بمناسبة انعقاد مؤتمره الثاني
خطاب إلى المؤتمر من أجل الجمهورية
السبت 25 آب (أغسطس) 2012
السيد رئيس المجلس التأسيسي
الأخ الأمين العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية
السادة ممثلي الأحزاب السياسية …
السادة ممثلي البعثات الديبلوماسية الأجنبية في تونس
الإخوة والأخوات مناضلي حزب المؤتمر من أجل الجمهورية …… أيها الحضور الكرام.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تمنع الأعراف أن يكون رئيس الجمهورية عضوا في حركة سياسية أو منحازا لها لكنها لا تستطيع، إلا من باب التعسّف على الطبيعة البشرية، منعه من التعاطف مع حزب تربطه به علاقات كتلك التي تربطني بالمؤتمر من أجل الجمهورية. فهذا حزب رأى النور يوم 25 جويلية 2001 في بيتي بمدينة سوسة وكان لي يومها شرف تأسيسه في أصعب الظروف مع نخبة من أصلب المناضلين الحقوقيين والسياسيين…وهذا حزب ناضلت في صلبه وعرفت داخله دفء التضامن الأخوي بين مناضلين يواجهون نفس القمع والأخطار ويعيشون نفس الآلام والآمال … وهذا حزب تبلورَت فيه جلّ خياراتي السياسية وأساسا استحالة إصلاح الاستبداد وضرورة الدعوة للمقاومة المدنية لإسقاطه. أخيرا هذا هو الحزب الذي مكّنني من شرف خدمة الوطن من أعلى موقع في الدولة. مثل هذه العلاقة تجعلني ممنونا لكل من ناضلوا معي وناضلت معهم إبان سنوات الجمر، وفيّا للقيم والأفكار والنضالات التي مكّنت حزبا – لطالما نُعتَ باستِهزاء بأنه ظاهرة صوتية – من احتلال المرتبة الثانية في أول انتخابات ديمقراطية عرفتها تونس بعد الثورة المباركة.
إن هذه العلاقة تجعلني أيضا بالغ الحرص على مواصلة مسيرته المشرّفة حيث أني لا أرى لهذا الحزب ماضيا مشرفا فقط وإنما دورا مركزيا في إنجاح ثورتنا المجيدة والدفاع عن جمهوريتنا الغضة وتثبيت ديمقراطيتنا الناشئة.
اسمحوا لي إذن, أيها الحضور الكرام, بمناسبة انعقاد مؤتمره الثاني وإذ أحيّ بكل حرارة شركائه في النهضة والتكتّل وكل الوطنين المخلصين في سائر الأحزاب التونسية، اسمحوا لي أن اتقدّم لمناضلي هذا الحزب ومناضلاته ولكم شخصا شخصا – انتم من تمثلون هؤلاء المناضلين – بكل عبارات المودة، وأن أتقدّم للحزب كله بأصدق التمنيات وأولها أن يواصل إنجاح تجربة تاريخية فريدة من نوعها في بلادنا .
إخواني أخواتي ، إن تحالف العلمانيين أو الحداثيين المعتدلين مع الإسلاميين المعتدلين الذي أدّى لتشكيل حكومة الائتلاف الثلاثي – إن هذا التحالف – لم يكن يوما انتهازية سياسية هدفها تقاسم مغانم السلطة كما يشيع البعض إنما هو من تبعات خيار دعوتُ له في كل كُتبي منذ التسعينات لإيماني بأن هذا الخيار هو الوحيد القادر على إخراجنا من سيناريو عبثي ومُكلِف, ومع هذا لا يزال البعض يدفعون إليه لا يلتفتون لا لحاجة المجتمع للسلم الأهلية ولا لتجاربنا الماضية.
