ماذا بعد الشوط الأول من الثورة العربية ؟
الثلثاء 7 حزيران (يونيو) 2011
سيعتبر المؤرخون أنه إذا كان القرن الثامن عشر قرن الثورتين الفرنسية والأميركية، والقرن العشرين قرن الثورتين الروسية والصينية، فإن القرن الواحد والعشرين كان دون منازع قرن الثورة العربية، مع كل التبعات الهائلة المعروفة للثورات العظمى.
ربما سيختلفون في تحديد انطلاق ثورتنا وهل بدأت حقا يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2011 في سيدي بوزيد بالقطر التونسي، أم أنها انطلقت مع الانتفاضات الفلسطينية أواخر القرن العشرين كما يدّعي كاتب هذه السطور.
الثابت أنهم سيتفقون على أن اللهيب الثوري وصل مصر يوم 25 يناير/ كانون الثاني واليمن أواخر نفس الشهر والبحرين بدءا من 14 فبراير/ شباط وليبيا بدءا من 17 من نفس الشهر وسوريا بدءا من 15 مارس/ آذار، كل ذلك نفس السنة 2011.
هم سيضيفون بقية التواريخ التي لا نعرفها اليوم، بتحديد موعد اشتعال اللهيب في الجزائر والسعودية والمغرب إلخ. من ذا الذي يشك في حتمية وصول الحريق لكل مكان ما دام الأغبياء الخطرون الذين حكمونا طيلة نصف قرن قد أحاطوا قصورهم بجبال متعالية من الحطب الجاف، كدسوها بإصرار غريب وبِغَباء أغرب؟
مما يعني أننا لسنا إلا في بداية طريق لا نعرف هل سيستغرق سنينَ أو عقودا، لكنه مسار إجباري ستمشي عليه كل الأمة إلى الآخر، هذا إذا لم تتبعها شعوب وأممُ أخرى بدأت كما هو الحال في إسبانيا تتعلم منها تقنيات العصيان المدني والاعتصام بكبرى ساحات العواصم.
لنستعرض الأوضاع الثلاثة التي تعرفها الأمة في بداية الطريق هذه، أي بعد قرابة ستة أشهر من انطلاق الشرارة الأولى.
الانتصار الهشّ “
لكل ثورة بالضرورة ثورة مضادة, لا غرابة في الأمر، ومن فقدوا السلطة والثروة والاعتبار لا يتبخرون وإنما يتآمرون لاستعادة ما فقدوا, وهذا ما يحدث في تونس ومصر ”
إنه الوضع الذي تعرفه تونس ومصر، حيث لم يؤدِّ رحيل المخلوعين إلا لفرحة عابرة تبعها تعمّق الأزمة الاقتصادية وانتقال الأزمة النفسية إلى تفاقم المخاوف بخصوص الأمن والمستقبل وتزايد مشاعر الإحباط وخيبة الأمل وكأنّ وعدا هاما لم يتحقق وحلما جميلا بصدد التبخّر.
لفهم الظاهرة لا بدّ من العودة للمفهوم نفسه. نحن نتحدث عن الثورة في الفكر كالتي أحدثتها نظرية كوبرنيك واكتشافات قاليلي. هي قطعت نهائيا مع تصورات أرسطو وآباء الكنيسة التي كانت تجعل الأرض مركز الكون والشمس هي التي تدور حولها واستبدلتها بتصورات جديدة مناقضة تماما.
نتحدث عن الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أو الثورة المعلوماتية في القرن العشرين للظهور المفاجئ للقاطرة البخارية أو الحاسوب وما انجرّ عنه من تغييرات هائلة في حياة البشر. مما يعني أن الثورة هي قطع مع الماضي وتغيير مفاجئ وجذري في جملة من الظواهر الفكرية أو التكنولوجية مع تبعات هائلة وغير متوقعة في الميدان الذي يحدث فيه هذا التغيير.
على الصعيد الاجتماعي يمكن القول إن الثورة هي اللحظة التاريخية التي تمهد لها تراكمات طويلة من النضال والقمع ويعيد إبانها المجتمع بكيفية مفاجئة توزيع السلطة والثروة والاعتبار، وذلك عبر تغيير جذري نادرا ما يكون سلميا، لنظامه السياسي.
الشعور السائد اليوم في البلدين أن عملية التوزيع هذه لم تذهب شوطا بعيدا، لا بل ولم تبدأ أصلا.
