أمام المجلس التأسيسي
خطاب عيد الجمهورية
الاربعاء 25 تموز (يوليو) 2012
السيد رئيس المجلس الوطني التأسيسي السيد رئيس الحكومة ، السادة الوزراء حضرات السادة والسيدات ممثلي الشعب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لقد جادت علينا الثورة المجيدة بثلاث نعم
الأولى هي إكمال الاستقلال
فالثورة التي ابهرت العالم وكانت نقطة انطلاق الربيع العربي لا تدين بنجاحها إلا لأبنائها وبناتها ،حتى وإن كنا نقرّ بأيادي احرار العالم علينا. ولأننا لا ندين بثورتنا لأحد غير شعبنا ، ولأن هذا الشعب وحده مصدر سلطتنا كلنا هنا، فلا أحد يملي علينا إرادته . بهذا تكون الثورة حققت اقصى ما يطمح له شعب وهو أن يكون سيد قراره في وطنه .
النعمة الثانية هي الديمقراطية
أثبتنا للجميع وخاصة لأنفسنا أننا نستطيع كأفراد الوقوف ساعات طويلة في انضباط تام للإدلاء بأصواتنا …أننا نستطيع كدولة تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في أفضل الظروف …أن يكون لنا مثل هذا المجلس الموقّر ….أننا نستطيع كسلطة ومعارضة أن نبني معا نظاما سياسيا جديدا يقوم على تنافس الأفكار والقيم لا على التزييف والقمع .
النعمة الثالثة هي الجمهورية
الجمهورية تعني تحديدا حكم الجماهير أي سيادة الشعب
مما يعني أنه لا وجود للجمهورية دون الديمقراطية ….حتى وإن وجدت الديمقراطية في غير النظام الجمهوري. ففي الملكيات الدستورية هناك حريات فردية وجماعية وهناك مساواة أمام القانون ، لكنها مساواة دوما منقوصة وأعلى منصب في الدولة وقف على مواطن من دون ملايين الآخرين بل ولمدى الحياة وينتقل بعده إلى وريث يختاره هو لا الشعب.
هذا ما يجعل الجمهورية ، وهي تذهب بمبدأ المساواة إلى أبعد الحدود، الشكل الأكثر راديكالية للديمقراطية . هذه الجمهورية لا تكون إذن إلا بشعب سيد يختار حكامه سلميا وحريات فردية وجماعية وقانون يعلو على الجميع ومساواة تامة بين المواطنين تذهب إلى حدّ إعطاء أي مواطن الحق في الترشّح إلى أعلى منصب في الدولة وهو في مأمن من الملاحقة والعقاب.
هل عرفنا كل هذا أو حتى شيء منه طيلة العقود التي انقضت منذ الاستقلال ؟
ما عرفناه إلى حين اندلاع الثورة المباركة… شعب مكبّل بكل القيود ….حريات موجودة على الورق … علوية الإرادة الشخصية على القانون ….رئيس مزمن ومؤبد لا يقبل الرحيل ولا التداول و مشروع الأعلى الموت في الكرسي وتوريثه للصهر أو حتى للحرم المصون. ها هي الثورة المجيدة تبعث الموؤدة من قبرها لا نكاد نصدّق أن حديث الساعة كان لثلاث سنوات خلت….التمديد والتوريث.
أيها الاخوة والأحوات
نعم لقد أهدتنا الثورة الاستقلال والديمقراطية والجمهورية لكن لا الاستقلال ولا الديمقراطية ولا الجمهورية مكتسبات كاملة ومضمونة الدوام مسؤوليتنا جميعا أن نحافظ على استقلالنا الفتي . السؤال كيف يمكن هذا في عالم يحكمه صراع القوى ولا قدرة لأحد أو لبلد مهما كانت قوته التصرف كما يريد .
إن الممارسة الوحيدة الممكنة للاستقلال اليوم هي الدفاع عن مصالحنا من موقع الشريك لا من موقع التابع ، أن نؤثر في الآخرين بقدر ما نتأثر بهم ، أن يكون التبادل الضروري مبنيا على الندية والاحترام المتبادل.