فتاريخنا كما تعلمون في جزء كبير منه تأرجح من الفوضى إلى الاستبداد ومن الاستبداد إلى الفوضى ، من وصاية مجموعة عقائدية سياسية على المجتمع لوصاية مجموعة مخالفة ، من إقصاء مغلوب البارحة إلى إقصاء مغلوب اليوم…..كل هذا لقناعة منتشرة أن المرء لا يكون تونسيا طبيعيا أو عربيا أو مسلما أو حتى إنسانا مقبولا ، إلا إذا انصهر داخل قالب معيّن قرّرته ايدولوجية هذه الفرقة أو تلك ولا تفويض إلا من نفسها ولا أساس إلا قناعات لا تلزمها إلا هي. مشكلة هذا التوجه الغريزي والتفكير البدائي رفضه للطبيعة المركبة والمعقدة ،أحيانا المتناقضة، لمجتمعنا والتي فرضتها
عوامل التاريخ والجغرافيا. فتونس محافظة متشبّثة بهويتها وبقيمها وتقاليدها العربية الإسلامية متفتحة في الآن نفسه على الغرب متشبعة بجزء من قيمه وعاداته .هناك أيضا تواصل ماض قريب فيه كثير من النزاعات الموجعة يغذّي تعدّدية مؤهلة في نظام ديمقراطي إلى التزايد بحكم تباين المصالح والآراء حتى داخل كل تيّار ناهيك عن كونها موجودة داخل كل فرد منا وإن غلب توجّه على آخر.
اخواني أخواتي تونس شئنا أم أبينا عربية إسلامية افريقية متوسطية ، حداثية محافظة ، بورقيبية يوسفية ، متقدمة متخلفة، فقيرة غنية، مفتوحة متقوقعة على نفسها، والنتيجة أننا دوما أمام نفس الخيار : أن نبني معا وطنا يتّسع للجميع أو نتنازع فيه فيضيق علينا كلنا.
وفي مثل هذا الوضع الذي لا تجاوز له بأي حيلة أو بأي عنف، ينتهي الأمر على الصعيد السياسي إلى أحد هذين الخيارين: إما مواصلة السياسات التي عانينا منها أكثر من نصف قرن وإما البحث عن صيغة حكم تجعل أغلب مكونات المجتمع تشعر بأن الدولة تمثّلها مما يضمن لتونس السلم المدنية وللتونسيين التفرّغ لمحاربة عدونا الأول : التهميش الاقتصادي والاجتماعي والتخلف العلمي والثقافي
حقا لا يمكن ولا يجب السعي لتجميع الجميع وألا سقطنا دون أن نشعر في مشروع الاستبداد الذي ينكر التعددية بحجة الإجماع ، لكن مسؤوليتنا الوطنية في البحث عن وفاق واسع ومفتوح ينظّم حتى مع من يفضّل البقاء خارجه التنافس الديمقراطي النزيه في كنف الاحترام المتبادل.
لقد دفعت وإيّاكم بكل قواي في هذا الاتجاه وكم سُعدنا بوجود عقلاء داخل التيار الحداثي والإسلامي لمشاركتنا نفس الرؤيا ونفس المشروع السياسي . هكذا شكّلنا مع حزبي حركة النهضة والتكتّل شراكة سياسية – تثير في الوطن العربي إعجابا لعلكم لا تقدّرون مداه- شراكةً مبنية من جهة على السعي لتحقيق أهداف مشتركة هي أهداف الثورة ومن جهة أخرى على احترام الخطوط الحمر لكل الأطراف.
بعد ثمانية أشهر من ممارسة السلطة يمكن القول أن التحالف القائم تفادى شلل الدولة وأزمة سياسية لا أحد يعرف أين كانت ستصل بنا… أن هذا التحالف مثّل إطارا مكّن الرئاسات الثلاث من العمل الجماعي في جوّ أخويّ قلّ نظيره بين الشركاء السياسيين …أنه صمد في وجه كثير من التحديات…ومن ثمّ أنه كان خيارا صائبا ولو عدت لنقطة البداية لما اخترت غيره وكل أملي أن يتواصل في المستقبل بصيغة أو بأخرى.
يبقى أنه تُطرح ولا تزال خلافات كبرى أثارت أول انشقاق مؤسف في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية نتيجة ما قد يواجهه البعض من صعوبة في تحمل تبعات خيارات حركة النهضة التي بيدها جلّ الوزارات وأهمّها.
فالكثير منكم لا يقبلون من حكومة ، الحزبُ طرفٌ مؤسس فيها، كل هذا التأخير في بعث مشاريع التنمية في الجهات المحرومة…كل هذا التردّد في إطلاق عِنان العدالة الانتقالية ومحاسبة الفاسدين وتسوية ملفات الجرحى وعائلات الشهداء ، كما لا يفهمون تواصل عنف بعض الغلاة والحال أنه من حق ومن واجب الدولة انطلاقا من شرعيتها كفّ أذاهم عن الناس والتصدي بالقانون لمن يدمر صورة تونس ويشوّه ثورتها .
هم لا يرون جدوى الدخول في معارك لا طائل منها بخصوص استقلالية الإعلام والقضاء والهيئة الوطنية لتنظيم الانتخابات وكلها تؤلّب علينا جزءا من الرأي العام يمكن أن يكون بجانبنا. ومما زاد الطين بلة الشعور المتفاقم بأن إخواننا في النهضة يسعون للسيطرة على مفاصل الدولة الإدارية والسياسية عبر تسمية أنصارهم توفّرت الكفاءة أم لم تتوفّر وكلها ممارسات تذكّر بالنسبة للبعض بالعهد البائد. كل هذا لا يزيد إلا من حذرٍ مشروع إزاء اصرارهم على النظام البرلماني والحال أننا لُدغنا من هذا الجحر مباشرةً بعد الاستقلال, وعانينا نصف قرن من تبعات جمع حزب- وإن تحصل على الأغلبية بصفة ديمقراطية- للسلطتين التنفيذية والتشريعية في بلد هيّأته القرون للدكتاتورية لا للديمقراطية .
إني أتفهّم مخاوفكم واحترازاتكم وأقدّر الأسباب التي حدت بالأمين العام للاستقالة من الوزارة وأشعر بما تشعرون به من نفاذ صبر أمام بطء الاصلاحات أو توجه البعض منها في غير الاتجاه الصحيح ،أو الحديث عن إمكانية تأخير الانتخابات. لكن ما البديل ؟
إن فضّ الشراكة سيعيدنا للاستقطاب المرفوض وسيزيد من تعفين الجوّ المسموم الذي تعمل قوى الهدم والردة على إشاعته لا يهمّها إلا غرق الائتلاف حتى ولو كان الأمر بثمنِ غرَق تونس, ومنهم من يستعدون بجدية للأمر يهددون بنزع الشرعية عن مؤسسات الدولة يوم 23 أكتوبر المقبل ولا بديل إلا الفوضى والمجهول وتزايد صعوبات الوصول للانتخابات التي أطالب أن تقع في وقتها لتفويت الفرصة على كل الذين لم ولن يغفرون أبدا للتونسيين ثورتهم.
إن مصلحة الوطن تقتضي التمسك بالتحالف والمضيّ به قدما وتوسيعه إلى لحظة العودة لإرادة الشعب ومواصلته إذا جدّد ثقته فينا ، لكن من حق المؤتمر من أجل الجمهورية التصدي لأي تجاوزات ونقدها بكل روح بنّاءة وأخوية والثبات على مواقفه والبحث عن سبل تفعيلها سواء تعلّق الأمر بانتصاب العدالة الانتقالية في أسرع وقت أو انطلاق محاسبة الفاسدين أو تسوية جذرية لملف الجرحى والشهداء وخاصة رؤية الحفارات تبدأ العمل اليوم قبل غدا في المناطق المهمشة . كذلك الأمر بخصوص الإسراع في تنظيم الانتخابات البلدية.
اسمحوا لي أن أذكر بأنني نبّهت لأهميتها وطالبت بقانون استثنائي لتنظيمها حال انتصاب المجلس التأسيسي . للأسف رُفضت الفكرة وها نحن نرى النتيجة وما اصبحت عليه الخدمات الأساسية في قرانا ومدننا.
يبقى أن قدرة المؤتمر اليوم وخاصة غدا على فرض نسق أسرع للإصلاحات رهن بالعنصر المحدّد في أي شراكة ألا وهو ميزان القوى.
إنه ليس من باب النزاهة لوم الطرف الأقوى على استعمال ثقله لفرض مبادئ مصالحه ومصالح مبادئه وإنما من باب النزاهة البحث عن اسباب ضعف أداء الحزب والعمل على تقويته ليتواصل التحالف أكثر توازنا وأكثر قدرة على تطبيق أهم نقط برنامجه وأولها المضي قدما في تحقيق الأهداف الرئيسية التي من أجلها قامت الثورة المباركة.