من القوانين السرمدية التي تتحكم في تاريخ الثورات أنه لكل ثورة ثمن باهظ، أن من قاموا بالثورة ليسوا من يجنون ثمارها، أن الثورة تحقق بعض أهدافها بطول الزمان وأحيانا لا تحقق شيئا منها.
كل هذا ناتج عن أن لكل ثورة بالضرورة ثورة مضادة. لا غرابة في الأمر، ومن فقدوا السلطة والثروة والاعتبار لا يتبخرون وإنما يتآمرون لاستعادة ما فقدوا. إنه الوضع ’’الطبيعي’’ الذي تعرفه تونس ومصر، حيث فلول البوليس السياسي وبقايا النظام القديم وأصحاب المال القذر يعملون ليلا نهارا للعودة من النافذة بعد أن طُردوا من الباب.
لكن التقييم الموضوعي للأوضاع الصعبة التي تعيشها الثورتان يُظهر أن دور الثورة المضادة في هشاشة النصر مبالغ فيه. ففلول البوليس السياسي المتبقية من عهد بن علي، قادرة على كثير من الإيذاء ولكنها محطمة نفسيا ومحاصرة اجتماعيا بل ومنقسمة على نفسها، وجزء هامّ من السلك مستعدّ إن أعطيت –ويجب أن تُعطى- له ضمانات سياسية، لتطهير نفسه بنفسه.
أما فلول الحزب القديم فهي أعجز من مغالطة الناخبين بتشكلها داخل أحزاب جديدة وستُسحَق في كل انتخاب نزيه. أما المال القذر فكل الأضواء مسلطة عليه والشباب الثائر له بالمرصاد.
الخطر الحقيقي على الثورتين آتٍ من مصدرين أساسيين. الأول هو تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة التراكمات القديمة وتبعات الثورة من عدم الاستقرار، مما يعني أنه مؤقتا، ليس هناك الكثير من الثروة للتوزيع. العامل الثاني هو الصورة التي تعطيها الطبقة السياسية الجديدة من تشرذم وتنافس أدّى بالبعض في تونس إلى الدخول في عمليات إشهارية تُكلّف الملايين في حين أن مئات الآلاف من التونسيين يحارون في كيفية الوصول لآخر الشهر بماهيتهم المتواضعة.
مثل هذه الطبقة التي تعطي الانطباع بأنها تريد الانقضاض على السلطة والاعتبار، لأجْل صالحها الخاص وفي ظل تفاقم الظروف المعيشية للأغلبية، قادرة على جعل الثورة كريهة لمن قبلوا بها وحتى لمن قاموا بها.
الخطير أيضا في وضع تونس أنها اختارت أطول وأصعب طريق لبناء نظامها السياسي، أي انتخاب مجلس تأسيسي، أخّرت القوى المضادة للثورة موعده خوفا من المحاسبة ومن فقدان آخر معاقلها.
هذا المجلس سيشهد صراعا رهيبا على صياغة الدستور وكل طرف يسعى حسب مصالحه لأن يكون النظام الجديد برلمانيا صرفا، بالأغلبية أو بالنسبية، أو رئاسيا، أو نصف رئاسي نصف برلماني.
كل هذا الجدل سيتم وسط تفاقم صعوبات اقتصادية خارقة للعادة، تتعامل معها حكومة هي نفسها انتقالية بما أن النظام النهائي هو الذي ستفضي إليه انتخابات رئاسية وتشريعية أو تشريعية صرف، لا أحد يعرف متى ستقع.
مثل هذه العملية قد تأخذ سنوات وهي فترة لا تتحملها بلاد بأمَس الحاجة لعودة الاستقرار والاستثمار، مما يعني أننا قد نرى السنة المقبلة دخول تونس في دوامة من الاضطرابات الاجتماعية.
إن دور كل الحريصين على الثورة في البلدين مواصلة حصار قوى الردّة بتطهير شامل لأجهزة القضاء والأمن، ووضع القواعد الأخلاقية والقانونية للحدّ من تأثير المال القذر في تمويل الأحزاب. ومن واجبهم المُلحّ الإسراع بوضع النظام السياسي الجديد على الطريق، للشروع في الإصلاحات الضرورية التي لم تعد تتحمل أدنى تأخير، فالشعب لن يتحمل مشاهدة الطبقة السياسية تغرق في صراعاتها وهو يتخبط في الفاقة. وقد يكفر بالديمقراطية بأسرع مما يُتصور، مُرَحِّبا بأي منقذ عسكري يُخَلّصه من ’’السياسوية’’ والسياسيين والانتهازيين أجمعين.
