكتفي بتوصية عميدة كلية الطب في سوسة آنذاك الدكتورة سعاد اليعقوبي أن ” تضع يدها عليّ” وهكذا كان هو السبب في استلامي رئاسة قسم الطب الجماعي بكلية سوسة وإشرافي على تجربة الطب الجامعي في الأرياف والقرى الفقيرة، وهو يتابعها من بعيد ناصحا ومشجعا ومعطيا كل الإمكانيات لنجاح تجربة كانت تونس تفاخر بها ووضع لها نظام بن علي حدا سنة 1994 على إثر سجني.
تلبدت السحب شيئا فشيئا والرجل يواجه بعداوات من مصادر متعددة وأهداف مختلفة إلى أن جاءت كارثة 1984 ووضعت على كاهله مسؤولية رفع ثمن الخبز وما انجرّ عنه من تمرد الشعب. بالطبع كان لا بدّ من كبش فداء وهل ثمة غيره هو الذي كان يريد الديمقراطية والتعريب وتمكين الجيل الجديد .
سنة 1989 وكان قد فرّ من تونس تلاقينا في باريس. في غابة بعيدة ، حكى لي ونحن نتمشى كيف تسلل من الحدود الجزائرية لأنه علم أنهم قرروا له الإعدام شنقا وكيف استقبله الجزائريون بحفاوة لكنهم وضعوا في يده ستة آلاف دولار وبدلتين وطلبوا منه الإسراع بالخروج من البلاد.
وفي شقة متواضعة وضعتها تحت ذمته بلدية باريس ،عاش وحيدا .أذكر أنني زرته في منتصف نهار بارد فأصرّ على إكرامي ودعوتي للغداء . وكان الغداء الذي أعده بيديه بعض البيض المقلي أكلناه وقوفا في المطبخ والرجل لا يتوقف عن رواية نفس القصة التي سمعتها أكثر من مرة عن ظروف المؤامرة التي دبرها له خصومه لوضع فضية الخبز على مسؤوليته والحال أن الأمر جاء من بورقيبة نفسه رغم اعتراضه هو عليه. يومها لم أكن استمع لقصة كنت لا أشك فيها وإنما كنت أجيل البصر في هذا المطبخ بكبر خزانة متوسطة الحجم وسيادة الوزير الأول السابق يأكل بيضه واقفا . بداهة لم يكن من الذين كدسوا الملايير تحسبا لليوم الذي تدور فيه الدوائر. يومها وثقت بأن الرجل جدير بالاحترام .
ثم انتقل الحديث لمواصلة بن علي التنكيل به بعد أن صادر بيته وجراية التقاعد، داخلا معه على امتداد خمسة عشر سنة في ابتزاز ليقبل محاكمة صورية يصدر بعدها القضاء المستغل حكم البراءة . لم يكن الهدف من كل هذا إلا الإذلال والتطويع والتركيع . طيلة هذه الفترة رفض الرجل بإباء كل مساومة إلى أن تنازل الدكتاتور فعاد الرجل دون أن يمتع النظام بكلمة تأييد واحدة. شتان بين موقفه وبين موقف الانتهازيين وما أكثرهم الذين عند ما يطول عليهم الطريق ويغيب الأفق، يبادرون للكفر بما عبدوا وعبادة ما كفروا به طويلا . شتان بين طينة كبار النفوس وصغارها. * يقول مثل فرنسي : لا أكذب من عاشق قبل الوصال ومن صياد بعد رحلة الصيد ومن سياسي في حملة انتخابية. فات صاحب المثال الكذاب الكبير الرابع: مؤبن الجنازات . القاعدة أن البشر يكذبون عليك حيا بالتنقيص من قدرك ويكذبون عليك ميتا بالزيادة فيه، ومن ثمة مقولتنا نحن ” الميت تطوال رجليه” . لا أريد في هذا التأبين أن أكون من الكاذبين في نعي هذا الرجل الكبير حتى ولو كان الأمر الذي لا يعصى: اذكروا موتاكم بخير.
