في الجزيرة نت
مانديلا : الأب الروحي
الجمعة 13 كانون الأول (ديسمبر) 2013
رأيت مانديلا مرتين في حياتي : هذا اليوم 11 ديسمبر 2013…. مسجى في تابوت بلوري وعلى ملامحه وقار من مات ليدخل التاريخ….في موكب خاشع ضم قرابة مائة رئيس دولة وحكومة ينحنون مثلي أمام جثمانه دقائق معدودات. المرة الأولى كانت في بداية التسعينات …في اجتماع نظمته بأوسلو لجنة نوبل للسلام دعت له ثلة من الشخصيات الحقوقية منهم من سيصبح أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا الديمقراطية فاكلاف هافيل وكاتب هذه السطور. موضوع الندوة ….. ’’ لماذا نكره بعضنا البعض ’’؟
المضحك المبكي في الأمر أن أحد المتدخلين ألقى في أول ندوة عمومية خطابا بالغ الفجاجة والوقاحة والعنصرية ضد الفلسطينيين والعرب. لم أتحمل سماع مثل هذا الكلام في مكان يقترض فيه أنه يجمع دعاة سلام ، فغادرت القاعة مصفقا الباب ورائي وهرع ورائي الصحفيون لأدلي لهم بتصريح فرفضت أن أزيد الطين بلة وفضيحة على فضيحة .
بقية القصة أنني وجدت نفسي بعد نصف ساعة وجها لوجه مع نفس الشخص في المصعد ، أنه أدار لي ظهره وأدرت لي ظهري . لا أنا كنت أتصوّر أن هذا الرجل ايهود اولمرت سيصبح رئيس وزراء اسرائيل ولا أعتقد أنه خمّن أنه جنبا لجنب مع شخص سيصبح رئيس تونس.
كما هو الحال دوما مع البشرـ بينهم وداخل كل فرد منهم ـ يتجاور الخير والشرّ، البغض والحب وكأنهما وجها نفس قطعة النقد لا تجد هذا إلا وتجد ذاك.
وبموجب هده القاعدة السرمدية ، كان من الطبيعي ـحتى في مكان مثل لجنة نوبل للسلام ـ أن أرتطم بالوجه المظلم لطبيعتنا البشرية وأن أدخل وجهها النير عبر شخص سيضيء لسنين طويلة طريقي .
في أول لقاء جمع كل المتدخلين حول طاولة مستديرة لتنظيم الندوة ، انتبهت لضوضاء على يميني وجمع من الناس يتزاحمون على رجل بشوش طويل القامة ينهض كل مرة للسلام. ذهلت لما اكتشفت أنه نلسون منديلا الذي رأيت له مئات الصور وها هو جنبي بلحمه ودمه. ثمة صدف حلوة في الحياة منها التي يتسبب فيها الترتيب الأبجدي.
بعد دقائق من الصدمة جمعت شجاعتي وتوجهت له وأنا أبلع ريقي لأقول له أنني اعتبره مع غاندي أبي الروحي ، أنني أتابع منذ سنوات نضاله، وأنه أكبر شرف لي أن أتعرّف عليه . ثم جاءتني على الفور فكرة اغتنام فرصة لن تتكرّر. قلت له : جمعت الأمم المتحدة السنة الفارطة في أديسا أبيبا لجنة من الحقوقيين الأفارقة لابداء الرأي من الوجهة الافريقية في الاعلان العالمي لحقوق الطفل الذي ستتبناه الأمم المتحدة قريبا .عملنا عليه ليالي وليالي وأخيرا تم الاعلان عنه وثمة فيه بصمتنا . للاحتفال بالحدث الكبير دعوت باسم الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي أرأسها الاخوة الأفارقة للقاء في تونس ، فهل تشرفنا أنت أب أفريقيا بالحضور معنا ؟
استغرق مانديلا في التفكير ثم قال أخشى أنني سأكون في الهند في تلك الفترة ، على كل حال اتركني أتثبت وغدا سأعطيك الإجابة.
ومن الغد سمعت من يناديني ببوق النزل للالتحاق بالغرفة رقم كذا. هناك وجدت مانديلا ينتظرني باسما ومرحبا . سألني كثيرا عن تونس وعن حقوق الإنسان فيها وعن الشبكة الافريقية لحقوق الطفل التي كنت أحد مؤسسيها وعن نشاطاتها خاصة في مكافحة ظاهرة أطفال الشوارع . أخيرا قال لي أنه يأسف لأنه سيكون فعلا في الهند لكنه كتب لي رسالة لأقرأها باسمه في المؤتمر . كانت رسالة تشجيع وتقدير نابعة من القلب قرأتها بكثير من التأثر في افتتاح المؤتمر ولا زالت هذه الرسالة بخطّ يده من أثمن وثائقي.
