في الجزيرة نت
خطاب آخر عن المرأة
الجمعة 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012
طُلب مني مؤخرا افتتاح ندوة عن حقوق المرأة. فكانت تلك فرصة لحوْصلة أفكاري في الموضوع، وفيها ما لا يُعجب، ومع ذلك فهي قناعاتي لم تزدني تجربة المسؤولية إلا تمسّكا بها. وأولى هذه القناعات أن الخطاب المتداول منذ أكثر من قرن عن المرأة هو اليوم جزء من المشكل وليس جزءا من الحلّ؛ ومن ثم كانت ضرورة التخلّص منه في أسرع وقت ممكن.
1- يجب إخراج قضية المرأة من الصراع الأيديولوجي السياسي بين الشق الحداثي والشق الإسلامي لمجتمع منفصم ومضطر للملمة أجزائه تفاديا للحرب الأهلية، الباردة أو الساخنة.
كلنا نتابع الصولات والجولات للفريق الحداثي في اتهاماته المتواصلة للفريق الإسلامي، بأن اضطهاده للمرأة هو سبب تخلفنا، وأن حقوقها انتزعت منه، وأنه يتظاهر بقبولها لكن نواياه السيئة لا تخفى على عين بصيرة؛ وأنه مصرّ -أيا كان نوع خطابه الظاهري– على إعادتها للعصور الوسطى، أو على الأقلّ، على ألا يسَلّم إلا بأقل ما يمكن من حقوقها.
كلنا نعرف الردّ الإسلامي إما بدحض هذه التهم، وإما بالمزايدة والادعاء بأنه لم يحرّر المرأة أحد مثلما حررها الإسلام، في محاولة للإيحاء بأن لا فرق بين الإسلام والإسلاميين.
النتيجة هي أن المرأة أصبحت ككرة القدم التي تتقاذفها الأرجل؛ وأول همّ لكل لاعب هو تسجيل هدف ضد الفريق الآخر؛ أما حالة الكرة المسكينة فتبقى من آخر مشاغل الجميع. الهدف بالطبع هو السلطة اكتسابا ومحافظة، وما المرأة إلا حجة وذريعة.
2- يجب إخراج قضية المرأة من الصراع المفتعل بين الجنسين.
يعتقد أغلب الناس في تونس وخارجها أن الحقوق التي اكتسبتها المرأة في بلادنا منّة من بورقيبة، تفضّل بها على شعب من الجهلة المتخلفين المحافظين. أقول بوضوح إن مجلة الأحوال الشخصية التي سُنت بتاريخ 13 أغسطس/آب 1956 كانت ولا تزال مكسبا عظيما، وتجب المحافظة عليها وتطويرها.
أقول إن لبورقيبة فضلا كبيرا في وجودها وترسيخها، لكن من الإجحاف عدم التذكير بأن أول من نادى بتحرير المرأة في تونس رجل وشيخ زيتوني اسمه الطاهر الحدّاد، فهو الذي أطلق بكتابه الشهير ’’امرأتنا في الشريعة والمجتمع” سنة 1930 أولى بوادر تحرير المرأة التونسية والعربية.
كذلك لا بدّ للجيل الجديد أن يعرف أن الدراسات الاجتماعية تثبت أن التونسيين بدؤوا يبعثون بناتهم إلى المدارس حال انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن أعدادهن كانت تتزايد سنة بعد سنة…، إن نسبة تعدد الزوجات بين التونسيين في ذلك العهد لم تكن تتجاوز الواحد في المائة…، إن بورقيبة -الرجل السياسي الداهية- ما كان ليدخل معركة مجلة الأحوال الشخصية لو جاء في بلد مشرقي لم تكن فيه كل الظروف الاجتماعية ناضجة لتقبل الثورة القانونية التي أحدثتها…، إن الرجل -ومن جاء بعده- أبدع في استعمال هذه القضية لتلميع صورته الشخصية وترسيخ سلطانه.
كل هذا أدى لنتائج إيجابية وأخرى لا ينتبه إليها إلا من يدقق النظر، أو من تضعه الصدف على جزء من المسكوت عنه اجتماعيا. كم من مرّة فوجئت وصدمت من رجال ينتمون لكل الطبقات لهم خطاب معاد للمرأة فيه كثير من الضغينة، ذكّرني بخطاب الأقليات المضطهدة!
هذه الظاهرة المكتومة والمكبوتة عند الكثير -على ما أعتقد- من الرجال التونسيين هي واحدة من المضاعفات السلبية للطريقة التي قُدمت بها حقوق المرأة عموما ومجلة الأحوال الشخصية خصوصا؛ أي كنصر على طاغية رجعي هو الرجل التونسي –هكذا بصفة عامة- وكأن الرجل التونسي يختزل في الزوج السيئ؛ كأنه ليس أولا وقبل كل شيء ذلك الأب العطوف الذي يضع مصلحة ابنته فوق كل اعتبار، والأخ الحنون الذي لا يرضى أن تُمسّ أخته بسوء، والابن البارّ الذي لا يطيق في أمه أقل من الإجلال، والزميل الذي يرعى مصالح زميلته، وحتى… الزوج الصالح.
