خطاب الدورة 68 للجمعية العامة للأمم المتحدة – 26 سبتمبر 2013
الاحد 29 أيلول (سبتمبر) 2013
عرض مباشر : الرابط
خطاب الدكتور محمد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية التونسية الدورة 68 للجمعية العامة للأمم المتحدة – نيويورك
السيد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السيد الأمين العام للأمم المتحدة، السيدات والسادة ممثلي شعوب ودول العالم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من بلدي تونس باسم الشعب التونسي أتوجه إليكم جميعا وإلى الشعوب التي تمثلون بأسمى عبارات التحية والتقدير. كان لتونس كما تعلمون شرفُ افتتاح ما سُمّي بالربيع العربي ومنها كان انطلاق هذه الثورات السلمية التي قامت بها شعوب عربية بغية التخلّص من دكتاتوريات فاسدة أعاقت تقدمها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفرضت بالحديد والنار أنظمة عاشت على الفساد وجرّفت كل القيم النبيلة التي يقوم عليها العُمران البشري.
إنّ ما تشهده اليوم بعضُ بلدان الربيع العربي يدفع إلى الاعتقاد بأنّ مشروع التحرّر من الاستبداد قد فشل، وأنّ الحلم انقلب إلى كابوس.
إنّ ما يجب أن نتذكره هو أنّ هذا الربيع العربي ليس حالة نهائية نحققها بين عشية وضحاها وإنّما هو مسار تحرّر قد انطلق ومشروعٌ متواصلٌ مداه أفقُ مستقبلٍ بعيد.
إنّ ما يجب أن نأخذَه في الاعتبار هو عاملُ الزمان. فالشعوب بحاجة إلى عدة عقود للحكم على ثوراتها بالنّجاح أو الفشل. إن ما يجب أن نقبل به هو أن الربيع العربي مثلُ كلِّ المشاريعِ البشريةِ معرّض للتعثر، ومهدّد بالتوقف وحتّى بالنكوص على الأعقاب.
لكن ما يُمليه علينا الواجب هو أنْ يتواصل منكمُ الإصرارُ على دعم هذا المسار وأن تتجدّد منّا العزيمةُ على النّهوض بعد كلّ عثرة.
من هذا المنظار نحن نعتقد أنّ ما تعرفه بلدانُ الربيع العربي من صعوبات في بناء الديمقراطية مرحلة طبيعية وستمر.
تيقنوا من أن شعوبنا لن تسمح أبدا بالعودة إلى الأنظمة التي كبّلتها تيقنوا من أننا سنقاوم التطرف الذي يريد لنا استبدادا يتستر بالدين نستبدل استبدادا يتستر بالوطنية أوبالقومية. نعم إنّ صعوبات الربيع العربي تشهد على شراسة قوى اجتماعية تحاول الشدّ إلى الوراء وأخرى أيديولوجية بدائلها دواء أمرّ من الداء.
و لا يزال أمام تأسيس الديمقراطية وبناء دول مدنية كثير من الصعوبات في كل بلدان الربيع العربي من هذا المنبر الموقر أريد أن اتوجه إلى السلطات القائمة في مصر أن تطلق سراح الرئيس محمد مرسي وكلّ المساجين السياسيين. فمثل هذه المبادرة الجريئة قادرة وحدها على خفض الاحتقان السياسي ووقف مسلسل العنف وعودة كلّ الأطراف الى الحوار باعتباره الوسيلةَ الوحيدة لحلّ المشاكل الصعبة التي تفرضها المراحل الانتقالية.
كما أرجو أن ترفع كل التضييقات عن حركة الأشخاص والبضائع التي تخنق غزة. يكفي ما تعانيه هذه الجهة المناضلة ويكفي ما يعانيه الشعب الفلسطيني من الإحتلال والاستيطان الاسرائيلي.
أما في تونس فإن بلدنا يواجه ثلاث تحدّيات :
التحدي الأول : الإرهاب الذي استطاع، عبر اغتيال الشهيدين شكري بلعيد في 6 فيفري ومحمد البراهمي في 25 جويلية المنصرم، أن يبث بلبلة سياسية كان من نتائجها إيقافُ مسار المجلس التأسيسي.