إخواني أخواتي ، إنّ أحداث سيدي بوزيد يومي 9 و10 أوت ،وإن هوّلها الإعلام، جرس إنذار يجب أخذه بجدية بدل الاكتفاء بطمأنة النفس والقول أنها حركة شباب طائش بأعداد قليلة تحركها أحزاب متطرفة وورائها فلول التجمّع. فلو لم يكن هناك احتقان حقيقي ومطالب شرعية لم تُلبّى وحوار مطلوب لم يُستجب له، لما أًعطيت الفرصة للمصطادين في الماء العكر. صحيح ، هناك ثقل التركة ونقص التمويلات والدور التخريبي لبيروقراطية ما زالت في جزء منها مرتبطة بالعهد البائد وثقل قوانين المعطلة للاستثمار. لكن هناك بطء غير مقبول في انطلاق المشاريع مما أدى إلى نفاذ صبر مناطق حذّرت كثيرا من انفجارها .
إن القضية بالنسبة لنا لا علاقة لها بمسكّنات فعل الخير أو التعويل على منظومة اقتصادية كلاسيكية تضمن بعض النموّ وقليلا من التشغيل وكثيرا من التفاوت وإنما يتعلق الأمر بحقوق اقتصادية غير قابلة للتصرف علينا السعي لتحقيقها عبر أكثر من وسيلة منها :
1- إصلاح زراعي يوزّع أراضي الدولة والأراضي الاشتراكية بكيفية شفافة تضمن استغلالها الحقيقي من قبل صغار الفلاحين والعاطلين من خريجي الجامعة.
2- توسيع التجربة الحالية التي تقوم بها رئاسة الجمهورية بإحداث جمعيات مدنية في كل المعتمديات مهمتها رصد ثروات المنطقة وحاجياتها وتشجيع الأهالي على بعث برامج تنمية محلية يقع تمويلها من صندوق خاص.
3- اكتتاب وطني ووقفية لعمالنا بالخارج لتمويل أكثر المشاريع قدرة على استيعاب البطالة.
4- تمكين كل التونسيين من عقود الملكية بحملة واسعة النطاق للترسيم وهو ما يسمح لصغار الفلاحين بالحصول على قروض ميسرة.
5- العمل على إدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي وترسيم 800.000 حامل لبطاقة العلاج المجانية في صندوق الضمان الاجتماعي مقابل مساهمة بسيطة.
6- إعادة جدولة الدين الخارجي في وفاق مع الدائنين لضخ الفوائد المجحفة في مشاريع التنمية وقد بدأت الفكرة تأخذ طريقها عند الدول الصديقة كألمانيا وفرنسا ونحن نعمل جاهدين في هذا الاتجاه على مستوى دبلوماسيتنا.
7- تكثيف الجهد من أجل استرجاع الأموال المنهوبة في الداخل والخارج لضخها في المشاريع التنموية.
إنه من الضروري الاعتبار بتجارب الشعوب الأخرى في محاربة الفقر والتهميش خاصة في أمريكا الجنوبية والبحث عن حلول موازية للاقتصاد الليبرالي وهي تجرب هناك بنجاح.
أمنيتي أن يتبنى المؤتمر من أجل الجمهورية هذه الخيارات الكبرى وأن يضعها في صدارة برنامجه ليكون حزبا مجدّدا في المجال الاقتصادي والاجتماعي ، علما وأن أحسن برنامج مبوّب للفشل أو لنتائج متواضعة إن لم يأخذ بعين الاعتبار أن أفقر مناطقنا هي المتاخمة للجزائر أو لليبيا وأن الأمر ليس من باب الصدفة.
إخواني أخواتي ، إذا كان بديهيا أننا لن نتخلى عن احتلال موقعنا في الفضاء الافريقي الواعد وعلاقتنا المتينة بالفضاء الأورو- متوسطي ، فإنه من البديهي أن جزءا كبيرا من مستقبل شعبنا في الاندماج مع محيطه المغاربي .
رددت دوما ولا أزال أنه ليس لتونس مستقبل في تونس كما ليس لأي قطر من اقطار المنطقة المغاربية والعربية مستقبل داخل حدود نختنق كلنا داخلها.
إنني أحلم بفضاء مغاربي موحّد يسمح لكل المغاربيين بالتنقل الحر، بالعمل والاستقرار والاستثمار والمشاركة في الانتخابات البلدية….أحلم باتحاد مغاربي فيه طريق سيارة وقطار فائق السرعة من نواكشوط إلى بنغازي، فيه جامعة مغاربية موزعة على البلدان الخمسة وكل قطب محلي مختص في ميدان من العلوم والتكنولوجيا وتتركز فيه كل الطاقات المغاربية لتكون لنا أخيرا جامعة في مستوى عالمي…أحلم ببرلمان مغاربي ومفوضية مغاربية ومحكمة دستورية مغاربية وأن تكون القيروان مقرّ البرلمان المغاربي .
أحلم بإطار أوسع حتى من الاتحاد المغاربي ألا وهو الاتحاد العربي: اتحاد دول مستقلة وشعوب حرة على غرار الاتحاد الأوروبي وهو ما سيحقق أخيرا حلم الأمة في العزة والتقدّم الإنساني الشامل والعودة لساحة التاريخ.
إن المطلوب منكم ربط أوثق العلاقات بالأحزاب المغاربية والمشرقية التي تشاركنا نفس الرؤيا وهي والحمد لله كثيرة وقوية مما سينمي الشبكات السياسية والمدنية التي ستجعل يوما من حلم الآباء والأجداد واقع الأبناء والأحفاد.
المهمّ ألا يكون المؤتمر من أجل الجمهورية ابدا حزبا انعزاليا ضيق الأفق لأننا نوجد في عالم الخيار فيه بين أن نكون جزءا من التجمعات الكبرى ونزن وزنها أو جزءا من الغبار ونزن وزنه. قناعتي أن كهول المؤتمر سيرون إن شاء الله قيام الاتحاد المغاربي وشبابه سيكونون من بين بناة ومواطني اتحاد الدول العربية المستقلة وشعوبها الحرّة.
إخواني أخواتي ، لقد عشنا ولا نزال في مجتمع يرهب الحرية لأنه يعتبرها في جزء كبير منه خطرا على مقدساتنا ، على عاداتنا ، على مصالح هذا الطرف أو ذاك ، لذلك كُبّلت هذه الحرية على مرّ العصور وفي كل المجالات، فكان ما عرفنا من جمود الفكر وتأخّر الاقتصاد وتحجّر العادات واستبداد السياسة وكنا في علاقتنا مع الشعوب الحرّة كمن يجري سباق الألف متر والأغلال في قدميه بينما الآخرون طلقاء. هذا الخوف من الحرية لا زال قائما حتى بعد الثورة نلمسه في أكثر من مجال السياسي منه والاجتماعي وخاصة الثقافي .
إذا سارعنا لقانون يجرّم التطاول على المقدسات ألا يجب أيضا أن نجرّم التكفير؟ وإذا دخلنا في منطق المنع فإلى أي حدّ نذهب وهل لا يتهددنا خطر الانزلاق إلى ضرب المكسب الأكبر الذي ثار من أجله الشعب ؟ حقا للحرية أخطار تبعا لقانون أنه لا يوجد شيء له إيجابيات إلا وكان له سلبيات وأنه لكل ثمين ثمن باهظ . لكن سلبيات الحرية كالفوضى التي نراها اليوم في الإعلام أو عبر تصرفات مجموعات غير ناضجة أو مسؤولة، إن هذه السلبيات لا تُقارن مع ما تسمح به الحرية من إطلاق قوى الخلق والإبداع ومن تجدّد دائم.
بوقوفه الثابت مع الحرية وبرفضه العنيد لاغتنام الخائفين منها كل تجاوز لقصّ أجنحتها ، أملي الكبير هو أن يتشكّل المؤتمر من أجل الجمهورية كأصلب دعامات الحرية واستكمال بناء النظام الجمهوري في هذه البلاد.
