في المجلس التأسيسي
خطاب الاحتفال بسنة على انتخابات 23 أكتوبر
الثلثاء 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2012
السيد رئيس المجلس التأسيسي السيد رئيس الحكومة ، السيدات والسادة الوزراء السادة والسيدات أعضاء المجلس، حضرات الضيوف الكرام،
في مثل هذا اليوم من السنة الفارطة تمكّن التونسيون والتونسيات لأول مرة من تحقيق المشروع الذي سقط من أجله شهداء 9 أفريل وبعدهم كل الشهداء الذين تعاقبوا على مرّ العقود لكي يكون الشعب التونسي سيد نفسه قولا وفعلا. في ذلك اليوم العظيم كذّبنا دعاة العنصرية المتشدقين بعدم قابليتنا نحن العرب والمسلمين للديمقراطية وكذّبنا أبواق الدكتاتورية المنهارة التي كانت تتشدق بعدم نضجنا لها.
في ذلك اليوم العظيم شاهدنا التونسيين والتونسيات ينتظرون الساعات الطويلة، وبكل انضباط، دورهم للإدلاء بصوتهم بكل حرية. دخلنا يومها بحق عصرا جديدا من تاريخنا.
في هذه التجربة الأولى، والامتحان الأول، لم نر فقط نجاح الشعب وهو يتوّج ثورته السلمية بهذه الانتخابات التي أثارت إعجاب العالم وإنما رأينا نجاح الدولة عبر الأداء الرائع للجيش والأمن والإدارة وخاصة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. يبقى أننا لم نقطع من المسار الطويل إلا أولى خطواته، ذلك أن الأهداف التي قامت من أجلها الثورة – مع تكلفتها من الشهداء ومن الجرحى – ما زالت بعيدة المنال.
وإنه إن كان من الظلم مطالبة حكومة في بضعة أشهر بحل مشاكل تراكمت طيلة نصف قرن، فإنه من الواضح أيضا أن الوضع الحالي غير مرضي تماما. لقد عملت الحكومة طيلة عشرة أشهر في أصعب الظروف وأعقدها بالفعل، وهي لا تتحمل بمفردها نقائص الوضع الحالي وتعقيداته، فكلنا ودون استثناء نتحمل قسطا من المسؤولية. وبينما ينظر إلينا العالم وإلى قدرتنا على المحافظة على وحدتنا وتجاوز أصعب الأزمات بإعجاب شديد، شاهدنا ظهور مناخ فتنة عاد يتحكم فيه التشكيك والخوف وانعدام الثقة بيننا، وهي الآفات التي كان قد زرعها فينا النظام البائد. لكن الأخطر من كل ذلك هو عودة شبح الاستقطاب الثنائي بكل ما يمكن أن يحمله من مخاطر قد تعصف بكل إنجازاتنا. ومن ثمة فإن السؤال الوحيد الذي يجب أن يطرحه كل منا على نفسه انطلاقا من نفس الحب لتونس ونفس السعي لخدمتها هو التالي:
ماذا يجب أن نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟ ما الذي يفرضه علينا الوضع ؟
لقد كان مستحيلا على هذا المجلس الموقّر-الممثل الشرعي والوحيد للإرادة الشعبية- أن يكتب دستورا يحظى بالتوافق في ظرف سنة واحدة، خاصة وأنه كان في الوقت نفسه يراقب عمل الحكومة ويقوم بالتشريع لدولة لا تتوقف دواليبها عن العمل. إلا أنه لا أصعب ولا أخطر على شعب وعلى دولة من المراحل الانتقالية فلا الاستقرار السياسي والأمني ولا الاستثمار ممكنان في ظل وضع انتقالي.
ثمة أيضا العنصر الخارجي ألا وهو تلبّد السحب جنوبا فوق الصحراء وبالوضع المتزايد تأزما في الشرق الأدنى والأوسط وبحكم الأزمة الاقتصادية لشريكنا الأول الاتحاد الأوروبي شمالا. كل هذه المخاطر الأمنية والاقتصادية تتطلب منا الإسراع في تأسيس الوضع المستقر لمؤسسات الدولة حتى تستعد تونس في أحسن الظروف لا فقط لمواجهة العواصف المرتقبة ولكن للخروج منها بأقل ضرر ممكن ومتابعة مسيرتها بأكبر ضمانات النجاح.
إن مصلحة الوطن تطلب منكم تكثيف المشاورات الجانبية بين كل القوى السياسية الممثلة في هذا المجلس حتى الغائب منها تطلب منكم أن تصلوا إلى أوسع وفاق ممكن…تطلب منكم أن تسرّعوا بإنشاء وتفعيل المؤسسات المستقلة الثلاث أي الانتخابات والقضاء والإعلام … تطلب منكم أن تبلوروا بالتراضي القانون الانتخابي المنظم لانتخابات رئاسية وتشريعية قبل دخول الصيف … تطلب منكم خاصة أن تقدموا أجمل هدية لشعبنا بمناسبة الذكرى الثانية لثورته المجيدة … دستورا لدولة مدنية ومجتمع تعددي ونظام سياسي يقي بلدنا عودة الاستبداد سواء كان استبداد شخص أو استبداد حزب… دستورا للأجيال وسيبقى للانتخابات المقبلة.