لم أكن أعرف يومها أي دور خطير آخر سيلعبه مانديلا في حياتي . ففي مارس 1994 رميت في السجن أربعة أشهر في زنزانة انفرادية بانتظار محاكمة لم تأتي حيث أطلق سراحي في شهر جويلية دون أي تفسير . ثم علمت أن مانديلا جاء في زيارة رسمية لتونس وأن بعض الأصدقاء وجدوا الطريق إليه وبلغوه عن وضعيتي . لا أحد يعلم ما حصل لكن الثابت أنه تدخّل وأنه لولا تدخّله لربما قضية سنين وليس أشهر وراء القضبان.
هنا يأتي السؤال الضخم : كم من بشر يرزقون اليوم وهم لا يعلمون أنهم لم يقتلوا ولم يتعرضوا لإعاقات خطيرة ولم يفقدوا بيوتهم واوطانهم ولم يضيعوا عمرهم في السجون نتيجة حكمة رجل واحد اسمه مانديلا؟
سؤال لا إجابة عنه مثلما لا إجابة عن اسم ومهنة وعنوان ملايين الأشخاص الدين وقاهم اللقاح من مرض الجدري. بديهي أنه لولا الاتفاق الدي حصل في جنوب افريقيا حول نهاية الابرتايد في التسعينات وتقاسم السلطة بين مكونات الشعب العرقية لانزلقت جنوب افريقيا إلى حرب أهلية قدرة كالتي عرفنا منها العشرات وربما كانت تكلفتها بالملايين لا بمئات الآلاف . بديهي أيضا أنه لولا رجل اسمه نلسون منديلا لما تم الاتفاق التاريخي لأنه كان الرجل الوحيد القادر على طمأنة أقلية خائفة وعلى تهدئة أغلبية غاضبة ، الرجل الوحيد الدي يحظى بثقة كل الأطراف ومن ثمة له قدرة لعب الوسيط والحكيم .
والآن تدكر كم من قتلى ، كم من دمار ، كم من مآسي سببها زعماء متهورون أو أغبياء أو مجانين أو مستعدين لكل الموبقات من أجل البقاء في السلطة.
بالنسبة لي ثمة هتلر على أقصى الطيف ومانديلا على الأقصى المقابل. رجل تسبب في موت الملايين ورجل حمى حياة الملايين….رجل تسبب في خراب شعبه ورجل تسبب في بناء شعبه.
تحضرني هنا فكرة غير مطمئنة بخصوص التاريخ وهي أن التقدم ليس عملية آلية تتعلق بالتعقيد المتزايد للتكنولوجيا ، للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ، للخبرة المتصاعدة في الحكم وتتويجها الديمقراطية التشاركية …كلا ، ما يظهره الدور الدي لعبه هتلر أو مندلا أهمية دور شخص لا أحد يتوقع ظهوره أو يتحكم فيه إد يبقى دوما العنصر المفاجئ. فالنمسا التي أعطتنا شوبرت وموزارت هي التي أنجبت البعبع وألمانيا التي أعطتنا باخ وهيجل هي التي قبلت به . أما جنوب افريقيا السوداء الفقيرة المتخلفة المستعبدة فهي التي اعطتنا مانديلا. كل هدا يحعلنا نتوجس خيفة من مستقبل قد يكون ملآنا بألف هتلر وهتلر يترصدون بنا في منعطفات التاريخ وفي نفس الوقت يجعلنا نأمل دوما لأن البشرية قادرة على أن تنجب في الأحقاب المقبلة ألف منديلا يصححون كل اختلال ويعيدون فتح الطريق الدي بدا مقطوعا نهائيا.
آخر وأهم سؤال ما الدي يمثله منديلا اليوم وغدا في الوعي واللاوعي الجماعي ؟ بعبارة أخرى لمادا أحبه الناس ولمادا تسارع رؤساء العالم ليبدوا وكأنهم فهموا منه الدرس وربما سيسيروا على نهجه.
الرد بالنسبة لي واضح كل الوضوح : منديلا هو الرجل الدي مارس في حياته السياسة على أنها أخلاق أو لا تكون .هو لم ينظر لقيم الصلابة في الدفاع عن الحق واللين في التعامل مع الأعداء والخصوم وإنما جسدها . هدا رجل مثل وجسد قيم الصبرفي مواجهة المكروه والشجاعة في مواجهة الأخطار والتمسك بالمبادئ في مواجهة الدفاع عن المصالح والعفو في مواجهة الرغبة في الانتقام .
مانديلا هو الدي تعلمت منه قاعدة القواعد في التعامل مع صعوبات السياسة والتي صغتها بطريقتي :إدا كنت في موقع ضعف لا تستسلم ، إدا كنت في موقع قوة لا تنتقم .
هل تتصورون عالما بأسره ينكس الأعلام حدادا على زعماء يمارسون سياسة “فرق تسد” و”يجب التضحية بالثلثين الفاسدين لانقاد الثلث الصالح” و”الغاية تبرر الوسيلة ” و”على قدر غطائي أمد رجلي” الخ
الخياراليوم أمام كل مسئول سياسي أن يمشي في الطريق الدي رسمه مانديلا أو الطريق الدي رسمه مكيافال والحمد لله أن رأينا بأم أعيينا أيهما يقود للعقول وللقلوب وأيهما الدي تدعو لاتباعه الانسانية جمعاء.