دكتاتوريون قيد التأجيل
الاثنين 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011
عرض مباشر : رابط المقال
بوعلام رمضاني يبين المؤلف والمعارض السياسي التونسي الشهير المنصف المرزوقي ردا على أسئلة المحلل السياسي الكبير فانسان جيسار -في كتاب لا يشبه كل الكتب التي صدرت عن الثورات العربية- كيف تنبأ قبل الكثيرين بحتمية سقوط دكتاتوريين عرب ، ومن بينهم بن علي الذي سجنه وفرض عليه المنفى وشرده بعد أن رفض التدجين والتسليم بمنطق مثقفين آمنوا بمقولة “دكتاتورية مستنيرة أفضل من إسلاميي الظلامية والتخلف الفكري”. ويحلل المرزوقي الطبيب المتخصص في الأعصاب والرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان التونسية من موقع الشاهد الذي عاش وشاهد كل شيء كيفية تحول تونس إلى ثكنة كبيرة اعتبارا من العام 1987 تاريخ وصول الرئيس الشرطي إلى الحكم, على حد تعبير النائب اليساري والصحفي الشهير السابق نوال ممار الذي كتب المقدمة. ويفند المرزوقي أيضا المقولات الغربية التي برر أصحابها الحكم الدكتاتوري ويشرح منهجيته القمعية ومقاربته الأمنية بغرض القضاء على كل من يعارض سياسته حتى وإن لم يكن إسلاميا، كما يفضح المثقفين الذين كرسوا الدكتاتورية إلى جانب مناضلي سوق حقوق الإنسان والعلمانيين الأصوليين مثل الإسلاميين غير الديمقراطيين ويبلور تصوره لمستقبل عربي ديمقراطي يضمن القطيعة مع الأنظمة الدكتاتورية وينفتح على كل المؤمنين بالتداول السلمي على السلطة ولا ينتقم من كل الذين عملوا في ظلها بصفة آلية وغير ناضجة. الدكتاتورية ليست قدرا في مقدمة الكتاب التي عنوانها “اليوم الذي أينعت الصحراء بالزهور” -وكرم فيها والده الذي علمه أن الصحراء القاحلة يمكن أن تتحول إلى مزرعة خضراء – أكد أن الدكتاتورية ليست قدرا على الشعوب العربية غير المفطورة على الخضوع للحكم التسلطي كما أشيع في الأدبيات الغربية “الحرية ليست قيمة عربية، والديمقراطية نبتة دخيلة على التربة العربية، والطاعة العمياء ماركة عربية مسجلة أيضا، وما على العرب إلا الاختيار بين طاعون الدكتاتورية وكوليرا التطرف الإسلامي”. وكتب المنصف يقول في الطبعة الأولى من الكتاب الذي صدر عام 2009 “معا يمكننا تنحية الدكتاتوريين وسيكون موعدنا مع الفجر الجديد قريبا”، وأضاف للعنوان الرئيس لكتابه الأول “دكتاتوريون قيد التأجيل.. طريق العالم العربي للديمقراطية” العنوان الفرعي “انتقام الشعوب العربية بعد أن تحققت نبوءته وانتقم الشعبان التونسي والمصري، وتنحى مبارك وفر بن علي، وبقي المناضل والثوري السلمي الذي عاد إلى كتابه في طبعة جديدة أكثر عمقا وفرادة مفتخرا بتزكية الكاتب الصحفي الكبير أدوي بلينال صاحب كلمات “يجب حتميا قراءة هذا الكتاب”. إباحية دكتاتورية بدأ المرزوقي في تشريح ميكانيزم النظام الدكتاتوري كشاهد اكتوى بناره لعدة أعوام منطلقا من فصل أول جال وصال من خلاله في دهاليز الآلة الأمنية القمعية التونسية متحدثا عما أسماها بإباحية الدولة الدكتاتورية التي تفننت في ترويع الشعب بشتى السبل. وتفنن المرزوقي بدوره في فضح الدولة الدكتاتورية التونسية بوصف ممارساتها القمعية بالإباحية التي تسمح بالدوس على كرامة المعارضين لسياستها، كأن يفبرك مشاهد إباحية تتناول بعض رموز المعارضة، ومن بينها المعارضة والمقاومة العنيدة سهام بن سدرين، وتعذيب الرجال في وضعيات يندى لها جبين الإنسانية. ” في تونس التي سجن وعذب فيها حوالي 30 ألف معتقل بين 1991 و2001 أهان النظام الدكتاتوري أو الاستعمار الداخلي المعارضين الحقيقيين والسجناء الشعبيين ” في تونس التي سجن وعذب فيها حوالي 30 ألف معتقل بين 1991 و2001 أهان النظام الدكتاتوري أو الاستعمار الداخلي، على حد قوله كل المعارضين الحقيقيين والسجناء الشعبيين، والمرزوقي نفسه تم توقيفه مرة في مطلع الاستقلال عام 1956 في قرية دوز تماما كما تم مع والده أيام الاستعمار الفرنسي الخارجي وخضع لتقنيات كل الإهانات