إن التوافق الذي حصل داخل الترويكا وفي جزء كبير بين مختلف الأحزاب على تباعدها، دليل على حيوية طبقتنا السياسية ونضجها. لقد تنفس الشعب الصعداء عندما رأى قدرتنا على الوصول إلى صيغة وفاقية حول النظام السياسي والمؤسسات الثلاثة المستقلة (القضاء والإعلام والانتخابات) يبقى الآن استكمال بقية الشوط بأسرع ما يمكن بالتأليف بين مبادرة الترويكا ومبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل وبقية قوى المجتمع المدني .
يعرف الشعب أنكم لم تدخروا جهدا في أصعب الظروف لإتمام المهام الجسيمة الملقاة على عاتقكم لكن ضغط الظروف الموضوعية يجبرنا جميعا على المزيد من هذا الجهد.
ثمة بالطبع مسؤولية بقية الأطراف .
ماذا يجب أن نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟ ماذا يتطلب الظرف؟
إن مصلحة الوطن تقتضي في هذا الظرف الدقيق إعلان وقف إطلاق النار الإعلامية بين الأطراف السياسية فالتخوين والشيطنة – لأي طرف كان – والتحريض والقدح في الأشخاص أكبر عوامل الاحتقان في بلدنا اليوم. وبالرغم من أن السجال السياسي إذا بقي في حدود معقولة هو جزء من اللعبة الديمقراطية، إلا أن تجاوز تلك الحدود قد يجعله مدخلا للعنف الجسدي. إن حادثة تطاوين وغيرها من الأحداث التي أريق فيها الدم التونسي بأيادي تونسية، يجب أن تعلمنا عند أية حدود نتوقف جميعا، وهي درس لا ينبغي أن نسقط فيه مجددا وأن نحتاط لعدم تكراره مهما كانت الدواعي والتبريرات.
يجب رفض تقسيم التونسيين لأخيار وأشرار، لمفسدين ولمصلحين، لثوريين ولرجعيين، لعلمانيين وإسلاميين، لحداثيين وسلفيين أي في آخر المطاف لتونسيين من درجة أولى ودرجة ثانية. كلنا أبناء هذا الشعب. يجب أن يكون واضحا للجميع اننا لا نبني شيئا على الحقد والضغينة والشك المتواصل، وأن الوحدة الوطنية هي مكسبنا الرئيسي الذي يجب أن نحافظ عليه بكل قوانا .
ماذا يجب أن نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟
تفعيل الحكومة لفرض القانون وحماية المجتمع من التطرف والعنف …. دفع عجلة التنمية بأسرع نسق ممكن….حلّ مشكلة رجال الأعمال العالقين …حلّ مشكلة الجرحى والشهداء والتسريع في العدالة الانتقالية.
لا يجب أن يغيب عنا لحظة أن كل تأخير في مشاريع التنمية خاصة في المناطق التي انطلقت منها الثورة هو وقت ضائع وطاقة مهدورة وآلام إنسانية لا يعلم عمقها ووجعها إلا من يكتوون بها .
اسمحوا لي هنا أن أضيف أن الشراكة في السياسة كالشراكة في الأعمال : نزيهة أو لا تكون والقاعدة بالنسبة لي كانت وستبقى ’’ داخل في الربح داخل في الخسارة ’’ ومن ثمة فدعمي متواصل للحكومة وأعتبر نفسي شريكا في كل ما حققته هذه الحكومة وما لم تحققه. لكن الصديق من يصدقك، لذلك أقول إن مصلحة تونس ومصلحة الدولة وحتى مصلحة التحالف الثلاثي تقتضي في الفترة المقبلة صدمة ايجابية وانطلاقة الجديدة .
ماذا يجب أن نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟
في هذا الظرف الدقيق التي بدأ فيها اقتصادنا يخرج من منطقة الخطر ويدخل في النقاهة وذلك عبر عودة الاستثمار الخارجي والسياحة وليس فقط نتيجة الغيث النافع، واجب القوى الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل – الذي نحيي الدور الذي لعبه مؤخرا في دفع الحوار الوطني – هو إعطاء الوقت للوقت لتعود الآلة الاقتصادية للدوران وآنذاك ستكبر الكعكة ونجد ما نقتسم أما أن نطالب باقتسام كعكة هزيلة مانعين تطورها فهذه سياسة قد تعود علينا جميعا بالوبال.
ماذا يجب أن نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟
الدولة مدينة للثورة ولكن الثورة دون دولة تتحول إلى فوضى. وإن كنت متفهما لطموحات شباب الثورة ومتعاطفا معها ومعهم كل التعاطف، فإن تطبيق القانون يجب أن يبقى بيد المؤسسات الشرعية التي انبثقت عن انتخابات 23 أكتوبر، ولا دفاع عن تلك الطموحات إلا بالوسائل السلمية والشرعية.