يجب على المؤتمر أن يكون دوما وبلا أدنى تحفظ نصيرا قويا عنيدا ، صلبا، لكل الحقوق والحريات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأساسا حرية الضمير والرأي، وحرية الإبداع، واستقلال المنظمات المدنية في مجال الإعلام، في مجال تنظيم الانتخابات، في مجال القضاء . كل هذا حتى لا يتجمّد زخم الحياة مجدّدا في شرايين الدولة والمجتمع.
وبصفة عامة واجب نواب الحزب في المجلس التأسيسي التمسّك الكلّي بحقوق الإنسان وحقوق المرأة بصفة خاصة وتضمينها في دستورنا بصريح العبارة وبدون لفّ ودوران وبرفض كل الجمل المثيرة للجدل العقيم من نوع المرأة التي تكمل الرجل . إن المساواة تامة أو لا تكون إذ يكفي أن ينقص منها ابسط جزء لكي تصبح آليا مساواة منقوصة أي مساواة مزّيفة .
يبقى أن الحريات الفردية والعامة على أهميتها على الورق مجرّد تمنيات نظرية إن لم تجد مناخا توفره منظومة أخلاقية متكاملة.
إخواني أخواتي لقد مثّلت ثورتنا في مرحلتها الأولى عودة التضحية والشجاعة والأنفة وجسّدت قيم الحرية والكرامة إلى أعلى درجة. للأسف فوجئنا كلنا بتفجّر مواقف وسلوكيات غريبة من تواكل واستقالة وفساد وانتهازية ورفض للعمل الشريف إذا لم يتوفّر على المطلوب من السهولة ومن السيولة . يا للمفارقة في بلد يعاني من البطالة أن نضطرّ يوما للاستنجاد بالعمالة الأجنبية إذا أردنا تحقيق مشاريعنا الكبرى وربما حتى لجني التمر والزيتون.
كم فوجئنا أيضا بانفجار الجهوية وتحرك النعرات القبلية التي خلناها اختفت من مجتمعنا وكأنّ الشعار أصبح ’’ الحقوق حقوقي أما الواجبات فواجباتكم ’’. مما زاد الطين بلة استئساد إعلام شعار جزء منه ’’الخبر حرّ والتعليق مقدّس’’ وانتشار أكثر الإشاعات سخافة وحقارة تنهش أعراض الناس دون حياء وبلا حدود ومن المتوقّع أن تتصاعد وتيرتها باقتراب الآجال الانتخابية والشعار هنا شعار دعاة النازية : اكذبوا ، أكذبوا لا بدّ أن يترّسخ شيء من الأكاذيب.
إن قيمة القيم في التعامل بين الناس الاحترام : احترام الحقيقة والقانون والمؤسسات والبشر وفي السياسة احترام الخصوم السياسيين لأن كل هذا ينطلق من احترام الذات ويصبّ فيها. هذه القيمة هي التي تنهار يوما بعد يوم حيث تعمل أطراف لا تحترم شيئا أو احدا على تحقير السلطة والمؤسسات والقوانين وبصفة عامة كل من يخالفها الرأي جاهلة أو متجاهلة أن الأمر سيؤول حتما للفوضى ثم للعنف. ربما هذا ما تريده هذه الأطراف وهذا ما يجب أن نفوّته عليها .
كأنّ الثورة حرّرت أحسن ما بداخلنا وأيضا لبالغ الأسف أسوأ ما في نفوسنا . بمثل العقلية والتصرفات السلبية التي تبلورت بعد رفع غطاء القمع ، نحن نتجه نحو فشل حتمي للثورة ولن نستطيع اتهام أحد غيرنا. لذلك آن الأوان لهبّة ضمير تعيد الأمور لنصابها. إن ثورة لا تغيّر العقول والقلوب في الاتجاه الأرقى ليست إلا مجرّد تغيير سطحي ومهدّد بالانتكاس .المطلوب منّا ليس فقط بناء القوانين العادلة الضامنة للحريات والشفافية والمؤسسات الديمقراطية وإنما أيضا اعتماد سلوكيات تنبع من أحسن ما في تراثنا العربي الإسلامي ومن قيم حقوق الانسان .