الممكنة التي تحط من كرامة الإنسان. تربية الشعب على الخوف والترهيب جاءت على لسان بشير بن يحمد رئيس تحرير مجلة جان أفريك حاليا وأصغر وزراء بورقيبة السابقين، وحكى بن يحمد أن بورقيبة كاد يفقد عقله عند سماعه مقترح تطبيق فكرة الشرطي المواطن على الطريقة الإنجليزية، ولم يكن بوسع الرئيس الذي قدمه الغرب على أنه مؤسس تونس الحديثة إلا الانتفاض صارخا “أنت مجنون، مع التونسيين لا ينفع إلا رجال الأمن الذين يرعبون ويرهبون”. وحسب المرزوقي “فإن هذه الحادثة الحقيقية تلخص وحدها نظرة الحكام الدكتاتوريين لشعوبهم، وحكى الشاهد على قمع نظام بن علي بدوره رواية حقيقية مذهلة وخرافية أخرى شهد عليها 40 مليون متفرج عربي تابعوا من خلال قناة الجزيرة كيف هدده مباشرة على أشهر القنوات العربية جنرال مصري ونائب وزير داخلية مبارك السابق بقطع لسانه بعد أن وصف نظام الرئيس المتنحى بالبوليسي القمعي. مثقفون غربيون وعرب مع الدكتاتوريين مساهمة الكثير من السياسيين والمثقفين العرب الذين خرجوا من معاطف نظرائهم الغربيين وروجوا لفكرة العرب غير المؤهلين لحكم ديمقراطي، من أمثال هوبير فدرين وزير خارجية ميتران السابق وألكسندر أدلر الذي طالما افتخر بالنموذج التونسي وساركوزي وإليو ماري وفردريك ميتران وزير الثقافة ودومينيك ستراوس كان المدير السابق لصندوق النقد الدولي الذي أشاد بالنظام التونسي قبل أيام من سقوطه، كانت من أهم مباحث الفصل الثاني والفصل الثالث. وقال المناضل التونسي في الفصلين إن الكثير من المثقفين العرب والتونسيين مجدوا النموذج الاقتصادي التونسي المنحرف الذي خدم حاشية المافيا واللصوص والبارونات الأمنيين وراح ضحيته الشعب، ولعل انطلاق شرارة الثورة بعد انتحار الشاب البوعزيزي دلالة على أكذوبة النموذج الاقتصادي المتناقض مع حياة اجتماعية قائمة على الترهيب والتخويف وعدم تكافؤ الفرص. ” لا يرى المرزوقي في الإسلام السياسي أي مؤشر على مستقبل مؤثر كما بينته ذلك الثورات العربية في نظره، ولا يملك أصحابه إلا خيار قبول الاندماج في مسار الديمقراطية والمقاومة السلمية ” ولم يتردد المرزوقي في استثناء أحد من مثقفي البلاط الجملوكي القمعي، وقال إن أمثال الراحل عبدالله عروي كثر، وكلهم لعبوا دور العميان للتغطية على نظام قمعي وإجرامي بدعوى قطع الطريق على الإسلاميين الذين حاربهم المرزوقي إيديولوجيا، لكنه اعترف بوجودهم السياسي والشعبي واختلف مع الأصوليين العلمانيين العرب الذين سكتوا على تعذيبهم مثلهم مثل نظرائهم الغربيين، وهم المثقفون الذين تناولهم المفكر الراحل الكبير ريمون أرون في كتابه الشهير “أفيون المثقفين”. وحسب المرزوقي فإن العمى الفكري طال أيضا المثقفين الإسلاميين الذين يريدون العودة إلى الماضي لحل مشكلات عويصة يفرضها العصر، وهم في ذلك يتساوون في عماهم مع المثقفين العلمانيين الذين يريدون إسقاط تجارب غربية تحمل مفاهيم لا تتطابق مع روح وتحديات العصر. وعن الإسلاميين أضاف يقول معترفا بفرضية صدمه الكثير “كل أشكال الإسلام السياسي تخدم الدكتاتوريين، لأنها مرادفة في تقديره للجمود والمراوحة، ويجد قادة القهر في الإسلاميين فرصة لتشجيع الارتماء في أحضان الدين كملجأ نفسي وحميمي ولتبرير سياسة القمع بدعوى محاربة الإرهاب”. وفي كل الحالات لا يرى المرزوقي في الإسلام السياسي “إسلام أبي”، كما أسماه، أي مؤشر على مستقبل مؤثر كما بينته ذلك الثورات العربية في نظره، ولا يملك أصحابه إلا خيار قبول الاندماج في مسار الديمقراطية والمقاومة السلمية لطرد الدكتاتوريين المؤجلين وتغيير النظام السياسي العربي بعمق. حقوقيون مع تعذيب الإسلاميين انسداد نضال المنظمات غير الحكومية ضد الأنظمة الدكتاتورية وانحرافها عن أهدافها النبيلة ووهمية المعارضة التي وصفها بالسحرية كانت كلها عناصر مباحث الفصلين الرابع والخامس من حواره الشيق والعميق مع المحلل الكبير فانسان جيسار الذي لم يجامله بالمرة بطرحه أسئلة المفكر