القدس العربي
المنصف المرزوقي و’فقه المقاومة’ ضد الاستبداد
الاثنين 16 كانون الثاني (يناير) 2012
عرض مباشر : القدس العربي
في عام 2004، كان د. منصف المرزوقي، رئيس الجمهورية الحالي في تونس، يعد كتاباً بعنوان: ’عن أي ديمقراطية تتحدثون؟’، يتناول فيه بعض الإشكالات التي تواجه النضال الديمقراطي في تونس والعالم العربي. وقد طلب مني أن أكتب مقدمة لذلك الكتاب، وهو طلب رحبت به واعتبرته تشريفاً لما كنت أعرفه عن الأخ الصديق المنصف من بلاء حسن في الدفاع عن كرامة التونسيين في وجه نظام لم تكن معارضته نزهة. وقتها كان حلم الديمقراطية في تونس أشبه بسراب بقيعة، بسبب سطوة النظام التونسي وما بدا أنه يتمتع به من تمكين محلي ودولي. ولكن إيمان المرزوقي بقرب بزوغ شمس الديمقراطية في تونس الخضراء لم يتزعزع لحظة. وكان يكفي أن تلتقي الرجل لتشاركه إيمانه، لأن قضية وراءها كل هذه الصلابة والإيمان لا يمكن إلا أن تنتصر.
اليوم، والثورة التونسية تحتفل بالعيد الاول لانتصارها هذا الأسبوع، أستأذن القارئ في أن أورد أدناه مقتطفات من التقديم الذي أعددته لكتاب د. المرزوقي، لأنه في نظري يلقي أضواء مهمة حول سر نجاح الثورة التونسية، وتحديداً الدور الذي لعبه د. المرزوقي فيها. ذلك أن كثيرا من المراقبين يتساءلون عن سر فوز قوى معينة بثقة الشعب في انتخابات ما بعد الثورة في دول مثل مصر وتونس. ولا شك أهم جزء من الإجابة هو أن الشعوب تعرف تماماً وبصدق مواقف الرجال وتذكرها لهم. أدناه مقتطفات مختارة من المقدمة:
في تمهيده لهذا التناول المتعمق لإشكاليات الديمقراطية ينوه د. منصف المرزوقي إلى أننا أصبحنا هذه الأيام نعيش ما يشبه الهوس الديمقراطي، في القول طبعاً وليس الفعل كما هو ديدن بني يعرب… وهذا يطرح أول سؤال عن اختلاف المساهمة الراهنة عن كل هذا الصراخ البابلي الذي يصم الآذان، وعما إذا كانت ستضيف جديداً أم تندرج في حومة الضجيج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؟ وأول إجابة هي أن الاختلاف في مساهمة المرزوقي بدا واضحاً حتى قبل أن يجلس إلى طاولة الكتابة.
فقد عرفنا الدكتور الطبيب المناضل وسمعنا به علماً من أعلام المنافحة عن كرامة شعبه وعن كرامة كل العرب قبل أن نسمع بأطروحاته النظرية حول الحرية والديمقراطية، فكان سيفه (الرمزي طبعاً) أصدق أنباءً من كتب الآخرين ومقالاتهم وشعاراتهم وهتافاتهم. لقد كانت وقفته الشجاعة والمبدئية في وجه واحدة من أشرس الدكتاتوريات العربية (بل والدولية) المعاصرة تعادل أسفاراً تحملها دواب كثيرة.
لم يكن من تابعوا تلك الوقفة، والثمن الباهظ الذي دفع بسببها، يحتاجون لأن يقرأوا كتابات روسو أو مونتسكيو حول الديمقراطية لكي يعرفوا معنى الحرية والعزة والكرامة، تماماً كما لم يكن ملايين الأميين والمحرومين في جنوب إفريقيا في حاجة لقراءة كتاب حول الحرية والكرامة وهم يرون أمام أعينهم مجاهدات رجال عظام ونساء عظيمات من أمثال نيلسون مانديلا وويني مانديلا ووالتر سيسولو وديزموند توتو وغيرهم ممن وقفوا وقفة الرجال (والنساء) الأحرار، فكان سجانهم هو السجين.