من هذا المنظار لا تستطيع تونس المحافظة على استقلالها إلا وهي تضمّ قوتها وإرادتها إلى قوة وإرادة أشقائها في صلب اتحاد مغاربي سيزيد كل المغاربيين قدرة على التفاوض لحماية المصالح المشتركة .
إن استقلالنا سيزيد بوحدتنا مع أشقائنا المغاربيين والعرب وسينقص بانكفائنا على أنفسنا حيث تتقلص قدرتنا الفعلية على مواجهة الضغوطات الهائلة لموازين القوى المحلية والدولية وأغلبها ليست في صالحنا.
مسؤوليتنا جميعا أيضا أن نحمي ديمقراطيتنا الغضة .
إن الديمقراطية في شكلها السياسي لا تبنى فقط من فوق عبر مؤسسة كهذا المجلس الموقّر . حتى ترمي جذورها عميقا في المجتمع يجب أن تكون أيضا قاعدية وذلك عبر وجود مجتمع مدني قوي من جهة ، ومن جهة أخرى عبر وجود مؤسسات محلية تمكّن المواطنين من المشاركة في أخذ القرار وتنفيذه وتقييمه مثل البلديات والمجالس الجهوية. إن حالة التسيب التي نشهدها في مستوى النظافة والخدمات في الكثير من قرانا ومدننا هي نتيجة التأخير في إنجاز هذه الديمقراطية القاعدية الضرورية. لذلك يتطلب الواجب حال وضع الدستور وتنظيم الانتخابات في وقتها أي ربيع 2013 على أقصى تقدير كما وعدنا الشعب، أن نسارع بتنظيم الانتخابات البلدية حيث كل تأخير فيها إهدار لطاقات نحن بأمس الحاجة إليها لبناء الصرح المشترك. ويبقى أن حتى هذه المؤسسات السياسية القاعدية ليست كافية. ما قيمة ديمقراطية لا تطعم جائعا ولا تكسي عاريا ولا توفر كرامة أولى شروطها المسكن اللائق والعمل والتعليم والصحة ؟
إذا لم تكن الديمقراطية السياسية أداة لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية فلا خير يرجى منها إلا للذين ضمنوا حقوقهم الاقتصادية ويريدون توسيع مجال رفاهتهم بالحريات دون الانتباه إلى أن بقية الشعب ما زالت لم تحقق حاجياتها الأساسية .
هذه مهمة الدولة العادلة التي تهيئون أسسها اليوم بعملكم في هذا المجلس الموقر. لن يرضى الشعب الذي انتخبكم بديمقراطية شكلية، وقد يضطر للثورة من جديد علينا جميعا إذا لم نحقق له ما يريده فعلا: التنمية للقضاء على الفقر والخصاصة والتهميش.
أخيرا لا آخرا مسؤوليتنا جميعا الحفاظ على جمهوريتنا الوليدة. إننا ننحني تقديرا لتضحيات الجيل المؤسس للدولة ، ولكننا نعتقد راسخ الاعتقاد، ومن خلال التجربة، أن آباءنا وإخواننا من ذلك الجيل لم ينجحوا في وقاية التونسيين والتونسيات من الاستبداد. فالنظام البرلماني الذي سنّه المجلس القومي التأسيسي انقلب سريعا إلى نظام استبدادي نتيجة تضافر عاملي نزعة الهيمنة عند الشخص وتغوّل حزب أغلبي . لم تكن تجربة النظام الذي تلاه أحسن حالا والنظام الرئاسي على الورق يصبح نظاما رئاسويا عمّق التوجه الاستبدادي الذي انطلق منذ وضع أسس الدولة. إذا كان هناك هاجس يجب أن يكون حاضرا عند صياغة الدستور وعند مناقشته وعند الاستفتاء عليه إذا اقتضت الحاجة ، فهو حمايتنا وحماية الأجيال المقبلة من عودة الاستبداد البغيض باستقراره الذي يشبه استقرار المقابر والسجون والمستنقعات ، بقمعه ، بفساده ، بتزييفه ، بانتهاكه لكرامة الفرد والمجموعة.
إن جذور الاستبداد عميقة فينا . هي ثقافية ونفسية وكم صدق أبو الطيب في قوله
والظلم في شيم النفوس……. فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
لحماية أنفسنا من أنفسنا ومن بعضنا البعض من هذا الظلم المتأصل في نفوسنا جميعا، لا بدّ أن ينجح الدستور في توزيع محكم للسلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة حتى لا يستفرد شخص أيا كان بسلطة القرار , لا بدّ من قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية ، لا بدّ من محكمة دستورية لها سلطة فعلية تجعلها ذات مخالب وأنياب وبالطبع لا بدّ من مجلس شعب يشرع للقوانين التي يجب أن يخضع لها الجميع . لا بدّ أيضا من مؤسسات عليا للإعلام والانتخابات ومحاربة الفساد تتمتع بأقصى قدر ممكن من الاستقلالية والمهنية.
ايها الأخوة والأخوات
إننا إذ نحي الجيش والأمن وكل أجهزة الدولة التي تتحمل بجدارة مسؤولياتها نذكّر أنكم لا تكتبون دستورا للانتخابات المقبلة وإنما لكل الانتخابات التي ستأتي ، انتم لا تكتبون دستورا لمصلحة أشخاص وإنما لمصلحة شعب بأكمله اصبح قبلة الأنظار وهو يضع أسس أول ديمقراطية في الوطن العربي. اخواني أخواتي اسمحوا لي من هذا المنبر باسم كل التونسيين والتونسيات تهنئة أشقائنا في ليبيا بنجاح انتخاباتهم وكلي ثقة أنهم سينجحون أيضا في رفع صرح الجمهورية . أريد كذلك أن أهنئ الشعب المصري الشقيق بنجاحه ،رغم كل الصعوبات، في التقدم بخطى ثابتة نحو تحقيق أهداف ثورة 25 يناير. أريد ايضا أن أترحم على أرواح كل شهداء ثورتنا العربية المجيدة وخاصة في سوريا التي نعايش يوميا محنتها نتألم ونحزن ونغضب لما يجري فيها ولا نقدر على شيء.
إذ أدعو الله أن تتوقف محنة أهلنا في سوريا في أقرب الأوقات فإنني أدعو التونسيين والتونسيات الذين أبهروا العالم بتضامنهم العفوي مع أشقائهم في ليبيا ألا ينسوا اشقائهم في سوريا وهم اليوم بأمس الحاجة للإعانة . إنه من الضروري لشرف تونس أن تتجنّد قوى المجتمع المدني لتقديم كل الممكن من الإغاثة كما يجب على الدولة أن تضطلع بمسؤوليتها تجاه الكارثة الإنسانية التي تعيشها سوريا .
وفي هذا الصدد فإن رئاسة الجمهورية بصدد البحث مع وزارتي الصحة والدفاع عن أفضل السبل لإيصال قدر من المعونة الطبية إلى من هم بأمس الحاجة إليها .
إخواني أخواتي
إن ثمن الحرية دوما ثمن باهظ والدم الذي أريق ليرويها يحملنا مسؤولية عظمى مسؤولية الحفاظ على الاستقلال وتعهّد الديمقراطية السياسية والاجتماعية وبناء النظام الجمهوري على أمتن الأسس. قناعتي أن مجلسكم الموقّر وكل قوى الخير في بلادنا ستنجح بإذن الله في رفع تحديات هذه الفترة العصيبة ،الحساسة ، المليئة أيضا بالوعود والتي حصل لنا جميعا شرف معايشتها. قناعتي سيأتي يوم يفاخر بنا أحفادنا كما نفاخر نحن بآبائنا وأجدادنا لأننا لم نخن الأمانة وكنا على مستوى المسؤولية التي حملنا إياها التاريخ .
تحيا تونس