المهني غير المهادن. صدم المرزوقي مجددا الكثير من رفقاء الدرب بقوله إن الكثير من أطباء المنظمات غير الحكومية كرسوا التعذيب وتاجروا سياسيا وشخصيا بحقوق الإنسان وحولوها إلى سوق كبيرة، وشهد المرزوقي على انقسام أعضاء رابطة حقوق الإنسان بسبب تزكية بعض مناضليها تعذيب إسلاميي النهضة في مطلع التسعينيات، وبسبب الانقسام المذكور مات عبد الرؤوف لعريبي تحت تعذيب عبد الله قلال وزير داخلية بن علي وبتواطؤ خميس شماري وخميس قصيلة اللذين راحا ضحية قناعة بن علي وأسلوبه المكيافيلي لاحقا. معارضة المرزوقي لمناضلين انتهازيين كرسوا الدكتاتورية ووقعوا في فخ جهات أجنبية مولت بعض المنظمات غير الحكومية كانت هي نفسها تقريبا معارضته لما أسماها بالمعارضة السحرية والمخملية التي تمثلت في أفراد وأحزاب مخترقة أمنية من أنظمة القهر والتنكيل والدكتاتوريين المتهاوين هذه الأيام الواحد تلو الأخر في عز كل فصول غضب وانتقام الشعوب العربية ضد سالبي مستقبلها وسعادتها. نجاعة إستراتيجية المقاومة السلمية وفي تقدير المرزوقي الرافض للتعددية الدكتاتورية الشكلية التي تعرفها أنظمة القهر، على حد تعبيره، يجب الخروج من قوقعة المعارضة الوهمية والسحرية المدجنة والخارجة من رحم السلطة العسكرية والأمنية الباغية والمنسلخة عن نبض الشارع الثوري، كما بينت ذلك الثورات العربية الزاحفة، كما أثبتت نبوءته. زبانية الأنظمة القمعية من معارضي الوهم يحتفظون بجوازات سفرهم ويأكلون من موائدها الشهية ويقبلون عدم تجاوز الخطوط الحمراء خلافا لأمثاله الراديكاليين الذين حرموا من أنشطتهم الاجتماعية والمهنية وطوردوا وأرغم عليهم المنفى، على حد تعبيره. أخيرا أكد المرزوقي أن المقاومة الشعبية السلمية والمدنية وغير النخبوية التي لم تعد تخشى الأنظمة الدكتاتورية هي الإستراتيجية الناجعة في وجه الطغاة مادامت الثورات العربية قد أكدت سلامة هذا المنهج الغالي الثمن. ” مستقبل العلاقة السليمة الذي سيحكم العالم العربي بالغرب سيتم في نظره عبر محاورة ممثلي المجتمعات المدنية العربية الجديدة بمن فيهم أولئك الذين بإمكانهم الوصول إلى السلطة من الإسلاميين المعتدلين المؤمنين بالتداول السياسي ” أخيرا بعث المرزوقي في الفصل السادس بعدة رسائل للعالمين العربي والغربي، داعيا الأول إلى إنهاء سياسة دعم أنظمة الدكتاتوريين الذين يدفعون بالشباب إلى الموت غرقا في البحر بحثا عن مخرج لمآسيهم والكف عن المتاجرة الرخيصة بمبرر محاربة الإرهاب الإسلامي والتسليم بالواقع الثوري العربي الجديد الذي فهمته الولايات المتحدة الأميركية قبل فرنسا باستثمارها في ما أسماها بقوى المجتمع المدني الصاعدة في المغرب العربي في ظل مراعاة مصالحها المعروفة. مستقبل العلاقة السليمة الذي سيحكم العالم العربي بالغرب سيتم في نظره عبر محاورة ممثلي المجتمعات المدنية العربية الجديدة، بمن فيهم أولئك الذين بإمكانهم الوصول إلى السلطة من الإسلاميين المعتدلين المؤمنين بالتداول السياسي واعتراف العالم الغربي بدولة فلسطينية مستقلة تتخذ القدس الشرقية عاصمة لها. ولا يتم ذلك في تقدير المرزوقي إلا عبر وحدة عربية ديمقراطية على الطراز الأوروبي، وهو ما يعطي قوة جديدة للعرب في التعامل مع إسرائيل وإيران وتركيا وبناء الاتحاد المتوسطي بعد انتشار الديمقراطية في كل البلدان العربية المعنية، وزوال حكم الأنظمة الدكتاتورية الذي بات مسألة وقت، وعدم الوقوع في فخ التهميش الآلي لكل الذين عملوا في ظله من المسؤولين والأشخاص الذين لم يتورطوا في سفك دماء الشعب، واقتراح صيغة الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية على طريقة جنوب أفريقيا وعدم الانتقام بصفة عمياء من كل الذين عملوا في المرحلة السابقة لا يتناقض في تقديره مع حتمية القطيعة ودليل نضج الديمقراطية وقلب منطق الدكتاتورتيين المتجهين نحو الانقراض.(المصدر: موقع الجزيرة.نت (الدوحة – قطر) بتاريخ 6 نوفمبر2011)
بوعلام رمضاني