الفصل الأول، إذن، والمقدمة التي لا بد منها، هي تلك التي كتبت على أرض تونس العزيزة قبل كتابة السطر الأول في هذا الكتاب (’في المنفى’ كما جاء في التنبيه الذي لا بد منه). ذلك أن أول درس من دروس الديمقراطية (والتعامل الأخلاقي والمبدئي عموماً) هو أننا يجب ألا نحفل بقول من لا يصدق قوله عمله… فكيف نقرأ لمن يكتب عن الديمقراطية وهو جالس في حجر حاكم مستبد يزين له باطله ويأكل من يده؟ وكيف نسمع عن الاستقامة ممن هو والغ في الفساد؟ وكيف يحاضرنا عن الحرية ’مثقفون’ يغدون ويروحون على سلاطين الجور، ثم يعودون ليجادلونا بأن أسباب انعدام الحرية هي في ’تخلف الشعوب’؟ إن التخلف الحقيقي هو ما فيه هؤلاء القوم الذين لا يستحي الواحد منهم أن يظهر على الملأ بتسمية مستشار الملك الفلاني، أو نديم الرئيس العلاني، ويسهب في الحديث والتنظير عن إشكاليات التحديث ومتطلبات الحرية، والأقبية تحت أقدامه وأقدام نديمه ملآنة بضحايا التعذيب، والصحارى تمور بضحايا الاختفاء القسري، وصحف السماء وسجلات منظمات حقوق الإنسان ملآنة بآهات المظلومين وأنين الأرامل وأسر المعتقلين جوراً. هذا هو التخلف، لا ما فيه الشعوب المقهورة الرافضة للظلم. وبداية الخروج من النفق تكون بالخروج من هذا التابوت الذي وضع فيه المثقفون من ’فقهاء السلاطين’ وعبيد الدرهم والدينار الذين يحاضرون الكل عن الحرية والطهر، وينسون أنفسهم… ويندرج في هذا التخلف من وصفهم الكاتب بأنهم يمارسون ’الإفتاء من الربوة’، أي من موقع متعالٍ أو ’استقلال’ مصطنع، ولعل الأنسب أن يقال أن الأمر يتعلق ب ’إفتاء من المستنقع’، لأن القوم غارقون حتى آذانهم في وحل التواطؤ مع الفساد القائم.
نحن إذ نقرأ للمرزوقي إذن نقرأ له وفي ذهننا أنه… قد مشى تلك الخطوات التي لا بد منها لكل مثقف في طريق الصدق مع الذات والبراءة من العبودية التي ارتضاها الكثيرون لأنفسهم. لهذا نقرأ له باهتمام، ونناقشه بجدية. القضايا التي يتناولها المرزوقي في هذه التأملات هي أيضاً قضايا جادة تستحق كثيراُ من النقاش، وبعض الإجابات التي تقدم بها مثيرة للجدل، وقد لا نوافقه فيها، ولكنها تستحق التناول بعناية. ولا يسعنا إلا أن نتفق مع الكاتب على أن التناول الفج والسطحي للديمقراطية وتقديمها على أنها شفاء من كل داء يحتاج إلى توقف. هناك نقاط تستحق كثيراً من الانتباه في تشكيكه في نوايا الإدارة الأمريكية وهي تتبنى الديمقراطية للعرب وتبشر بها. ولكن المرزوقي يضيف إلى المقولات الرائجة (حتى لا نقول الغوغائية) حول شرور أمريكا وسوء نيتها تحليلاً نظرياً متعمقاً، حيث يؤكد أن أمريكا لا تروج للديمقراطية بقدر ما تروج لليبرالية، في داخل أمريكا وخارجها، وهذا الموقف كثيراً ما يتعارض مع الديمقراطية. ولا شك أن هذه ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، لأن هناك خلطا رائجا بين المفهومين، حتى في التناول الغربي لهذه القضايا. ولكن كثيرا من المنظرين