لا يعتقدَنّ أحد أنني أعاني من نوبة “إنسانوفوبيا” وهي أزمة مرّ بها الكثيرون بعد اكتشاف سخرية الدنيا من كل أحلامهم. كم منهم على مرّ العصور وفي مختلف الحضارات، لاذوا بالفرار هربا من إنسان فقدوا فيه كل ثقة وأمل! منهم من تنسّكوا داخل غار في غابة وآخرون استجاروا بالأديرة. لحسن حظي لا توجد غابات بالكثافة المطلوبة في تونس لكي أختفي فيها وليس لنا في الإسلام أديرة نحتمي بجدرانها.
سببان لعدم الهروب والاستسلام للإحباط، أولهما ما نبّه له من عبثية العملية إليا أبو ماضي
فهَجَرتُ العُمرانَ تَنفُضُ كَفّي / عَن رِدائي غُبارَهُ وَإِهابي
خِلتُ أَنِّيَ في القَفرِ أَصبَحتُ وَحدي/ فَإِذا الناسُ كُلُّهُم في ثِيابي
السبب الثاني وجود حُجج متينة لمواصلة الإيمان بالجنس البشري وبمشروع تحسينه رغم كل ما ذكرنا.
كلمة خير في حق جنس بصدد فقدان كل أوهامه حول صدارته وتميّزه وتمركزه وتفضيله عند الله، إلخ.
صحيح أننا مثل فيروس يهاجم حديقة الله متسببا في انقراض كمّ هائل من مخلوقاته.
لكن صحيح أيضا أننا أفقنا لِما تسببنا فيه من خراب نتيجة الجهل والجشع.
ثمة وعي متنامٍ بضرورة الإسراع وبذل كل الجهود لتدارك الخطأ والخطيئة.
ثم قُل لي أيّ جنس من الأحياء يهتم بغير نفسه؟
وحدهم البشر من يضَحّون بحياتهم دفاعا عن حيتان يرفضون الحرب المجرمة التي أشهِرت ضدها أو يربطون أنفسهم بالسلاسل للشجر دفاعا عنه من المنشار الكهربائي، ويظهرون كل هذا الحب لحيواناتهم الأليفة.
والآن كلمة خير في حق الإنسان المسكين، وهو أكثرَ من أي وقت مضى وأمام ما يقاسي من آلام، بحاجة للتعاطف والشفقة والحب والتضامن، خاصة في هذه الظروف غير المسبوقة، وهو مطوّق محاصَر في آن واحد بالأوبئة والحروب والتحوّل المناخي، وربما قريبا بمجاعة ستعود بنا إلى أوضاع تخيّلنا انتصارنا عليها نهائيا.
تناقُض أم محاولة تدارك؟ لا هذا ولا ذاك. دوما هاجسي النظر للأمور لا بعين الرضا ولا بعين السخط وإنما بعين الموضوعية الملتزمة.
موضوعيا لا معنى للقول إن الانسان خيّر بطبعه أو شرّير بطبعه. الأصحّ أن نقول إن الإنسان بلوَرَ منذ نشأته، أيْ منذ مائتي ألف سنه طيفا واسعا من المواقف والتصرفات. منها التي نصفها بالخيّرة أو الشريرة، بالأخلاقية أوغير الأخلاقية، وكلها أيّا كان التقييم المعياري موجودة بهدف الحفاظ على البقاء وتحسين شروطه. هكذا اضطر الإنسان إلى اللجوء إليها واستعمالها كليا أو جزئيا، تباعا أو في نفس الوقت وبنسب مختلفة حسب الظروف والأوضاع ودرجة ضغط المحيط.
هكذا ولّد استعمال الاستراتيجيتين أحسن ما تحقق عبر التاريخ، من إلغاء الرق إلى إحداث الضمان الاجتماعي، كما ولّد أسوأ ما شاهده من حروب واستغلال الإنسان للإنسان وللطبيعة استغلالا فاحشا ومجرما. هكذا ولّد تشغيلُ “المنطقة الخضراء” من البرمجية نظريات ومشاريع تحسين البشرية، وولّد تشغيل “المنطقة الحمراء“ كل المواقف والتصرفات التي أفسدت وأحبطت وعبثت بأجمل الأحلام والمشاريع، وقد تغلبت المصلحة الخاصة على المصلحة العامة والمصلحة القصيرة المدى على تلك البعيدة المدى.
لهذا يستطيع الإنسان اليوم بما وصل إليه من علم ومن نضج، إنقاذ نفسه وإنقاذ الكوكب ومواصلة تحسين ظروف عيش الكثيرين. ولهذا أيضا يستطيع بما تضعه التكنولوجيا من إمكانيات بين يدي الاستبداد الجديد، وخاصة الذكاء الاصطناعي أن يجعل المستقبل مرعبا.
نحن اليوم أمام تهديدَين جدّيَين. الأول هو عالم خالٍ من البشر تماما وقد استعادت الطبيعة التوازنات المفقودة كما يستعيد جسم إنسان أو حيوان صحته بالتخلص من الفيروس الذي هاجمه، ومن وسائلها كورونا وأخواتها. الثاني ببشرية تعيش في ظل آلات استحوذت على القرار، ونعيش في ظلها كما تعيش الحيوانات في ظلنا.
التحدي إذن هبّة جماعية لإيجاد ظروف موضوعية ذاتية، يتغلّب من خلالها أحسنُ ما فينا على أسوأ ما فينا على أوسع نطاق ولأطول مدة ممكنة. هذا مقدور عليه وحصل أكثر من مرة في التاريخ، خاصة بعد الحروب الكبرى. ولولا هذه الطاقة الجبارة لتجاوز كل المحن لكنا انقرضنا أو لا زلنا نعيش في الكهوف.
كيف؟ اكتشاف النظرية البديلة لكل الأيديولوجيات التي عشنا عليها ووضعُ السياسة البديلة لكل السياسات التي أوصلَتنا إلى حافة الهاوية.
لكن ماذا سنفعل تجاه ما ستقوم به “المنطقة الحمراء” من برمجيتنا وهي كما رأينا جزء قار من طبيعتنا؟ خَلق إنسان جديد، إنسان ما بعد الإنسان. إنه ما تحلم به وما تخطط له البيولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
مَن يضمن أن النتيجة لن تكون أسوأ حتى من كل عرفنا وأنه من الممكن أن أحفادنا سيترحمون على عصور ذهبية كان الإنسان فيها حرا يخطئ ويصيب ويصحح أخطاءه.
إن طلّقنا وهمَ اكتشاف نظرية جديدة لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من أمامها، ووصفة سحرية تجد أخيرا من يطبقها التطبيق “الصحيح”، يصبح السؤال: كيف نقرأ الواقع المعقّد الصعب، بما يجب من الموضوعية الملتزمة، وكيف نبني عليها سياسات تقيّم نفسها باستمرار وفق مقاييس لم تعد الربح والنجاعة وإنما القيَم؟
وللحديث بقية.
مقال جيد جدا تحليل دقيق وواضح لغة سلسة والمحتوي جيد جدا وهذا ليس بغريب عن دكتورنا وحبيبنا السيد الرجل الحر والشريف المنصف المرزوقي حفظه الله
سلام عليكم سيدي الرئيس شكرا على كل حال
المؤلم أننا أمام استنساخ نظام استرقاق جديد ظاهره يعتني بمصالح الفرد في العلن ويضمر له كل الشر في الباطن .
السلام عليكم
جميل و رائع جدا ما تكتب؛ نصا و إبلاغنا، مراوحات رائعة بين إيديولوجية السياسة و سوسيولجية الدين مرورا إلى الثورة البرمجية و تأثيرها على بيولوجية الإنسان تحمل الفكر العاقل إلى تأملات وخواطر حد الهذيان لأشعر أخيرا بحمقي الذي لا يحق لي مع عقلي فأعود لأتحقق من “منطقة خضراء”و أخرى “حمراء”فأتوه بينهما
هنا أنتهي صامتا ، منتظرا مقالا آخرا لعله يدلني في مالم أجد له خبرا و لا صبرا
شكرا دكتور دمت متميزا
شكرا لك سيدي الرئيس على هذا التشخيص لواقع يبدو كما نحن عليه.
خطط لنا أو أوهمنا أنفسنا أننا صانعيه المهم هذا هو واقعنا اليوم.
لكي لا نبكي و لا ننحب على ماضينا. ما علينا القيام به ؟ وكل من موقعه أفرادا أو مجموعات.
سيدي الرئيس لست من هواة المناشدة لأنها تذكرنا بماضي أليم وليس ببعيد و لأن تونس ولادة بكثير من الرجال من بداية تاريخها إلى يومنا هذا.
إن كانت لديك القدرة للرجوع و العمل السياسي فلا تبخل و ستجد من يعاضدك ممن كان معك من قبل و ممن كان في موقف آخر غير بعيد عنك.
شكرا أيها المفكر.
موضوعة القيم هي مانحتاج أن نجعله مقياسا نبني وفقه ذواتنا وعلاقاتنا وواقعنا وطموحاتنا…نحن في حاجة إلى إعادة بناء الإنسان…خاصة في منطقتنا: طنجة /جاكرتا…وقد لا تكون بعض بلاد الشرق في مسيس الحاجة إلى هذا..لأنها شرعت بعد أو هي كما يظهر لنا على الطريق…إلا أن البلاد العربية وما جاورها تطلب من كل غيور فردا كان أو مؤسسة أن يشرع في الفعل لأننا مهددون …ويلزمنا تغليب أحسن ما فينا على أسوإ ما فينا…
كم تخسر بلادي_ تونس_ (وكل العرب) بتضييع أبنائها البررة.
لا شك دكتور. السؤال الذي انهيت به مقالك الرائع, جوابه يتجاوز فكر و قدرات الفرد الواحد و لا بد أن تتضافر له جهود الجماعة مدة زمنية طويلة,,,,,,,و هنا المعضلة. احترامي سيدي الرئيس