التعثّر والانزلاق
إنه وضع الثورة في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين، حيث لم تؤدِّ المقاومة المدنية إلى النتيجة التي وصلت لها الأمة في تونس ومصر، وقد فاق حمام الدم كل المخاوف. هل سيكون المصير التعيس لعلي عبد الله صالح الذي أجبر على مغادرة البلاد وشظايا القنابل في صدره رسالة مفهومة من قبل الطاغية السوري والليبي لأن “من عاش بحدّ السيف مات به”؟
ذلك هو الأمل ، لكن الثابت أن هؤلاء الأغبياء الخطرين فوتوا فرصة ثمينة على أنفسهم وعلى الأمة لمواصلة الطريق الذي افتتحته للعالم أجمع: الثورة السلمية.
لقد كشف قتل أهلنا في المنامة ودرعا وتعزّ ومصراتة، من قِبَل قوات مدججة بالسلاح لا تستحيي من ضرب المتظاهرين بالطائرات، ما رددناه دوما أننا لسنا أمام جيوش وطنية وإنما أمام قوات احتلال داخلي أقسى على الشعوب من قوات الاحتلال الخارجي.
أسّ البلاء التكوين الطائفي للقوات المسلحة في البحرين وسوريا وتكوينها القبلي في اليمن وأهمية الارتزاق في القوات الليبية.
الخطر الكبير اليوم هو انزلاق الثورة السلمية إلى حرب أهلية يتدخل فيها الخارج كما يحصل في ليبيا وكما لا يجب أن يحصل مجدّدا في أي قطر. إن مهمة الثوار السلميين في كل قطر التمسك بخيار العصيان المدني إلى لحظة إسقاط النظام البائس، وحَثّ العناصر الوطنية داخل الجيوش على الالتحاق بالشعب وهو الركن الأول للثورة السلمية.
أما الركن الثاني فهو إبقاء باب القفص الذهبي مفتوحا أمام الكواسر المحاصرة باللهيب، إذ لا أخطر كما رأينا في ليبيا من حيوان جريح مطوّق من الجهات الأربع.
هنا يجب مطالبة المحكمة الجنائية الدولية أن تهتم بشؤونها لأن الحياة أهم من العدل، ومن ثَم ضرورة الإصرار أيا كانت الجرائم المرتكبة، على ضمان سلامة المسؤولين والتعهد بعدم ملاحقتهم إن قبلوا مغادرة السلطة دون مزيد من إراقة الدماء.
ثمة خلل فاضح أظهرته الأحداث الأخيرة هو قلة الدعم العربي، وكأنّ كل شعب أصبح مشغولا بذاته لا غير. صحيح أن التونسيين فتحوا قلوبهم وبيوتهم لأكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ ليبي، بينما وقفت الحكومة الانتقالية تتفرج. لكن هذا لا ينفي أنهم لا هُمْ ولا أهل مصر فعلوا الكثير لمساندة أهلهم في اليمن وسوريا والبحرين.
صحيح أيضا أن المشاكل الحياتية آخذة بخناق الجميع والشعور بالأخطار التي تتهدّد الثورة الجنينية تستنفر كل الطاقات، وكم صدق مثلنا الشعبي ’’تجي تلوم… تعذر’’. لكن ما لا يفهمه المصريون والتونسيون أن هزيمة الثورة في أقطارنا الأربعة الآنفة الذكر تعني تفاقم التهديد على الثورتين.
الحلّ هو أن ’’تتخصص’’ شريحة من الثوريين السلميين بكل قطر في الدعم العربي العامّ، متناسية مشاكلها الداخلية، ومن ثم ندعو إلى تكوين لجان مساندة الثورة العربية في كل قطر. وتقتصر وظيفتها على حشد الدعم المادي والمعنوي، والاعتصام الدائم أمام سفارات الأنظمة الإجرامية، حتى تشعر كل الشعوب أنها محمية الظهر من الأشقاء، وحتى تتم قومية الثورة وتكون أحسن مدخل للمشروع الجبار الذي يجب أن تحققه بعد الاستقلال الثاني لكل شعب: اتحاد الشعوب العربية الحرة.