لاحظوا هذا التمايز، بل والتناقض، بين الليبرالية والديمقراطية. الولايات المتحدة قامت في الأساس على مفاهيم ليبرالية، وكان الآباء المؤسسون لا يستخدمون مصطلح الديمقراطية إلا لماماً، بل يميلون إلى مصطلح ’الحكم الجمهوري’، تيمناً بروما، لا أثينا… وقد كان المنظرون الليبراليون يتخوفون منذ البداية من أن يؤدي ترسخ المفاهيم الديمقراطية إلى ’انقلاب’ يقوم فيه الفقراء بالإمساك بالسلطة واستخدامها لسلب الأغنياء أموالهم، وجعل أعزة أهل البلاد أذلة. ومثل هذه المخاوف كانت سائدة في الفكر الغربي منذ أيام أرسطو، واكتسبت أهمية جديدة بعد قيام الثورة الفرنسية وما ارتكبته في حق الطبقات العليا، وزادت بعد ظهور الفكر الماركسي والحركات الاشتراكية…
وقد اكتسب التعارض بين الليبرالية والديمقراطية بعداً جديداُ في عصر العولمة، حيث أصبحت المصالح الليبرالية المرتبطة برأس المال بعيدة كل البعد عن هيمنة الدولة… ليس هذا فحسب، بل أصبحت الامبراطوريات الإعلامية العابرة للقارات، والواقعة خارج إطار المحاسبة الديمقراطية تتحكم في اللعبة الديمقراطية دون أن تتقيد بشروطها، كما نرى في امبراطورية روبرت ميردوخ الإعلامية التي تؤثر في السياسة في أكثر من بلد دون أن تعبأ بسلطات وضوابط المحاسبة الديمقراطية… ولكن هذا التمايز بين الديمقراطية والليبرالية تم الاستناد إليه عند بعض منظري اليمين الجديد في الولايات المتحدة من أمثال فريد زكريا للقول بأن سياسة أمريكا يجب أن ترتكز تحديداً إلى ما اتهمها به المرزوقي، وهو أن تروج لليبرالية وتمتنع عن المناداة بالديمقراطية. ولا شك أن مثل هذا الموقف قد يجد هوى عند كثيرين من أنصار التيار العلماني المتخوفين من أن يؤدي ’التسرع’ في تبني الديمقراطية إلى هيمنة عناصر ’غير ليبرالية’ (وخاصة العناصر الإسلامية) على مقاليد الأمور، فتتولد من الديمقراطية نقيضها…
الاستبداد هو أيضاً ظاهرة مرضية في المجتمعات مثل ما هو ظاهرة مرضية في نفسية المستبد. المرزوقي، وهو طبيب محترف، مولع بالتشبيهات الطبية، ولكنها تشبيهات تكشف عن نظرة ثاقبة. فهو إذ يتناول مرض العصر العربي، الاستبداد، ويتساءل عن أسباب استعصائه على العلاج، يمتعنا بتشخيصات تشحذ الفكر، حيث يشبه دور المستبد بالفيروس الذي يدمر خلايا الجسم عبر الاستيلاء عليها، بينما يشبه القائد الديمقراطي بالانزيم الذي عليه تعتمد صحة الخلية واستمراريتها.
فالإنزيم، يقول المرزوقي، ’هو أيضا مكوّن عضويّ وحيد بالغ الصغر. لكنه خلافا للفيروس عامل رئيسي من عوامل البناء والتشييد. فلولاه لما استطاعت المفاعلات الكيماوية الضرورية لحياة الجسم أن تضطلع بوظائفها. وفي غيابه تتوقّف عمليات البناء والإصلاح أو تتباطأ بشكل رهيب.
هو يلعب دور المحرّك والمنشّط والموجّه للطاقات الكامنة في الجسم. من هذا المنطلق يمكن القول أنّه بقدر ما لعب صدّام حسين دور فيروس العراق بقدر ما كان نلسون مانديلا أنظيم جنوب إفريقيا’.
