في مؤتمر الدوحة لاسترجاع الأموال المنهوبة
الاربعاء 12 أيلول (سبتمبر) 2012
سمو أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني
أصحاب المعالي والسعادة والسمو
السادة الحضور الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الأنظمة الاستبدادية التي انتفضت عليها الثورة العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن واليوم في سوريا البطلة ، سوريا الشهيدة، مصيبة عظمى تبتلى بها شعوب مقهورة يتكلّف انتصابها وتواصلها والتخلص منها ثمنا باهظا يدفعه الشعب عموما بالغرق في التخلف والبؤس ويدفعه عشرات الآلاف من الناس وهم بين سجن ومنفى ومقبرة . كل هذا لكي ينعم حفنة من الأشخاص بأقصى قدر من السلطة والثورة تاركين لبقية الشعب الفتات الذي لا يستحون من المنّ به عليه.
أن ما يشجّع المستبدين على التواصل في غيّهم وفي جرائمهم شعورهم بالحصانة وطمأنتهم لأنفسهم بأنهم فوق كل محاسبة وعقاب.
من سوء حظّهم وحسن حظّ الشعوب أن زمن الإفلات من العقوبة قد انتهى. لقد شكّلت المحكمة الجنائية الدولية خطوة جبارة على طريق الردع وهي تبعث برسالة واضحة أن الجرائم التي كان يستسهلها المستبدّ وهو في سكرة السلطة المطقلة قد تكلفه يوما المثول أمام محكمة في مدينة اسمها لاهاي.
وفي نفس إطار التضييق على الاستبداد ستطرح تونس بصفة رسمية على الأمم المتحدة بمناسبة انعقاد الجلسة العمومية في نهاية هذا الشهر في نيوورك مشروع إنشاء محكمة دستورية دولية تلتجئ إليها منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية والأحزاب المعارضة في حال وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وخاصة في حالة تزوير ارادة الشعب عبر المهازل الانتخابية التي تنظمها الدكتاتوريات لإضفاء شرعية زائفة على نظام مبني على ثلاثية التزييف والقمع والفساد.
الأداة الثالثة لضرب الاستبداد في الصميم هي التي يسعى هذا المؤتمر لبلورة شكلها واستراتجيتها أي بناء توافق دولي وآليات تجعل كل مستبدّ لا ينام الليل وهو يعرف أن سرقاته محلّ مراقبة من قبل مختصين يجيدون تتبع الآثار التي تفنّن هو وأزلامه في إخفائها وأن هذه الأموال المسروقة ستعود آجلا أو عاجلا للشعب.
أيها السيدات والسادة
إن العمل على استرجاع ما نهبته أنظمة الاستبداد من خيرات وأموال طوال عقود يمثل تحديا بالغ الأهمية بالنسبة للأنظمة الديمقراطية التي ترث حالة الخراب التي تتركها أنظمة الاستبداد : خراب المؤسسة القضائية والأمنية والإعلامية … خراب الاقتصاد الذي نخر فيه الفساد المالي وعلى وجه الخصوص الفساد الأخلاقي بضربه لقيم النزاهة ونظافة اليد والعمل كرافعة وحيدة نحو الارتقاء المهني والاجتماعي .
هذه الكارثة الأخلاقية -وليس فقط السرقة الموصوفة -هي التي نريد تصحيحها لكي تكون الرسالة أن الفاسدين لن ينعموا لا هم ولا ورثتهم بسرقاتهم وأن القول الفصل في الأخير سيبقى للقانون الذي خرقوه وللقيم التي خانوها. إن في بلوغ هذه الرسالة دور هائل لا فقط في وقاية المجتمعات من نزيف موارده وإنما أيضا وخصوصا في دعم قيم النزاهة والمساواة أمام القانون والإيمان بالعمل والتنافس النزيه وكلها من أهم عوامل تماسك هذه المجتمعات وصحتها النفسية.
ومن ثم حرصنا الشديد في تونس على استرجاع أموالنا المنهوبة ومحاسبة الفاسدين. إلا أننا لا زلنا للأسف في بداية طريق لم نقدّر كم سيكون صعبا وكم سنواجه فيه من عراقيل .فبعد مدة تفوق السنة والنصف من ثورة التونسيين لا يزال الأمر متعثرا في العديد من البلدان وإن شهد تقدما جزئيا في البعض منها.
ورغم تحصّل اللجنة الوطنية التونسية لاسترجاع الأموال الموجودة في الخارج على عديد المعلومات حول وجود عشرات الحسابات والشركات والعقارات وممتلكات أخرى بالخارج تابعة للأشخاص المعنيين وإحالة هذه المعلومات إلى السلط القضائية لتوجيهها إلى نظيراتها في الخارج تدعيما لطلبات التعاون الدولي , إلا أن التعاون القضائي لا يتناغم في الواقع مع الدعم السياسي الدولي والتطمينات التي قُدمت إلى الشعب التونسي من قبل العديد من الحكومات الأجنبية بخصوص استرجاع الأموال المنهوبة في أسرع الأوقات.
وعلى المستوى الإداري, تجدر الإشارة إلى أن سويسرا ومجلس الاتحاد الأوروبي وكندا أصدرت قرارات تقضي بتجميد الأموال والموارد الاقتصادية التابعة للرئيس السابق وزوجته والأشخاص المرتبطين بهما أو التي بحوزتهم أو التي يتحكمون فيها.
وعملا بهذه القرارات ، فإن العشرات من الحسابات البنكية والأموال المنقولة والعقارية الموجودة في هذه البلدان هي مجمدة إداريا منذ الأشهر الأولى لسنة 2011.