الترقب الحذر بانتظار المواجهة
من يتأمل الوضع الراهن في الأقطار التي لم تصلها بعد صرخة ’’الشعب يريد إسقاط النظام’’ مثل المغرب والجزائر والأردن والسعودية، يكتشف بسهولة تلبّد السحب وارتفاع درجة الحرارة تدريجيا وهبوب لفحات ريح ساخن بين الفينة والأخرى.
إننا أمام هدوء ما قبل العاصفة. الأمر ناجم عن تقييم للعقل الجماعي بأن لحظة الحسم مع النظام الاستبدادي لم تحِن بعد، مما لا يمنع إطلاق ما يمكن تسميته بالمظاهرات التجريبية. كأن الشعب جيش يتلمس دفاعات الخصم حتى يقدّر متى يجب الانقضاض عليه. أما ما تسعى إليه السباع الكاسرة المحاصرة في أقفاصها الذهبية، فهو إفراغ العاصفة القادمة من طاقتها الرهيبة عبر المسارعة بإصلاحات شكلية وتوزيع بعض الهِبات. مشكلتها أن كل الإجراءات السياسية أو الأمنية، جاءت متأخرة جدّا لأن الموضوع لم يعد قبول فتات الدكتاتورية وإنما إسقاطها.
بديهي أن الطرفين يراقبان بمنتهى الاهتمام والقلق ما يجري في الأماكن التي عرفت وتعرف هبوب العاصفة. بالنسبة للسلطة الاستبدادية كل فشل للثورة في تلك الأماكن هو بمثابة نفح أوكسجين، ومن ثم عملها المستحيل لدعم قوى الثورة المضادة. وبالنسبة للشعوب المقموعة، كل نصر مهما بعُدَ مكانه جغرافيا هو بمثابة خطوة على درب تحررها هي.
لنأمل أن يستخلص الطرفان من هذه التجارب ما يوفّر على الجميع مآسي عبثية.
على قوى الثورة في البلدان التي تنتظر دورها في الطابور أن تتمسك بالخيار السلمي الذي أظهر نجاعته في تونس ومصر وأن تفوّت كل الفرص لجرها لمواجهة مسلحة. دورها أيضا شق صفوف أجهزة القمع بالتصريح الواضح والصادق أنه لا نية للثورة السلمية الدخول في أي صنف من الانتقام وأنها ستطرح لجان المصالحة والحقيقة على طريقة جنوب أفريقيا كقاعدة، ومحاكمة قلة قليلة من كبار المجرمين كشاذة.
بالنسبة للقوى الحامية للنظام عليها أن تتعظ من حمام الدم السائر في ليبيا وسوريا واليمن، وأن تفهم أنه حتى هذا المستوى المريع من القتل لن يجعل الشعوب تتراجع في قرارها بإرادة الحياة وكسر قيودها، وأن مصلحتها الالتحاق بركب المستقبل وليس التعلق بمن حكم عليهم التاريخ بالزوال.
أما بالنسبة لرؤوس الأنظمة فالدرس بديهي: فات وقت إصلاحات ذرّ الرماد في العيون. حان وقت توزيع جديد للسلطة والاعتبار والثروة. لا جدوى للقمع الدموي، والخيار الوحيد إما المرور سريعا للملكية الدستورية غير المغشوشة وإما القبول بأنهم آخر ملوك وأمراء العرب.
القاسم المشترك بين الوضعيات الثلاث إذن انطلاق مسار إعادة توزيع الاعتبار والثروة والسلطة. سواء في الأقطار التي لم يبدأ فيها أو التي تقدم فيها خطوات أو التي يتعثر فيها، يمكن القول إنه وقع ردّ الاعتبار للشعوب والمواطنين لأن المستبدّين بصدد إعادة النظر في كل مسلماتهم وأيديهم على قلوبهم، بعد أن تعلموا الفضيلة التي نقصتهم على الدوام: احترام الآخرين. أما بخصوص توزيع السلطة والثروة فقضية مفروغ منها هي الأخرى حتى وإن تطلب الأمر مزيدا من الوقت والتضحيات.
لكن لننتبه إلى أن المهمّ ليس افتكاك الاعتبار والسلطة والثروة من المستبدين وإنما إعادة توزيعها بكيفية لا تُعدّ العدة بعد تراكمات جديدة لثورة على الثورة، فنبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة والرقاص يتأرجح من الاستبداد إلى الفوضى ومن الفوضى إلى الاستبداد