إن الاختزال الضمني للرجل في الزوج السيئ، وللمرأة في الزوجة المظلومة -وكأنّ الزوجة لا تكون سيئة- هو الذي عفّن جزءا هاما من الإشكالية، وجعلنا لا نحل مشكلا اجتماعيا إلا لنخلق مشكلا نفسانيا أعمق، ربما دفعت النساء له ثمنا أبهظ مما نتصور؛ وما ارتفاع نسبة الطلاق في تونس إلا مؤشر من بين المؤشرات. كم صدق المثل الفرنسي: معبّدة هي طريق جهنم بالنوايا الحسنة!
3- يجب الكف عن اختزال المرأة في أنثويتها.
لنتمعّن في حالتين معبرتين، الأولى هي حالة حرم الرئيس المخلوع الذي طردته الثورة من كرسي الحكم. لقد كانت كامرأة لا تفوّت فرصة للظهور بمظهر المدافعة عن حقوق المرأة، لكن دوما في علاقتها بأمور الزواج والطلاق والحضانة… إلخ. كانت تتعامى عن الاضطهاد المتواصل الذي كانت تتعرض له جمعية النساء الديمقراطيات ذات المرجعية العلمانية، أو ما كانت تتعرض له النساء الإسلاميات من مظالم يندى لها الجبين. موضوع النزاع هنا بالطبع هي الحقوق السياسية، مثل حق التعبير والتنظيم والمشاركة في السلطة، وكلها كانت مرفوضة من قبل هذه المرأة وزوجها؛ مما يعني أن المزايدة على مجلة الأحوال الشخصية كانت ستار الدخان الذي يختفي وراءه انتهاك حقوق وحريات ضرورية للنساء كما هي ضرورية للرجال.
الحالة الثانية هي التي تعرفها بيوت بعض أشرس المدافعات العلمانيات عن مجلة الأحوال الشخصية، وتتمثل في وجود خادمات أكثرهن لم يتجاوزن عمر الطفولة وقع استجلابهن -حتى لا أقول استيرادهن- من أفقر أرياف وجبال الشمال الغربي، ويعاملن أسوأ معاملة يتردّد صداها أحيانا في الصحف. هنا أيضا، يشكل التجنّد للأحوال الشخصية ستار الدخان الذي يختفي وراءه الدوس على حقوق اقتصادية واجتماعية ضرورية للمرأة كما هي ضرورية للرجل، أو يقع تجاهلها في أحسن الأحوال. وبالمناسبة أتمنى أن قراءة هذا المقال ستدفع ببعض النسويات العربيات إلى مضاعفة أجر خادماتهن ومنحهن عطلة للرجوع لأهليهن؛ وإلا فليتذكّرن أن تلك المعاملة لن تبقي لخطابهن من المصداقية إلا القليل.
وفي آخر المطاف، نكتشف أن التركيز على حقوق المرأة -بما هي أنثى- ساعد كل الأطراف على التعتيم على حرياتها كمواطنة، وعلى حقوقها كأكثر المواطنين تعرضا للحيف الاجتماعي، وأكثرهم تحمّلا لتبعاته.
***
نحن اليوم في مفترق طرق نعيد فيه ترتيب البيت السياسي والاجتماعي، وهذا لا يكون إلا بإعادة ترتيب أفكارنا وقيمنا، ليس في الموضوع الذي يشغلنا في هذا المقام فحسب، بل وفي كل المسائل.
وبخصوص هذا الموضوع، نحن مطالبون -كل من جانبه- بالخروج من الخطاب المبتذل الذي أرهقنا وضيع جهودنا لأكثر من قرن.
إذا كانت اللغة أكثر من كلمات نضعها على المسميات لأنها عقلية المتكلم وتصوره الضمني للعالم، فإنه يمكن القول إن العربية –ومن ثم العرب- أكثر تقدما من الفرنسيين؛ فكلمة Homme تشير في لغتهم إلى الرجل والإنسان، وكلمتهم للإنسانية Humanité مشتقة منها. هذه ليست صدفة وإنما هي عقلية، ربما تطورت لكنها في بدايتها جعلت الذكر نموذج الإنسان، تاركة الأنثى في منزلة تابعة.
أما في لغتنا وفي ثقافتنا فالأمر على العكس. ثمة الآية الكريمة “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى”؛ مما يعني أن المساواة بين البشر ذكورا وإناثا أصيلة، انطلقت مع عملية الخلق نفسها.
ثمة المصطلح وما يعكسه مرّة أخرى من عقلية. فعندما يكتب الفرنسيون La déclaration universelle des droits de l’Homme نكتب نحن “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”؛ لا نفرق بين ذكر وأنثى. هذا يعني أن لنا رؤية تنفذ إلى اللب، وهو أننا نفس الكائن في حالتين مختلفتين، مما يضعنا على الطريق الصحيح، أي فرض الانتقال بالتفكير من مستوى الجنس sexe-gender إلى مستوى الإنسان، وهذا الإنسان معرّف اليوم بجملة الحقوق التي يجب توفيرها له لنطالبه بواجباته.
