بن علي والمحاكمة العادلة التي لن تقع
الخميس 30 حزيران (يونيو) 2011
إذن، حكمت المحكمة الابتدائية بتونس يوم 20 جوان –حزيران– على الرئيس المخلوع بن علي بخمس وثلاثين سنة سجنا، وهذا فيما يخص واحدة من بين ثلاث وتسعين قضية، مما يعني أن الرجل لو رجع لتونس لأمضى بقية عمره في المحاكم مستنزفا لوحده جلّ ميزانية وزارة العدل. هو مهدًّد بآلاف السنين من السجن وبخمس أو ست إعدامات. يا للمسكين، عِلما بأن هذه الأحكام الدنيوية ’’مفتحات’’ مقارنةَ بما ينتظره في الآخرة.
كل هذا من شأنه أن يُرضي من تعرضوا مثلي للمظالم المشينة وللاضطهاد المتواصل، ناهيك عن أهالي الذين ماتوا تحت التعذيب وبرصاص أعوان الدكتاتور في القصرين وتالة والرقاب ودوز وتونس العاصمة.
بصراحة لم أشعر بأي سعادة لمثل هذا الحكم ولن أشعر بها لأي أحكام أخرى ستصدر في المستقبل… ربما لأنني لا أحب المحاكمات الصورية وأنه لا معنى للحكم على رجل غير ماثل أمام المحكمة…. ربما لأنني أشعر أن الحكومة الحالية تريد استرجاع بعض الاعتبار الذي فقدتْه بتأخير الانتخابات، وأنها ترمي بهذه المحاكمة الصورية عظما لشعب محروم من أكل اللحم… ربما لأنه لا ثقة لي في القضاء التونسي ولاعتقادي أنه أول من يجب محاكمته كسلك وكأشخاص، من أجل عودة الثقة في العدالة….ربما لأنني رجل جعل شعاره في الحياة “في موقع الضعف لا تستسلم، و في موقع القوة لا تنتقم”.
ثمة في هذه المحاكمة رائحة انتقام لا تخفَى على كل أنفٍ حسّاس .خمسة وثلاثون سنة سجن في أول قضية وفي بضع ساعات من المحاكمة دون حضور المحامين ! يا لسخرية الأقدار التي جعلت أكبر المختصين في المحاكمات الصورية والسريعة والتنكيلية يتعرض أخيرا لما عرّض له الآلاف
المهم أن مفهوم العدل يحوي مفهوم القصاص من المجرم، لكنه يحوي مفهوما لا يقل أهمية هو تعويض الضحية. والقاعدة التي جَرّبَتْها البشرية على الدوام هي أنه كلما تغوّل مفهوم القصاص وضمر مفهوم التعويض كلما كانت العدالة منقوصة وهشة والعكس بالعكس، أي أنه كلما ضمر مفهوم الانتقام وساد مفهوم التعويض كلما كانت العدالة راقية تساهم في تخطي المجتمع بدائية قاعدة العين بالعين والسن بالسن، التي لم تفعل عبر التاريخ سوى تغذية مسلسل العنف.
مما يعني أننا إذا أردنا للعدالة في تونس وفي أي قطر من أقطار الأمة أن تكون من النوع الرفيع أي المساهم في بناء السِّلْم الاجتماعي فعلينا التركيز على تعويض كل الضحايا ماديا ومعنويا في أسرع وقت، لا على المحاكمات الاستعراضية للمجرمين. لقائل أن يقول إن القصاص من المجرمين الذين تسببوا في ثلاث وعشرين سنة من النهب والسلب والتعذيب والخيانة الموصوفة، أمر لا مناص منه لاكتمال العدل
ليكن، ولنتابع هذا المنطق إلى آخره. إذن يجب القصاص من ’’كُللللللللللللّ’’ المسؤولين عن كارثة النظام الاستبدادي الذي عاث فسادا في بلادنا وجعل الدولة بقرة حلوبا له وأداة تنكيل وإذلال لشعب مقهور.
ثمة طبعا المخلوع الذي يحمل الوزر الظاهر لكل هذه الحقبة المظلمة في تاريخ تونس.
ثمة بعض الأشخاص الذين يقبعون في السجن أو ينتظرون بقلق متنامٍ انتخاب المجلس التأسيسي وتشكيل الحكومة الديمقراطية لمقاضاتهم. هل نحن متأكدون أن القائمة تنتهي بهم؟
ماذا لو حاولنا تتبع الخيط الرفيع الذي لم نمسك إلا بأحد طرفيه. فالسؤال الحقيقي في تونس اليوم، ليس كم قَتلَ وكم سَرقَ بن علي، وإنما كيف استطاع شخص مثله أن يصل سُدّة الحكم وأن يحكمنا طيلة ثلاث وعشرين سنة، أليس كذلك؟
يجب إذن تحديد هوية الأشخاص والآليات التي سمحت لضابط مخابرات شبه أمّي تحوم حوله غيمة من الاتجار بالمخدرات، أن يصبح سفيرا، فَوزيرا، فَرئيس وزراء، لينتهي رئيس دولة.
والآن لبقية القائمة
الذين فشلوا في تربية الطفل زين العابدين –عائلة ومعلمين وأساتذة وأصدقاء- أو كانوا له القدوة والمثال في اتباع طريق الشرّ
الذين أدخلوه مدرسة المخابرات وسلّطوه جاسوسا على الأسرار الحميمة لكي يهددوا بها خصومهم السياسيين الذين أطلقوا يديه في القتل والتعذيب بحُجّة محاربة الأصولية والتطرف وجعلوه يعيش خارج القوانين والقيم التي كانوا يدّعون حمايتها
الذين هللوا وطبلوا للانقلاب الطبي الذي أطاح بالرئيس بورقيبة وجاء به للحكم (ومنهم كاتب هذه السطور ولو أن ما يشفع له انتباهه السريع لغلطته ودخوله المعارضة فالمقاومة، بضعة أشهر فقط من بداية العهد المظلم)
الذين تسابقوا للمناصب من ديمقراطيين وحقوقيين معروفين لا تهُمّهُم سوابق الرجل
الذين جعلوا من الرجل الجاهل صاحب فكرٍ قارنوه بفكر هيجل وديكارت، لا يخجلون أن يكونوا مثقفي عصابات حق عام أو سَخّروا موهبتهم للدفاع عن الفساد والظلم والتزييف والقمع، فظهروا على حقيقتهم: مرتزقة القلم
الذين أشاحوا البصر عن كل الموبقات التي كان النظام يرتكبها في حق المعارضين
الذين صمتوا والنهب والسلب على قدم وساق، وقبلوا العيش تحت راية الذل ليواصلوا حياة بلا كرامة
الذين سَخَّروا آلة القضاء للانتقام من خصوم الطاغية، فداسوا بأحكامهم كل القيم والأعراف والقوانين
الذين أصرّوا لآخر لحظة على أننا أمام نظام سياسي قابل للإصلاح ويجب ترويضه شيئا فشيئا بالاحتجاجات الطوباوية والبيانات المهذبة واغتنام كل فرصة ’’انتخابات’’ للبروز على شاشات التلفزيون وادعاء الزعامة والوطنية وهم لا يريدون وال النظام وإنما فتاته
لنتصور دعوة كل هؤلاء الذين يتحملون المسؤولية في ما تعرضت له تونس من جرائم، للمثول أمام محكمة يرأسها قاضٍ مصري أو أتيْنا به من نيوزيلندا لضمان حياده المطلق. هل كانت قاعة المحاكمة رقم 10 ستتسع لطابور أوله في مدخل ’’قصر العدالة’’ وآخره على مشارف مدينة صفاقس؟ ما أسهل أن نتخلّص من المسؤولية الجماعية لنُلقِيَها على رأس شخص هو ملخّص لكل فشلنا التربوي والسياسي والأخلاقي… فشلنا كمجتمع وكأفراد في الدفاع عن دولتنا من الاستيلاء عليها من قِبَل كبار المجرمين، فشلنا في التخلص منهم في أسرع وقت، وربما فشلنا غدا في تكرار نفس المأساة والكارثة التي عشناها. كل ذلك يظهر هشاشة المجتمع والدولة تجاه مثل هذه الجراثيم الفتاكة.
لننتبه لأهم خصائص المحاكمة وذلك منذ ظهور هذا الطقس الاجتماعي المغرق في القدم. في آخر المطاف، حتى القصاص من المجرم وتعويض الضحية، ليس هو المهمّ و لا حتى الهدف الرئيسي. الوظيفة الحقيقية للمحاكمة هي البيداغوجية، فالمَعنِيُّ الأول بالمحاكمة ليس المتهم ولا الضحية، وإنما الجمهور، الذي يمثل المجتمع. أما القاضي فهو معلّم يقول لمن يتابعون فصول المحاكمة انتبهوا لما يمكن أن يحصل من مضارّ لكم وللمجتمع إذا تكرّر مثل هذا الفعل. هكذا شكلت العدالة دوما عنصرا هاما من عناصر التربية الجماعية وعاملا أهمُّ أدواره تشخيص الأمراض الاجتماعية ووضعها أمام الأنظار كي تصبح الوقاية مُتاحة. أيُّ منفعة بيداغوجية لتونس في محاكمة رأس النظام السياسي المجرم إذا سُلِّط النور على الحلقة الأخيرة، والهدف التعتيم على السلسلة الطويلة من الجرائم الكبيرة والصغيرة التي ارتكبها مئات الآلاف من التونسيين بخلقهم بشرا من نوع بن علي وأصهاره الطرابلسية، وبالسكوت عن موبقاتهم أكثر من عقدين، وأحيانا بمشاركتهم الأسلاب والغنائم
لا نية لهذا النص بالتنقيص من مسؤولية هذا أو التضخيم من مسؤولية ذاك، وإنما المُراد هو التنبيه إلى أنه في هذه القضية يجب أن لا تُخْفِيَ الشجرةُ الغابةَ… أن مصلحة الأجيال القادمة في عدم تكرار الوقوع تحت سطوة عصابة حق عام، تتطلب محاكمة للذات لا انتقاما من الآخر الذي كشف عورتها.
عدالة تكون في خدمة المجتمع ووقاية الأجيال القادمة تمرّ بثلاث
1-تعويض ضحايا الرجل وزبانيته عبر المسارعة لإغاثة أهل الشهداء والجرحى الذين لا نعرف لليوم عددهم الحقيقي وذلك -ماديا ومعنويا وكذلك ضحايا التعذيب والطرد التعسفي وإقامة نصب تذكاري في كل مدينة وكل قرية لضحايا الاستبداد
2-فتح ملفّ البوليس السياسي والقضاء المدجّن والإعلام المأجور والثقافة التابعة والسياسة المرتزقة عبر لجان تحقيق يخلقها المجلس التأسيسي المقبل وفتح أوسع الحوار الوطني حولها لا بنية التنكيل بهذا أو ذاك وإنما لتعرية كل الآليات التي سمحت للدكتاتور بالوصول للسلطة والبقاء فيها كل هذا الزمن الضائع من عمرنا
3-إتخاذ النموذج الجنوب افريقي أي عرض كل المجرمين- بما فيهم بن علي، إن عاد يوما بالأصفاد في يديه –على محاكم الحقيقة والمصالحة وفي هذه المحاكمات المبدأ كشف كل الجرائم بحضور من ارتكبها وضحاياهم تنتهي بطلب العفو من قبل المجرمين وقبول الضحايا بالعفو ، وفي أسوأ واصعب الحالات عقوبة لا تقصم الظهر وتترك مجالا للرحمة حتى بمن أظهروا أنه لا يفهموا معنى للكلمة
ما عدا هذا ، استضافة الزنزانات النتنة لمن ضيفونا فيها وبقاء نفس الطوابير من النساء أمام ابواب السجن ولوعة أخوات وأمهات وبنات وابناء على أب أو عم أو خال ومشاعر المهانة والدونية لأطفال لا يفهمون ما الذي ارتكبوه بالضبط ليعاملوا كالمنبوذين.
هكذا نبقي نتداول على المحاكم والسجون تتغير الأسماء وكمية الألم في المجتمع قارة لا تتغير أي مخرج من الدوران في نفس الحلقة المفرغة غير هذا وكل هزيمة تولّد رغبة الثأر وكل ثأر لا يزيد إلا في تأجيج الأحقاد ولا أحد يتعلم من الأخطاء والكلّ يكرّرها.