ولكن رغم الطلبات العديدة ، لم تتحصل السلطات التونسية إلى حد الآن على معلومات رسمية حول هذه الأموال المجمدة. أما على مستوى التعاون القضائي الدولي, فقد وجّهت السلطات القضائية التونسية 64 إنابة قضائية بين أصلية وتكميلية إلى ما يقارب 25 بلدا مُدعّمة بالأسانيد القانونية والوثائق حول الأموال والعمليات غير المشروعة التي تم رصدها من قبل الجهات التونسية.
وتُبين عملية جرد المعلومات المتعلقة بالإنابات القضائية أنّ الملف قد تقدم في عدد من البلدان إلا أن الكثير منها لم يتجاوب بعد مع طلبات التعاون التونسية . وإن هذا البطء الذي تم الوقوف عليه في إنجاز هذه الإنابات يمنع السلطات التونسية من فتح آفاق أوسع لتعقّب أصول في الخارج وأموال في حسابات ببنوك أجنبية مفتوحة بأسماء مستعارة أو لشركات وهمية أو صناديق ائتمان وتحديد خلفيتها الاقتصادية والمستفيدين الحقيقيين منها.
إن التجربة التونسية, أيها الحضور الكرام , تُبيّن أن عملية استرجاع الموجودات والأموال المنهوبة بحاجة إلى آليات قانونية وقضائية وإدارية أكثر نجاعة تعزز ثقة شعوبنا في العدالة وتؤسس لعلاقات متينة بين دول العالم وشعوبه. إن التونسيين وإذ يؤكدون على حقهم في مساعدة الأشقاء والأصدقاء بهدف استرجاع ثرواتهم, فإنهم يريدون * أولا: التسريع في إنجاز الإنابات القضائية ومدّ السلطات التونسية بكل الوثائق والمعلومات المتعلقة بالحسابات والأموال التي تمّ تحديدها وتجميدها.
* ثانيا: حث السلطات القضائية الأجنبية على توجيه إنابات قضائية دولية إلى السلطات التونسية أو سلطات بلدان أخرى لطلب معلومات إضافية حول الأفعال والوقائع التي هي موضوع تحقيق من قبلها والمرتبطة بالأموال المكتسبة بصورة غير مشروعة. حيث أنّ هذه الإنابات ستخلق مجالا واسعا لتبادل المعلومات في الاتجاهين بالنسبة لكل طرف، مما سيفيد في تحقيق تقدم إيجابي في مسار القضايا الجارية في تونس وفي الخارج وفي تعقب الأموال في بلدان غير مشمولة بالإنابات القضائية الحالية .
* ثالثا : الترفيع في عدد المحققين المكلفين بالملف التونسي، إذ تبين أنّه تم في العديد من البلدان تعيين قاض وحيد للتعهد بملفات استرجاع الأموال لكل من تونس وليبيا ومصر مع غياب فريق محققين متفرغين لهذه الملفات. * رابعا : تطبيق الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وتفعيل أحكامها المتعلقة بإجراءات المصادرة واسترجاع الأموال والتي تبين أن كل الدول المتعهدة بالملف التونسي لا تأخذها بعين الاعتبار.
سيداتي سادتي
إن مسؤولية المجموعة الدولية – ولا سيما منها الدول الغنية والديمقراطية – تكمن في محاصرة اللصوص بكل الوسائل القانونية الممكنة. فأي فائدة لدعم اقتصادي تقدمه للدول الفقيرة وهذه الأخيرة تعاني من نزيف الفساد الذي يجعلها تعطي في آخر المطاف للبلدان الغنية أكثر مما تتلقى.
إن كان واجب هذه الدول وبقية الدول الأخرى تفعيل وتعميم وتشديد سياسة رفض استقبال الأموال المشبوهة فإن واجبها اليوم المسارعة باكتشاف هذه الأموال واتخاذ قرارات سياسية استثنائية لإرجاعها لإصحابها. فالتعلل بدولة القانون وبطء البيروقراطية وصعوبة اكتشاف حيل المختصين في الإخفاء لا تقنعنا ولن تطعم كثيرا الجائعين أو تمكن من خلق فرص الشغل التي نحتاجها اليوم وليس بعد عشر أو عشرين سنة
إن مساعدة الدول الصديقة والشقيقة لتونس ولدول الربيع العربي في استرجاع الموجودات والأموال المنهوبة ليست منّة أو فضلا على الشعب التونسي وغيره من الشعوب العربية بل هي في صميم واجبات هذه الدول ومسؤولياتها أخلاقيا وسياسيا.
ومن ثمّ فإنني أطلب باسم الشعب التونسي أن يتم ترجمة الدعم السياسي للمسار الديمقراطي التونسي بإعطاء هذا الملف أولية قصوى لتخطي العراقيل العالقة به بإرادة سياسية قوية وبإجراءات استثنائية إن تطلب الأمر لكي يسود جوّ الثقة بين كل الأطراف.
وفي ختام كلمتي هذه اسمحوا لي بأن أجدّد شكري لدولة قطر لاستضافة هذا المؤتمر الهام وطرح إشكالية محورية لحماية الشعوب من الاستبداد ومن أخسّ مظاهره. وإن تونس لتتطلع بهذا الصدد إلى الدور المأمول للدكتور علي بن فطيس المري في مهمته الأممية الجديدة وما يمكن أن يفتحه ذلك من آفاق جديدة.
أتمنى له لمبادرة الأمم المتحدة بكل التوفيق في أصعب وأنبل مهمة ألا وهي إعادة الأمل بأن المفسدين وإن كنا متأكدين أنهم لن يفلتوا من حساب الآخرة ، فإنهم سيبدؤون بدفع القسط الأول في هذه الدنيا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدوحة 12/9/2012