نصيحتي للعلمانيين أن يقبلوا أن حقوق المرأة كلّ لا يتجزّأ، وأن حرية اللباس مثلا -ولو كان نقابا- جزء من تلك الحقوق. إنه من المؤسف جدا أن نرى أساتذة متحررين يرفضون حق الجلوس في مدرج الجامعة لفتيات منقبات، ويتسببون بهذا الرفض في تعطيل الدراسة بتبريرات سخيفة منها الصبغة الأمنية؛ كأن كل منقبة رجل متنكر، أو أنها تحمل حتما قنبلة تحت برقعها؛ أو كأن القدرة على حمل قنبلة في حقيبتها اليدوية، تقتصر على المنقبة دون من هي غير محجبة (تفاديا لكلمة “سافرة” التي اعتبرها البعض إهانة).
نصيحتي لهم أيضا، أن يكفّوا عن الصراخ المنَبّه لذئب غير موجود؛ فالمجتمع الذي بدأ تعليم بناته قبل ظهور مجلة الأحوال الشخصية، والذي كان فيه تعدّد الزوجات الشاذة وليس القاعدة، والذي يشكل فيه الآباء والإخوة والأبناء والأزواج الصالحون والزملاء الشرفاء الأغلبية المطلقة، ليس هو الذي سينفر خلف بعض الأصوات المستفزة، فمن المبالغة وسوء النية التصرف كما لو كانت هذه الأصوات تعبّر عن النوايا المبيتة لخصومهم السياسيين من إسلاميين معتدلين.
ليتذكّروا أن إصرارهم -وهو أمر يحسب لهم- على المناصفة في انتخابات المجلس التأسيسي قد جلب عددا محترما من النساء لكن أغلبهن محجبات.
وبما أننا في موضع النصائح، فليسمح لي الإسلاميون بنصحهم بعدم الردّ على التهم الموجهة إليهم بخصوص المرأة، لأن السجال العقيم هو كل ما يريده خصومهم، والمطلوب منهم الاهتمام بالغابة أخيرا بدل التركيز على الشجرة.
هذه الغابة في جزء منها هي الحريات الفردية والجماعية، وهي -مثل الهواء- صالحة وضرورية بنفس الإلحاح للإناث والذكور؛ ومن ثم فإن تعهدها وحمايتها وتطويرها جزء لا يتجزّأ من تحسين ظروف العيش المشترك للرجال والنساء.
يبقى أهم جزء من الغابة، ألا وهو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. إن كل الدراسات التي قامت بها الجامعات والمنظمات الدولية تظهر أن المرأة هي أولى ضحايا الفقر، وأن مستوى الصحة -خاصة نسبة وفيات الأطفال- مرتبط أوثق الارتباط بمستوى تعليمها، والأهمّ من هذا كله أن أنجح برامج التنمية هي التي ترتكز عليها، لأنها أقدر من الرجل على استغلال القروض الميسرة، وخلق فرص الشغل في المؤسسات الاقتصادية الصغرى.
كل هذه المعطيات تحثنا على اعتبار التنمية النسائية المدخل الملكي للتنمية الإنسانية الشاملة، وذلك بغض النظر عن الضرورة الأخلاقية والقانونية لتمتيع النساء بحقهن في الرفاه والصحة والعمل والتعليم.
***
وفي آخر المطاف، كيف هو المشهد الموضوعي الذي يتعامل معه الخطاب السياسي سلبا وإيجابا، تنويرا وتعتيما، تحليلا وتضليلا؟
إنه مشهد معقد، فيه مناطق النور والظلام وما بينهما من مناطق رمادية، النور في مشهد المجلس التأسيسي بنسائه ورجاله وهم منكبون على كتابة دستور الأجيال المقبلة، وحريصون أشد الحرص على أن يضمن للتونسيين والتونسيات كل الحريات والحقوق المضمونة في الجزء النير من تراثنا العربي الإسلامي وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
الظلام في حالة الفقر التي يعيش عليها أكثر من مليونيْ تونسي، منهما بالطبع مليون تونسية من كل الأعمار، ولا بدّ من بذل كل الجهود لإخراجهم من وضع مخلّ بالكرامة التي قامت من أجلها الثورة.
وفي المنطقة الرمادية هناك الخصومات العبثية عن أخطار غير موجودة، والخصومات الأكثر عبثية بخصوص مشاكل مفتعلة، كالاضطرابات العنيفة التي شلت السنة الفارطة كلية الآداب بتونس نتيجة إصرار بعض الطالبات على حضور الدروس بالنقاب، وإصرار بعض الأساتذة على رفض تدريسهن.
إن دورنا اليوم في هذا الظرف الدقيق من تاريخنا هو الكفّ عن افتعال مشاكل لا وجود لها للتركيز على المشاكل الموجودة بضغط كبير، وإلا فإن خصوماتنا هذه ستكون إهدارا لطاقاتنا في ما لا يجدي نفعا، وهدرا لكرامة هذا الإنسان -ذكرا أو أنثى- الذي نفتعل الدفاع عنه وهو في الواقع آخر ما يهمنا.