إخواني أخواتي،
يوم نرقى جميعا ودون استثناء لمستوى المسؤولية التي أناطها الشعب بعهدتنا فإننا … سنهدي شعبنا دستوره ودستور الأجيال المقبلة في العيد الثاني للثورة … سننظم انتخابات حرة ونزيهة قبل الصيف لتشكل نصرنا الثاني بعد نصر 23 أكتوبر … سنعدّ العدّة لانطلاق الإصلاحات الضرورية الكفيلة بتحقيق أهداف الثورة… سنبني نظاما سياسيا صلبا يقينا من الفوضى ومن الاستبداد … سنجعل من بلدنا عنصرا نشيطا وفعالا في بناء صرح الاتحاد المغاربي وبعده الاتحاد العربي … سنجعل من تونس مخبرا ناجحا للديمقراطية التشاركية والاقتصاد الاجتماعي التكافلي … سنخرج مليوني تونسية وتونسية من لعنة الفقر في ظرف خمس سنوات … سنضمن للتونسيين الحفاظ على نمط العيش الذي ارتضوه كشعب منفتح على كل أشكال الحداثة ومتجذّر في هويته العربية الإسلامية… سنضمن تعايشا ناجحا بين جزئي المجتمع لا قطع مع أي منهما إلا وكان كقطع المرء لذراعه الأيمن أو لذراعه الأيسر والادعاء بأن هذا هو المطلوب لقدرة الفعل والعيش…
اخواني اخواتي
أمام هذا الكم الهائل من سنفعل وسنفعل …لمن سيواجهونا بالسخرية والتشكيك والتذكير بأن نيل المطالب لا يكون بالتمني، أقول حقا تؤخذ الدنيا غلابا وقد أخذناها بثورتنا غلابا بل وسنواصل العمل ببقية القصيدة العصماء لأمير الشعراء أحمد شوقي لن يستعصي علينا منال وسيكون الأقدام لنا ركابا.
لو تحملنا هذه المسؤولية التي ناءت بحملها الجبال وقبلها الإنسان ووضعنا نصب أعيننا أنه لا فضل لتونسي على تونسي إلا بما يتحلى به من مسؤولية، فسنقول لأنفسنا يوم نخرج نهائيا من هذه الدنيا : حصل لنا شرف معايشة منعطف في تاريخ الشعب والأمة والعالم وساهمنا في وضعه على المسار الصحيح .اللهم لقد أوفيت برسالتي وتحملت مسؤوليتي كاملة والباقي في ذمة أحسن خلف لأحسن سلف. نعم سيحق لنا أن نرحل عن هذا العالم ونحن على ثقة أننا نحن الذين يفاخرون عن حق بآبائهم وأجدادهم…. سنكون الآباء والأجداد الذين سيفاخر بهم الأبناء والأحفاد
أيها الإخوة والأخوات،
ضروري أن نتذكّر مسؤوليتنا والأهم أن نتذكّر أمام من نحن مسؤولون.
نحن مسؤولون أمام هذا الشعب الذي وضع مصيره بين ايدينا والذي يتابع ما نفعل ونقول تارة بأمل وتارة بخيبة أمل، تارة بإعجاب تارة وباستهجان، تارة بصبر تارة بنفاذ صبر.
نحن مسؤولون أمام العالم أجمع الذي يتابع تجربتنا بكثير من التفهّم والدعم والذي لا يجب أن نخيب ظنه فينا.
نحن مسؤولون أمام أمتنا التي هي بأمس الحاجة لنجاح التجربة التونسية حتى تستعيد الأمل في قدرة الثورة على إنتاج نظام سياسي جديد لا يكون شكلا من الفوضى أو شكلا من الاستبداد.
نحن مسؤولون أمام التاريخ وقد وضعنا أمام أصعب تحدي :أن نكون جديرين بالفرصة اليتيمة التي أتاحها لنا لندخله من أوسع باب أو أن ننتهي في سلة مهملاته التي تفيض بكل الفاشلين.
نحن مسؤولون أمام شرفنا الشخصي وأحلامنا عندما كنا نريد أن نجعل من العالم عموما ومن هذه الأرض خصوصا وطنا للإنسان،
نحن مسؤولون أمامه هو عزّ وجلّ الذي أمرنا الأمر الذي لا يعصى لأن فيه نجاتنا جميعا: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.
أخيرا ونحن على أبواب العيد اسمحوا لي أن أتمنى لكم ولكل التونسيين عيدا سعيدا يعيده الله عليكم وعلى التونسيين بالخير والبركة وعسى أن نبتسم في ذلك اليوم المبارك لروح أبي الطيب لنقول له أخيرا عاد العيد بأمر غير الذي مضى أخيرا جاءنا العيد بكل تجديد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته