لا ناقة لي ولا جمل في الجدل حول أفضل رئيس لتونس الذي أثارته (عن غير قصد) الفاضلة محرزية العبيدي.
آخر من له الحقّ في التدخّل في هذا النقاش كاتب هذه السطور ومع ذلك سأتدخّل فيه بصفتي الفكرية وليس السياسية مع الشكر لكل من قالوا فيّ كلمة خير.
ملاحظة 1: المفاضلة بين الرئيسين لا تجوز منهجيا حيث لا مقارنة منطقية إلا بين مسارين منتهيين
وما زال مساري قائما (قولوا بعد عمر طويل).
ملاحظة 2: ثمة كثير من التشنج والمغالاة في تناول الموضوع من الطرفين.
تذكّروا دوما تحذير العرب:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة…. وعين السخط تبدي المساوئ
وتحذير الفرنسيين: كل شيء مغالى فيه لا قيمة له.
Tout ce qui est excessif est insignifiant
لكي نقترب من الحقيقة -وهي أفضل كثيرا وأنفع من التدجيل على النفس والآخر- علينا النظر للناس وللأحداث لا بعين الرضا ولا بعين السخط وإنما بعين النزاهة والصدق .
آنذاك يكون لكلامنا قيمة وإلا فإننا نسفّه أنفسنا بالغلوّ قبل أن يسفّهنا الآخرون ويكذبنا الواقع العنيد.
**
لبّ الاشكالية ويتلخص في أمرين :
يتعلق الأول بذهنية عربية عامة كانت ولا تزال سببا هاما من أسباب شقاء هذه الأمة.
لو سألت فرنسيا من هو أعظم زعيم فرنسي لنظر إليك باستغراب حاكّا رأسه ثم قائلا: لنا أكثر من رجل عظيم: شارلمان، لويس الرابع عشر، نابليون، فوش، ديجول، ميتران وكم من آخرين.
حاول أن تسأله من هو ” أمير الشعراء ” عندهم.
لن يفهم السؤال أصلا، ففي الأدب الفرنسي لا يوجد لا شوقي ولا متنبي وإنما كوكبة من فطاحل الشعراء مثل بودلير ورامبو وموسي وهيجو وبريفار ولكل شاعر نكهته وطرافته وتعدديتهم هي التي تعطي للثقافة الفرنسية ثراء ساهم فيه أكثر من عبقري واحد.
لكن العقلية التي روّج لها وحاول ترسيخها الاستبداد السياسي الذي يعيش فيه العرب منذ قرون هي أنه لا وجود إلا لزعيم واحد والشعب عطاء من عطاياه ومن ثمة تعممت الذهنية الفاسدة لتلوث كل مجالات الفكر فأصبح عاديا الجدال في ثقافتنا حول من هو أمير الشعراء ومن هو فيلسوف الفلاسفة ، الخ
والنتيجة صراعات عبثية حول موضوع محسوم : تاريخ الشعوب مثل ثقافتها مصنوع من كم ّ هائل من المشهورين والمغمورين وكل واحد كان في مرحلة ما لبنة ضرورية في صرح ما زال يبنى جيلا بعد جيل.
**
الأمر الثاني الذي كشفه الجدل هو عمق الاختلاف داخل الوعي الجماعي حول نوعية الحاكم المثالي ومن ثمة السلطة المنشودة وهذا من قبل أطراف مجتمعية متباينة الخصائص والمطالب.
الأمر ليس سلبيا في حد ذاته وعلينا تعميق النقاش -خارج التشخيص-حول مفاهيم الشوكة والهيبة والقوة والحكم الرشيد ودور المؤسسات ومكانة كل الذين يصنعون التاريخ لا نكذب عليهم ولا نكذب من أجلهم .
**
أكثر ما يزعج في النقاش الدائر أنه لم يتناول هذه المواضيع البالغة الخطورة إلا من باب التراشق بالتهم والأخطر أنه نكأ كل الجراح القديمة لتاريخنا منذ الاستقلال .
لما دفعت البوليس ودخلت بالقوّة لأعزّي عائلة الرئيس وبورقيبة، قادني محمد الصيّاح لغرفة صغيرة لأقرأ الفاتحة على الجثمان المسجى أرضا الملفوف بالعلم . تلك اللحظة شعرت أنا المعارض ابن المعارض كم هي عبثية صراعاتنا الشخصية والسياسية عند حضور الأجل المحتوم .
ولما دخلت القصرالرئاسي جمعت كل صور الرجل ووثائقه التي رماها بن علي في غرفة المهملات ودشّنت لها متحفا في المنستير ولم اتخلف سنة عن زيارة قبر الرئيس بورقيبة في ذكرى وفاته.
ثم دعوت ابنته هاجر وأرملة الشهيد صالح بن يوسف السيدة الفاضلة صفية بن يوسف في مارس 2012 ليتصافحا ونأخذ صورة أبناء وبنات العائلة الواحدة التي تصالحت أخيرا مع نفسها.
أما إصراري على دعم العدالة الانتقالية فلأنه مثّل لي الحلّ الأمثل لإرجاع الاعتبار للضحايا دون الدخول في مسلسل جديد من الانتقام.
كل هذا ليس حبّا في بورقيبة وإنما حبّا في تونس وشعورا مني بأن مسؤوليتي كرئيس وكإنسان تضميد الجراح لا تعفينها.
كان شعاري في الحياة وسيبقى : في موقف ضعف لا تستسلم ، في موقع قوة لا تنتقم.
رجاء لا تعيدوا فتح الجراح القديمة ولا تفتحوا أخرى جديدة .
كم دمّر الحقد الايدولوجي وصراع الأشخاص والأحزاب من بلدان وشعوب كنا نظنها متماسكة صلبة!!!
فاعتبروا يا أولي الألباب
ولا بدّ لليل أن ينجلي