في هذه اللحظة التاريخية التي يبدو فيها المعترك السياسي وكأنه فقد أدنى الضوابط الأخلاقية دوركم ودور كل عقلاء البلاد رفض مجاراة أصوات الحقد والخوف والتشكيك والتحريض والعمل على نشر خطاب سياسي مسئول، متوازن ومعتدل يقرأ حسن النية في الطرف الآخر ويتعامل معه باحترام .
على صعيد الممارسات ردّدت دوما أن السيد ليس من يعطي الأوامر وإنما من يعطي المثل. أملي أن يعطي المؤتمر من أجل الجمهورية المثل في تسييره الداخلي ، في تعامله مع الأصدقاء ومع الخصوم في تجنّده الدائم لخدمة الوطن المفدى لا ينتظر جزاء ولا شكورا .
أذكر في أوج محنة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1994 أنني قلت بالدارجة لبعض الانتهازيين الذين دبّروا مع الدكتاتورية إزاحتي :’’الفرق بين وبينك حرف جرّ .أنا نخدم في حقوق الإنسان وأنت تخدم بحقوق الإنسان وسترى النتيجة يوما ’’. حصل ما حصل من انهيار انتهازيين لا نفعوا بلدهم ولا نفعوا أنفسهم. فالقاعدة كانت وستبقى أنه لا شيء يحقق مصلحة الفرد ومصلحة المجموعة قدر التضحية ونكران الذات من أجل قيم نبيلة ومصالح عليا تتجاوزنا جميعا ولا شيء يدمّر مصالح الفرد والمجموعة قدر الانتهازية . أملي أن يعطي كل واحد منكم المثل في البذل والعطاء وبدون حساب أو انتظار مكافأة عاجلة. آنذاك سيمكن للتاريخ أن يقول : كانت الثورة التونسية اول ثورة ناجحة في أرض العرب واستطاعت بإشعاعها الفكري والأخلاقي ان تشكّل قدوة لكل الشعوب العربية ومنها انطلقت النهضة الكبرى لهذه الأمّة. كم سأكون سعيدا لو أضاف المؤرخون…وكان لحزب المؤتمر من اجل الجمهورية دورا كبيرا في نجاح هذه الملحمة. أخواني أخواتي أمنياتي أن يبقى المؤتمر من أجل الجمهورية وأن يتواصل حزب الوفاق الوطني ….أن يكون حزب تحقيق أهمّ أهداف الثورة وهي أساسا محاربة الفقر التهميش ….أن يكون حزب الاتحاد المغاربي والعربي….أن يكون حزب الحرية… أن يكون القدوة والنصير لقيم الاحترام والمسؤولية والشهامة والبذل والعطاء.
إلا أن ’’ نيل الأماني ليس بالتمني وإنما تؤخذ الدنيا غلابا ’’، كما يقول الشاعر. أمامكم إذن مجهود جبار وفي وقت وجيز لهيكلة الحزب وبعث قواعده في كل أرجاء البلاد ، لاختيار مرشحيكم في الانتخابات المقبلة وفق قواعد شفافة ، لتكوين ورسكلة المناضلين علميا وأخلاقيا ، للتواصل مع شعبنا في المدن والأرياف ،لإقامة التحالفات مع التيارات السياسية القريبة وأساسا مع التيارات المتشبثة بالنظام الجمهوري الديمقراطي والدولة المدنية والمنخرطة جديا في مسار تحقيق أهداف الثورة والذود عن تطلعاتها .. يجب على المؤتمر من أجل الجمهورية الالتزام بخطه السياسي وبجذريته . يجب أن يعدّ برنامجا واقعيا وثوريا في آن واحد والعودة بكثير من الدقة للبرامج الجهوية التي شرع في أعدادها السنة الفارطة لأن المسؤولية لا تمارس فقط على الصعيد الوطني المركزي وإنما على مستوى البلديات والمجالس الجهوية التي ستدير أقاليم بلادنا في المستقبل .