التحدي الثاني : تباطؤ الاستثمار الداخلي والخارجي ممّا يزيد في صعوباتنا الاقتصادية
التحدي الثالث : تعلّم ممارسة الديمقراطية في الوقت الذي نبنيها فيه والدفاع عنها وهي لم تتجذّر بعد في التقاليد السياسية والاجتماعية وفي الثقافة العامة
ما أستطيع أنْ أؤكده هو أن تونس تتوفرّ على كثير من عوامل النجاح .
تونس تتميّز أيضا بطبقة سياسية واعية مسؤولة لم يتوقف الحوار بينها
تونس لها جيش منضبط ومهني وحامٍ للشرعية
تونس لها شعب واعي ومسالم ويعرف أين تكمن مصلحته
هذا يجعلني متفائلا وقادرا على طمأنتكم بأن الربيع العربي سيتواصل في تونس وسينجح وأنناً سنعيّن تاريخَ الانتخابات وسنتفق على حكومة تضمن نزاهتَها. وسندعو للإشراف عليها الأممَ المتحدة والاتحادَ الافريقي والجامعةَ العربية وكلَّ منظمات المجتمع المدني والدولي والمحلّي وستجري هذه الانتخابات ـ إن شاء الله ـ في الربيع المقبل، حتى وإن كنّا ندرك أن قوى الارهاب والفوضى ستسعى جاهدة إلى تأخيرها بكل الوسائل.
لقد قلتُ أريد أن أطمئنكم لأنني على أشدّ الوعي أنّ تونس لا تَبني لنفسها وانما نجرّب لأنفسنا ولكلّ العالم. نجرّب كيف يمكن للثورة أن تكون سلمية
نجرب كيف يمكن أن تلعب العدالة الانتقالية دورا في تخفيض تكلفة المراحل الانتقالية نحن نريد أيضاً توسيع مفهوم الديمقراطية لكي لا يتوقف على حق الذين فازوا ب51 في المائة من الأصوات في الحكم ويَتجاهل الذين حصلوا على 49 في المائة
نحن نجرّب حكومات ائتلافية تأخذ بعين الاعتبار تعددية المجتمع، نحن على وعي تامّ بأننا نتعلم من بعضنا البعض ونجرب لبعضنا البعض ونجاحنا كفشلنا أمران لهما تبعات تتجاوز حدودنا، ومن ثَمّ أهمية التضامن بين الشعوب من أجل انجاح هذه التجربة الفريدة
أيها السيدات والسادة،
إن الربيع العربي يعرف اليوم ذروة مأساته في سوريا أين ووجهت المظاهرات السلمية كالتي انطلقت في تونس بعنف أذهلنا جميعا لشدته منذ البداية ورأيناه يتصاعد يوما بعد يوم ليصل إلى درجة من الوحشية لم يعرفها تاريخ البشر على فظاعة وهول ما شهده من مآس.
لقد أخذنا في تونس موقفا حازما من الدكتاتورية في سوريا بدعم كفاح الشعب السوري وطرد سفير النظام الحاكم في دمشق. وكنّا حذرنا، منذ البداية، من عسكرة الثورة واتباعها نهجا طائفيا، ومن مخاطر التدخّل الخارجي سواء كان من قبل دول أو مجموعات تسمّي نفسها بالجهادية، ومنها جماعات تونسية نعرف أنها ستشكل خطرا على بلادنا عند رجوعها من هذا البلد المنكوب.
لقد نادينا دوما بحلّ سلمي وذهبنا إلى حدّ القول: إنّ الحياة أهم من العدل. وإنه إذا تطلّب الأمر ضمان عدم ملاحقة أباطرة النظام السوري إذا ما رحلوا فإن علينا القبول بالأمر رغم مرارته، غير أنّنا شاهدنا أعمق مخاوفنا تصبح حقيقة. ونحن لا نزال نعايش هذا الكابوس الذي يربض على صدر الشعب السوري البطل وفوق ضمائرنا جميعا ونحن نرى هذه الطفرة من الوحشية والهمجية ولا نقدر شيئا على دفعها.
طبعا تونس مع حل سياسي يوقف هذا الكابوس، لكنّها تريد منكم دعم مبادرتها لبعث مشروع المحكمة الدستورية الدولية. إنّ مثل هذه المحكمة سيكون إضافة هامة إلى القانون الدولي تُسْهم في حماية الشعوب من شرّ الدكتاتوريات ومنها هذه الدكتاتورية السورية بالضبط التي تعطي أبشع مثال على ما يمكن أن يصل له نظام تحرر من كل قيود الأخلاق
فنحن على أتم الثقة أنه لو كانت هذه المحكمة موجودة ما كان للنّظام السوري أن يحوّل بيُسر الرّئاسة إلى وراثةٍ وأن يحصر، دون عناء، الترشّح لرئاسة الجمهوريّة في الحزب الحاكم. وما كان ليجرؤ على أن يجعل في تشريعاته الحكم بالإعدام على من انتمى إلى أحزاب سياسيّة اعتبرت معادية للنّظام
تصوروا لو اصدرت هذه المحكمة لو كانت موجودة حكما ببطلان الإجراء لأنه مخالف لحق الشعوب في إختيار من يحكمها، تصوروا لو عرض عليها الدستور السوري من قبل هذه المهزلة لتعلن بطلانه وبطلان كل مواده المخالفة لروح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،
ترى هل كنا نصل بعد ثلاث عشرة سنة إلى المأساة والكابوس الذي يعيشه اليوم الشعب السوري وهو يدفع مائة ألف قتيل وسبعة ملايين نازحا ثمنا لبقاء نظام لا يتورع عن قتل النساء والأطفال بما أتيح له من الأسلحة و حتى الغزات السامة؟ هل كنا نرى تواصل حكم شخص وصل الحكم بالقوة والتزييف وبقي فيه إلى اليوم بالحرب الأهلية الطاحنة التي فاقت في القسوة والإجرام كل ما شهدته المنطقة منذ قرون؟
نعم يجب ألا نواجه كبار المجرمين فقط بالمحكمة الجنائية الدولية ليدفعوا ثمن جرائمهم فالعقاب المتأخر لا يعوض حياة الملايين. يجب أن نضع في وجههم مؤسسات وقائية تكسر مشروعهم الاستبدادي منذ انطلاقه وتساهم في تقصير عمر وجودهم في الحكم فمثل هذه الأنظمة لا تستطيع أن تصمد طويلا أمام المعارضة الديمقراطية الداخلية وعدم الاعتراف الدولي. لكل هذه الأسباب تطلب تونس من كل الدول الديمقراطية التي تدرك أهمية مواصلة بناء مؤسسات مشتركة ضد الأنظمة الدكتاتورية أن تساند هذا المشروع. وتونس على يقين من أنّ مشروع إحداث المحكمة الدستوريّة مقترحٌ يُعبّر عن روح جديدة يحتاجها المجتمع الدولي.
أيها السيدات والسادة،
نحن نتتابع على هَذا المكان المهيب الذي تجتمع فيه كل أمم الانسانية لنستعرض مشاكل أغلبها عبثية وآلام شعوب جلها كانت قابلة للتفادي لو كنا نطبق شعار “فكر عالميا واعمل محليا”، اسمحوا لي هنا أن أذكّر باعتباري طبيبا أن أغلب انتصاراتنا ضد الآفات التي عصفت بالإنسانية كانت بسبب تقنيات وحملات الوقاية وأن الأمر لا يختلف في مواجهة آفة الدكتاتورية وآفة التعيير المناخي وآفة تفاقم الفقر داخل الشعوب وبينها . فعوض أن نقضي العمر في الجري لعلاج الأمراض التي نتسبب فيها من الأجدى أن تكون لنا سياسيات تقي البشرية من الآلام العبثية.
إننا لنرجو من الله أن يكون امامنا ما يكفي من الوقت للإسراع بإنضاج مثل هذا التوجه قبل فوات الاوان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خطاب الامم المتحدة، نيويورك في 26 سبتمبر 2013