ويطرح المرزوقي سؤال الساعة حول عوامل بقاء الاستبداد فيستمر في التشبيهات الطبية، حيث يشير إلى أن العلة تكمن في خلل في ’الجسم السياسي’، أساسه اختلال الجسم وعموم الفوضى أو خطرها. وهذا يتيح الفرصة لفيروس الاستبداد مهاجمة الجسم والتغلغل فيه. وهذا بدوره يخلق حلقة خبيثة من ضعف المناعة واستفحال المرض. وضع ’الفيروس’ الذي يسبب هذا المرض هو أيضاً استدعاء لتشبيه طبي آخر، وهو أن المستبد شخص مريض نفسياً في الغالب، حيث يواجه أزمة ثقة بالنفس، تجعله يحيط نفسه بالمنافقين والفاسدين، ويستجدي منهم المديح الذي يتحول إلى حالة إدمان، كلما أخذ منها جرعة اشتدت حاجته إلى المزيد، دون أن يكتفي أو يكسب ثقة بنفسه.
المستبد يستند في وجوده واستمراره على جوانب خلل أخرى، منها وجود بطانة فاسدة هي انعكاس للخلل القائم في النظام واعتماده على ’الردائقراطية’، أي اختيار الأعوان من بين الأسوأ، وعلى أساس الولاء لا الكفاءة. وهناك دوائر أخرى تدعم هذا الوضع، من المنتفعين والسلبيين. كما أن الاستبداد يستند على أساس متين قوامه وجود ’الإنسان المستبد’، الذي هو عملياً الإنسان العادي، الذي يمارس الاستبداد كل في مجال اختصاصه: الرجل في الأسرة (والمرأة كذلك)، والمسؤول الصغير، إلى أن يصل الهرم الاستبدادي إلى القمة.
ولكن إذا وافقنا على هذه التشخيص، ألا يطرح هذا إشكال حلقة الاستبداد المفرغة التي لا فكاك منها؟ يتساءل الكاتب: ’من أين للعرب والمسلمين القدرة على تشغيل مؤسسات البنى الفوقية كما يقول الماركسيون وبناهم التحتية تنضح بالاستبداد؟ هل من الممكن أن تكون نظرة العنصريين الغربيين لنا صحيحة وهم يقرّون بعدم قدرتنا على تشييد بناء لا نملك له أسسا؟ قد يفاجأ البعض بإجابتي لأنها نعم. هم محقّون في التهمة ولكن…’ ويضيف أن الحل يكمن في تفجير الطاقات الكامنة حتى في المجتمع الذي يهيمن الاستبداد على كل طبقاته… يصل المرزوقي إلى هذا الاستنتاج عبر تأملات طويلة، يستلهم فيها الطبيب المرزوقي نموذجاً آخر، هو النموذج الإداري لتقديم الخدمات الصحية، ويدلف إلى تأملات أخرى في الطبيعة الإنسانية لا بد أن تواجه اعتراضات عديدة أصبحت مألوفة في حق مثل هذه الاستنتاجات التي تستند إلى مقولات مثيرة للجدل من علوم الحيوان والطبيعة.
لا نريد أن نتوقف عن هذه المسائل، التي نترك للقارئ استنطاقها وتحديد رأيه الخاص فيها، ولكنا نكتفي هنا بتساؤل بسيط هو: لو أن طبيعة مجتمعاتنا هي صناعة وإعادة إنتاج الاستبداد من القاعدة إلى القمة، فلماذا لا نجد الاستبداد قد تحول عندنا إلى ’ديمقراطية’، بمعنى أن تكون سطوة المستبد تقابلها استكانة الضحايا، فلا تكون هناك مقاومة ولا يحزنون، ولا يحتاج المستبد إذن إلى كل هذه الجيوش من المنافقين ولا إلى استخدام كل هذه الأجهزة القمعية، ولا يكون هناك أي داعٍ لتلك الترسانة الثلاثية التي وصفها المرزوقي: التضليل، القمع والإفساد، للإبقاء على الأوضاع؟ هذا سؤال لا بد من إجابة عليه إذا كان لنا أن نقبل بفرضية استبدادية المجتمع، أو قابليته للاستبداد.
د. عبد الوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن