هادة قرأتها منذ عقود، لم تفارق ذهني أبدا، ورويتها في كل مقابلاتي، وأعود إليها في هذا المقال، لأنها هي التي فتحت عقلي على الغابة التي لا نراها أبدا، وكل اهتمامنا مركّز على الشجرة وأحيانا على غصن منها.
إنها النكتة التي تُروى عن شو إن لاي، الوزير الصيني الأول في عهد ماو تسي تونغ (1949-1976)، لما سئل عن رأيه في الثورة الفرنسية (1789)، فردّ (ونحن في منتصف القرن الـ20) “قد يكون من المبكّر إبداء رأي نهائي”.
هذا السياسي المحنك والمثقف أبدى خشيته من إبداء رأي نهائي في ثورة لها قرنان من الزمان، وعشرات المحللين لا همّ لهم اليوم إلا الحكم على ثورة لها 10 سنوات فقط، بالفشل بالنسبة للبعض، والأخطر بمحاولات تسويغ هذا “الفشل” وكأنه أمر واقع عند البعض الآخر.
يمكن للطبيب المولع بالتاريخ أن يرصد تطور المعارف والتقنيات الطبية وأن يتبين اللحظات المفصلية في هذا التطور. الشيء نفسه بالنسبة للفيزيائي، للكيميائي، لرجل الدين، للمتخصص في الفلاحة أو في هندسة العمارة وحتى في الطبخ واللباس.
الدرس: يجب وضع كل الثورات في سياقها التاريخي، وعدم التسرع في الحكم لأن نتائجها الحقيقية دوما بعيدة المدى؛ فهي لا تُفهم في أسبابها ونهاياتها إلا إذا وضعناها في مجالها الزمني الواسع بل الأوسع، حتى لو أنه ليس من الضروري العودة إلى آدم وحوّاء.
ولنعتبر في البداية الفاصل الزمني القصير الذي نعيش؛ فقد انطلقت الثورات العربية إذن يوم 17ديسمبر/كانون الأول 2010 من تونس. وبلغت الموجة مصر يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011، ثم ليبيا يوم 17 فبراير/شباط من العام نفسه، واليمن ما بين 25 و27 فبراير/شباط، وأخيرا سوريا يوم 17 مارس/آذار. شاهدنا بعدئذ نوعا من السكون إلى أن تحركت موجة ثانية ضربت السودان يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، وبلغت الجزائر ابتداء من 22 فبراير/شباط 2019، ودهمت لبنان في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما زالت إلى اليوم صاخبة. أضف الاحتجاجات العراقية التي اندلعت في أول أكتوبر/تشرين الأول 2019 في بغداد وبقية محافظات جنوب العراق احتجاجًا على تردّي الأوضاع الاقتصادية.
ضع هذه الثورات في مجالها الجغرافي، أي على خريطة العالم، وستكتشف أن مثل هذه التحركات المجتمعية الجبارة ليست حالات شاذة. لقد امتدت الظاهرة خارج الوطن العربي سواء كان الأمر صدفة أو نتيجة العدوى؛ تحركات (Occupy wall streeet) في أميركا في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وانطلاق حركات السترات الصفر في فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وتحركات الشعب في تايلند سنة 2020 ضد الملكية المطلقة، وفي بورما ضد الانقلاب العسكري هذه الأيام. القاسم المشترك هو وصول انخرام التوازن في توزيع السلطة والثروة الاعتبار داخل المجتمع إلى حد لا يطاق، وضرورة إعادة هذا التوزيع بصفة أقل ظلما، على الأقل إن استحالت العدالة المطلقة.
والآن ضع ثوراتنا في مجالها الزمني، وستكتشف أنها كحلقات سلسلة لا نعرف لها بداية أو نهاية وإنما بعض المحطات التاريخية الكبرى مثل الثورة الروسية (1917)، والثورة الأميركية (1765)، والثورة الفرنسية (1789)، والثورة الإنجليزية (1688). آخر أو قل أول حلقة قد تكون الثورة التي اندلعت في مصر الفرعونية سنة 2260 قبل الميلاد، والتي تضمنت كل مقاطع السيناريو الثوري من انتفاض “الغلابة” ضد الكهنة والأثرياء وسلطة فرعون .
ولكلّ قراءته للماضي؛ فيمكن للطبيب المولع بالتاريخ أن يرصد تطور المعارف والتقنيات الطبية وأن يتبين اللحظات المفصلية في هذا التطور. الشيء نفسه بالنسبة للفيزيائي، للكيميائي، لرجل الدين، للمتخصص في الفلاحة أو في هندسة العمارة وحتى في الطبخ واللباس.
ثمة إذن تواريخ لا تاريخ واحد. هذا الذي نسميه تاريخا والذي ندرّسه لأطفالنا ليس إلا التاريخ الذي يدوّن للغزاة والملوك والأنظمة المنتصرة. وبصفتي رجلًا سياسيًا أرى أنه في مجمله الواجهة الكاذبة والمنمقة التي تخفي صراعا مريرا متواصلا حتى اليوم لتحرير الإنسان من ظلم “أخيه” الإنسان، والثورات التي نتحدث عنها مجرد فصل في هذا الصراع الأزلي الذي يناضل منذ بداية ملحمة البشرية لخلق أنظمة اجتماعية سياسية تستبدل شرعية القوة بقوة الشرعية.
الثابت أن الثورة، بما هي قوة تعديلية للتوازنات المنخرمة داخل المجتمع، مشروع إذا انطلق لا يتوقف، مثل البركان الذي لا يتوقف عن لفظ الحمم إلا عندما تخلصه من كل الضغط الذي ولّد الانفجار، ومن ثم تجد سخافة هذه الادّعاءات المتكررة بفشل الربيع العربي بحجة ما عرف من هزائم وما يتعرض له من مؤامرات وعقبات هنا وهناك.
تصوّر مدّعي معرفة يقول لك بعد فشل ثورة عبيد الرومان الذين قادهم سبارتاكوس (73-71 قبل الميلاد) أو ثورة الزنج في العراق (منتصف القرن الثالث الهجري/القرن التاسع الميلادي)، أن العبودية قدر الإنسان إلى الأبد .
تصوّر أن محللا عبقريا قال لك بعد مجزرة سطيف في 8 مايو/أيار 1945 “انظر إلى كل هذه المحاولات الفاشلة منذ استسلام الأمير عبد القادر يوم 25 ديسمبر/كانون الأول 1847؛ ألا تفهم أنه لا أمل للجزائريين في الخلاص أبدا من الاستعمار؟”.
كما كان من الضروري ومن الحتمي أن تنتهي العبودية ولو بعد آلاف السنين من المحاولات الفاشلة، وأن ينتهي الاستعمار ولو بعد أكثر من قرن في الجزائر وفي أكثر من بلد آخر، فإنه لا قبل لأحد بإيقاف موجة تصفية الأنظمة الاستبدادية التي بدأت منذ قرنين في أوروبا وأميركا. فهي تكتسح اليوم عالما فيه 146 دولة ديمقراطية ونحو 50 دولة فقط ما زالت ترزح تحت حكم الرجل الواحد وعصاباته الإعلامية المخابراتية المصرفية الغارقة في العنف والفساد.
إن نهاية الاتحاد السوفياتي لم تحدث كما هو مدوّن في كل الكتب يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1991. هذا التاريخ هو فقط لحظة تنفيذ عقوبة الإعدام، لكن الحكم صدر على مدى عقود طويلة في صمت رهيب داخل قلوب وعقول ملايين من السوفياتيين، ولم ينتبه إليه قادة أعمت بصيرتهم سكرة السلطة المطلقة فضلًا عن جهل فاضح بالتاريخ. من وجهة النظر هذه يمكن القول إن كل الأنظمة الاستبدادية العربية واقفة في طابور الإعدام تنتظر لحظة تنفيذ الحكم الذي صدر في عقول وقلوب أجيال جديدة من العرب المتواصلين مع العالم المتقدم، المتمكنين من أحدث أدوات التواصل الاجتماعي، الرافضين استيلاء “كمشة” من الناس العاديين وأحيانا الأقل من عاديين بجلّ السلطة والثروة والاعتبار .
نسينا أن قانون “كيفما” يُقرأ في الاتجاهين: “كيفما يولّى عليكم تكونوا” أي إن حكامًا فاسدين يبثون فيكم الفساد ويجعلونكم من الفاسدين.. وأيضًا “كيفما تكونوا يولّى عليكم” أي إنه إذا كان المجتمع فاسدًا فإنه سينتج بالضرورة حكّامًا فاسدين.
مما يعني عبث ما يحاول كل هؤلاء الأغبياء الخطرين الذين يضيّعون مالهم ووقتهم ودماء الأبرياء في محاولة التصدي للتسونامي الذي سيجرفهم مهما وضعوا في وجهه من متاريس. عجبي ممن يتصورون أن البراكين ستصمت لمجرد وضع غطاء على فوهتها! والحال أن هذا عامل من أهم عوامل ارتفاع الضغط داخلها.
وللمصرّين على الحديث عن النجاح والفشل بخصوص الربيع العربي، يمكننا القول بكل ثقة إنه حقّق قسطا كبيرا من مهمته الأولى في زعزعة النظام الاستبدادي الجاثم فوق صدر هذه الأمة منذ قرون، إما بالإسقاط وإما بالإرباك والبحث عن حلول ترقيعية، وفي كل الحالات هنا بجعله يعيش تحت راية الخوف الذي كان سلاحه الرئيس ضد شعوبنا. قال السيد المسيح “من عاش بحد السيف مات به”، ويمكننا القول اليوم إن من سيواصل الحكم ببث الخوف سيعيش وسيموت وهو أكثر الناس خوفا.
المشكلة هي الجزء الثاني من مهمة كل ثورة في البناء فوق خراب تسبب في جزئه الأساسي الاستبداد، وتسبب ثمن الثورة في جزء ولو متواضع منه، وأتت الثورة المضادة لتزيد الطين بلة.
إن أهم درس تعلمناه من الربيع العربي كمنظّرين وفاعلين أنه لا أسهل من إطاحة نظام نخر فيه السوس، لكنه لا أصعب من بناء النظام البديل. ربما ارتكبنا نحن أيضا غلطة التركيز على الشجرة وتجاهلنا الغابة، لكن الأخطر أننا قد نكون جبنّا عن مواجهة تحمل أفكار تضرب قناعات طيبة لكنها مع الأسف طوباوية.
كان منطلق كل نضالنا الفكري والسياسي أن الاستبداد مثل ورم يصيب جسما سليما ما علينا إلا استئصاله ويتعافى الجسم، لكن ماذا لو كان الورم هو من صنع الجسم المريض؟
نسينا أن قانون “كيفما” يُقرأ في الاتجاهين: “كيفما يولّى عليكم تكونوا” أي إن حكاما فاسدين يبثون فيكم الفساد ويجعلونكم من الفاسدين.. وأيضا “كيفما تكونوا يولّى عليكم” أي إنه إذا كان المجتمع فاسدا فإنه سينتج بالضرورة حكاما فاسدين.
كيف لا تنتج مجتمعاتنا الاستبداد وهي متشبعة بثقافة استبدادية في جوهرها استبطنت أن العصبية هي محور السلطة، وأن الشوكة والغلبة هي الطريقة المثلى للوصول إليها، وأن الحكم غنيمة حرب، يوزّع بين الأهل والقبيلة، وأن العاجز من لا يستبد، وأنه لا منقذ من الأزمات إلا الرجل القوي أي العنيف الفظّ القاسي الدموي.
فكذلك اكتشفت الثورة أنها إن انتصرت فكم سيكون من الصعب التخلص من الفساد بكل أبعاده المادية والمعنوية، والورم الواضح بثّ خلاياه في أماكن متفرقة ومتباعدة من الجسم.
فلا غرابة أن يرتطم مشروعها بالكم الهائل من الرعايا الذين صنعهم الاستبداد، وتعهّدهم بالتعليم والإعلام وفتات التقدم. وتتضح ضخامة المهمة وصعوباتها بما أن مشروع الثورة الحقيقية ليس استبدال النخبة القديمة بالنخبة الثورية، وإنما توسيع قاعدة النخبة لتشمل الشعب كله حتى يصبح شعبا من المواطنين لا شعبا من الرعايا.
كم من وقت تتطلبه عملية كهذه؟ كم من مطبات، من عوائق، من ردّة بعد ردة؛ وجزء من الشعب يحنّ إلى جلاديه؟ كم يلزم من حب حقيقي للناس، من ثبات على المبادئ، من صبر؟ خاصة من القبول بالزمن التاريخي للشعوب الذي هو ليس زمن الأشخاص، حتى لا يكفر الثوريون بالديمقراطية، بالشعب، وحتى بالثورة، وحتى يواصلوا مهما كانت خيبات الأمل أنبل مشروع: تحرير الإنسان من “أخيه” الإنسان .
لكل هذه الأسباب ولأسباب أخرى غفلنا عنها لنقص في المعرفة، ننصح كل من تطلب فتواه في مدى نجاح أو فشل الربيع العربي أن يبتسم بلطف لمخاطبه، وأن يردّ بالرد الذكي الوحيد، كما قال المرحوم شو إن لاي “لا يزال الوقت مبكرا جدا قبل أن نستطيع إبداء أي رأي”.
ولا بدّ لليل أن ينجلي.