كيف يمكن القفز على أنه هو الديمقراطي قبل بتزوير أول انتخابات تعددية سنة 1982 حتى ولو كان الدافع الأمل في إصلاح عثرة فرضها خصومه الأقوياء . كيف يمكن التغطية على اللحظة التي غضبت منه أشدّ الغضب بل وتشمتّت فيه أكبر شماتة ممكنة رافضا لزمن طويل أن أجد له أي عذر والخطأ خطيئة لا تغتفر.
كان الرجل يسافر كثيرا في إطار مهمته كعضو قار في اللجنة الأولمبية الدولية وفي كل مرة ينزل فيها بباريس، كان يجمعنا غداء في نفس المطعم مع صديق فرنسي وأحد ضحايا بن علي الكثيرين ، جعلته الغربة وآلامها صديقا عزيزا رغم اختلاف مواقعنا في الثمانيات واقصد الأخ أحمد بنور كاتب الدولة السابق للداخلية في حكومة محمد مزالي .
وإبان تبادل ذكريات الماضي بين الرجلين ذهلت وأنا أفهم أن مزالي هو الذي جاء ببن علي إلى أعلى مركز في الأمن واضعا مصيره ومصير البلاد بين يديه. قلت له بنوع من الغلظة : يعني أنك أنت السبب في كل مصائبنا. ضحك ضحكة صفراء وفضّل تغيير الموضوع. ومن أحمد بنور عرفت بقية تفاصيل أفظع وأغرب قصة النظام التونسي وهي أن محمد مزالي هو الذي وضع الرجل الذي سينكل به وبنا وبشعب كامل في السلطة بل أنه كان سعيدا فخورا بخياره وهو يقول لمن حوله ” جبت لكم الغول” ( والغول في اللهجة التونسية هو ما يسميه المصريون ” الجدع” ) . للأسف اتضح سريعا أن الرجل كان غولا، لا بمعنى العامية لكن بمعنى الفصحى.
هكذا تغوّل الغول على وليّ نعمته وما إصراره الطويل على إذلاله إلا لكرهه فكرة أنه ولي نعمته .ثم تغوّل على الحزب الذي أسسه بورقيبة وخدمه مزالي بكل إخلاص ليجعل منه تجمع انتهازيين ومخبرين ، ثم تغوّل على الدولة ليجعل منها جهازا للتسلط والإثراء ، ثم تغوّل على الشعب ليعيشه في خوف دائم، وها هو اليوم مثل غول قصور العصور الوسطى من نوع دراكولا الذي تقطر أنيابه بالدم ويعيش في الظلام يبث الرعب حوله ومن دم ضحاياه يجدد شبابه.
وبمرور الأيام هدأت العاصفة وأنا أفهم أن محمد مزالي لم يكن نبيا يقرا في غياهب الغيب وأنه ككل بشر معرّض للخطأ وانه تعذب كثيرا وتألم كثيرا وحاسب نفسه كثيرا على خطأه الأكبر، وكما أعرفه لا اشك أن اكبر ما عذبه ليس مصيره وإنما مصير الشعب التونسي الذي رماه بين براثن الغول.
البارحة في بهو مستشفى تنون بالدائرة العشرين بباريس كان آخر لقاء وقد جئت مع بضعة أشخاص لتوديع جثمان الراحل. كان مسجى في تابوت مفتوح ملفوفا في كفنه الأبيض إلا الوجه وكانت الملامح التي عرفتها على طوال ربع قرن ساكنة هذه المرة أتاها الهدوء أخيرا. سلام عليك ورحمك الله رحمة واسعة يا محمد مزالي وغفر لك ذنبك الوحيد و…شكرا لما قدمت وما مثلت . كنت حلقة في سلسلة الأحلام والسلسلة لن تتوقف أبدا طالما في هذا العالم أحياء من طينتك مصرين على أن تصبح الأحلام المضهجة يوما جزءا من الواقع . *