طوال المرحلة المنعشة والصعبة المقبلة التي ستعيشون، أملي الوطيد أن تحافظوا على وحدة المؤتمر وتنوّعه، فالتنوع داخل نفس الخيارات الكبرى ضروري لأنه يوفّر أكثر من استراتيجية لتحقيق نفس الأهداف . أما الصراعات فهي ،على قسوتها أحيانا، تجارب لبلورة أنجع الحلول والتنافس النزيه بين شخصيات قوية آلية لرفع مستوى الفعالية في أداء الحزب. إن حركة سياسية لا تقبل داخلها تواصل الأجيال والتشبيب والتأنيث والتعددية العقائدية والفكرية والسياسية ولا تتعامل معها كعنصر إثراء لا حقّ لها في ادعاء تسيير مجتمع كان وسيبقى تعدديا. اسمحوا لي هنا أن أعبّر بكل وضوح عن عميق أسفي لخروج بعض الإخوة والأخوات على خلفية خلافات شخصية سياسية كان بالإمكان تجاوزها بالصبر التسامح وأن أرجو بقاء الأبواب دوما مفتوحة في وجه من يودّ العودة ، خاصة أن ينجح الحزب في وضع آليات مهمتها التقريب بين وجهات النظر والوقاية من الانقسامات.
إخواني وأخواتي،في السياسة لا أسهل من الفرقة ولا أصعب من التجميع والذين يعجزون عن تجميع الصفوف داخل حزب أعجز من تحقيق التجميع على مستوى مجتمع وهو اليوم الشرط الأساسي لحوكمة رشيدة . إن هذه الأخيرة لا تختزل في نظافة اليد أو في حسن الإدارة وإنما في تنظيم التعايش السلمي بين تيارات رؤى ومصالح مختلفة ولا مناص من اعتبارها طالما المصالح شرعية والرؤى اجتهادات تهدف لتحقيق الصالح العامّ.
في عملية التجميع والبناء هذه، المطلوب منكم ، منّا جميعا ، العمل فالعمل ثم العمل … بحماس …بإصرار على تذليل كل المصاعب… بكل ما بدخلنا من طاقة البذل والتضحية …بثقة كبيرة في الله والوطن والنفس.
لا بدّ أن تلتهب جذوة التحدّي والجسارة والأمل بأقوى وهج في قلب كل واحد منكم، خاصة في هذا الظرف التي تسعى فيه قوى الردّة لضرب الروح المعنوية العالية وكانت سلاحنا الرئيسي ضد الاستبداد ويجب أن تبقى سلاحنا الرئيسي في بناء الديمقراطية. ومثلما كذّبتم السنة الفارطة استطلاعات الرأي التي كانت تجعل الحزب في المرتبة السابعة عندما كانت تنتبه لوجوده أصلا ، ستفاجئون الجميع مرة ثانية وستكذّبون المتمسكين بنفس التصنيفات والمنهجيات القديمة للعمل السياسي.
أخواني أخواتي اسمحوا لي في خاتمة هذه الرسالة أن أذكّر بأن على الشجرة ألا تحجب الغابة. فتقوية المؤتمر من أجل الجمهورية وإشعاعه ليس الهدف وانما الوسيلة ، فالحزب أداة تُصقل لكي تعمل بكل فاعلية وتفاني مع بقية الشركاء على إيصال تونسنا الحبيبة إلى برّ الاستقرار والحرية والرخاء …لكي تجعل منها الأرض التي نهرب إليها لا الأرض التي نهرب منها… الوطن الذي نتركه لأحفادنا ونحن على ثقة أنهم سيفاخرون بنا كما نفاخر نحن بأجدادنا العظام.
أخيرا لا آخرا رحم الله شهدائنا الأبرار ورحم كل شهداء ثورة امتنا العربية التي كسرت وستكسر القيود التي كبلتنا بها دكتاتوريات الفساد والتزييف والقمع وفتحت أمام شعوبنا آفاق التحرّر من معرة التخلف والتبعية. أعان الله أهلنا في كل أرجاء وطننا الكبير، خاصة أهلنا فلسطين في نضالهم من أجل السلام العادل وأهلنا في سوريا البطلة التي تسطّر كل يوم بدم أطفالها أروع صور التضحية والصمود والممانعة الحقيقية من أجل كرامة الإنسان وسيادة الشعب وشرعية الدولة.
وفقكم الله جميعا في كل ما ستفعلون من أجل شعبنا وأمتنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم في النضال البارحة واليوم وغدا.
منصف المرزوقي