هذا المقال ليس عن الإسلام، بما هو أساسا الإيمان بالله والعمل بمكارم الأخلاق التي جاء بها رسوله الأعظم، وليس عن الإسلام الدعوي أو الخيري وإنما عن الإسلام السياسي، أي عن الحركات السياسية التي جعلت من الإسلام المرجعية الفكرية للسعي للسلطة وممارستها والحفاظ عليها.
وأيضا لضرورة التوضيح.
طبعا، لا يضع عاقل في نفس السلّة حركة إرهابية مثل داعش وحركة مقاومة وطنية مثل حماس.
طبعا كل الآثام التي انتفض ضدها الإسلاميون من قمع وفساد داخل حدودنا هي حقيقية حقيقة المظالم الكبرى التي لحقت ولا تزال المسلمين في العالم مثل اليغور والروهنجا والكشميريين.
طبعا كان الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي جريمة كبرى في حق الديمقراطية ومن حق الإسلاميين أينما نجحوا في انتخابات حرة ممارسة السلطة في إطار شروط العقد الديمقراطي.
طبعا لا يعني نقد الإسلام السياسي الانخراط في مواقف ألدّ أعدائه تجاهه، تحديدا عبد الفتاح السيسي كارثة مصر ومحمد بن زايد مصيبة العرب.
طبعا لست بصدد تصفية حسابات مع حركة النهضة بل أؤكّد أنني لست نادما على تحالف دفعت ثمنه غاليا. كان خيارا مبدئيا لتجسير الهوة بين العلمانيين والإسلاميين، وخيارا سياسيا عقلانيا لإدارة مرحلة انتقالية بالغة الصعوبة والحل الوحيد لحفظ استقرار تونس وديمقراطيتها وهو ما نجحنا فيه والحمد لله.
لكن هذا التحالف انتهى منذ فضّلت النهضة ابتداء من انتخابات 2014 العمل مع الثورة المضادة. سمى تشرشل سياسة المهادنة مع قوى الشر بحجة التوافق بكل ثمن ” تغذية التمساح على أمل أن تكون آخر من يأكل ”. لذلك واصلت مع كل الذين يقاسموني مشروع شعب المواطنين النضال من أجل وطن لا تبتزه ولا تحكمه التماسيح.
لكن، كما لا نقبل بالتعدي على حقوق الإسلاميين، لا نقبل أي إرهاب فكري يضفي القداسة على حركاتهم السياسية ويسحبها من محاسبة تخضع لها سائر الحركات وقانون السياسة الأول: الأعمال بالنتائج لا بالنيات.
*
والآن وقد وُضعت كل النقط على الحروف يمكننا أن نتساءل عما حقّقه الإسلام السياسي المعاصر بعد قرابة قرن من انطلاقه من مصر وذلك على أصعدة ثلاث: الصورة، الأداء والتكلفة.
عندما تنظر لطيف الإسلام السياسي، ما يشدّ الانتباه ليس صراعه مع جزء من المجتمع وإنما صراعه مع نفسه.
تفحّص العداوة المزمنة بين الإسلام السياسي الشيعي والسني، وآخر حلقاته الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران في اليمن الشهيد.
انظر طيف الإسلام السني وضراوة صراعاته الداخلية: الحرب في أفغانستان التسعينيات بين جماعة حكمتيار ومسعود ثم حرب طالبان ضدهما، وفي العقد الأخير الصراعات بين القاعدة وداعش، بين الفصائل الإسلامية السورية وكل جماعة تكفّر الأخرى.
إذا اعتبرت الآن الجزء غير المسلح من الطيف فستكتشف الشرخ العميق بين من يصنّفون أنفسهم في خانة المعتدلين مثل النهضة التونسية أو العدالة والتنمية المغربية، وبين الشق السلفي الذي يعتبر هؤلاء المعتدلين خوَنة للقضية، بين من يقفون مع ثورات الشعوب ومن يهادنون الاستبداد ويصطفون مع الثورة المضادة.
أي مصداقية لحركات سياسية ترفع شعار” الإسلام هو الحل ” إن كانت هي نفسها عاجزة عن حلّ مشاكلها، وأي حلّ هذا الذي يجب أن نتبناه وقد كثرت وتصارعت الحلول داخل الحلّ؟
*
قيّم الآن الأداء.
من يستطيع جديا تقديم بلدان حكمها أو يحكمها الإسلام السياسي مثل سودان البشير والسعودية وإيران كبلدان ناجحة؟
حدّث ولا حرج عمّا أظهرَته الأحزاب الإسلامية المدنية من قدرة على التأقلم مع منظومة الفساد الحاكمة بل والمشاركة معها في السلطة. تونس نموذجا.
ما يحتاج لوقفة طويلة هو المثال التركي الذي يُقدَّم كأسطع دليل على نجاح الإسلام السياسي.
إن النزاع الفكري الذي يشق الساحة السياسية العربية والإسلامية منذ أكثر من قرن، هو أساسا بين العلمانية -بكل الأشكال التي اتخذت -وبين الإسلام السياسي بكل طيفه، والخلاف المركزي علاقة الدين والدولة.
بالنسبة لهذا الأخير فصل الدين عن الدولة هرطقة لأن الإسلام ليس إيمانا وعبادات فقط والاطروحة المركزية للإسلام السياسي هي بناء دولة تستقي شرعيتها وشريعتها من هذا الدين.
بالنسبة للتيار العلماني، نظرا لأن كل التجارب التاريخية أظهرت أنه لا وجود للدين أو الدولة خارج البشر، وانطلاقا من مبدأ أن البشر خير وشرّ، فإنه يجب حماية الدين من شرّ السياسيين الذين يستعملونه لبسط سلطانهم، وحماية السياسة من شرّ المتديّنين الذين يستعملون الدين لبسط نفوذهم. مما يعني أن على المتصارعين على السلطة أن يتقدموا مكشوفي الوجه، وأن يتركوا الدين وشأنه، ليكون كنزناَ المشترك -مثل اللغة والوطن والعَلم-الذي لا يحق لأحد ادعاء تمثيله وحده دون سواه.
عندما تنظر إلى تركيا اليوم، ترى دولة لا تأتمر بأوامر أي مرشد والفصل فيها بين السياسي والديني مقارنة بالسعودية وإيران أوضح من الشمس في عزّ الظهيرة. ترى أيضا سلطة تمارسها حكومة منبثقة من الانتخابات، تخضع لدستور وضعي وقوانين يسنّها البرلمان…. بل وألغت عقوبة الإعدام!
أن يكون قادة تركيا اليوم مسلمون ديمقراطيون وناجحون فهنيئا لتركيا والعقبى لنا لأنه لا يوجد أحسن من توليفة قادة مؤمنون ومتخلقون /مؤسسات ديمقراطية. لكن أن يحسب هذا على حساب الإسلام السياسي ففي الأمر تحيّل.
يمكن مقارنة الإسلام بالمسيحية، فكِلاهما دين. لكن لا يجوز المقارنة بين الديمقراطية والإسلام، لأن الديمقراطية ليست دينا، ومن ثمّ عبث البحث عن نقاط التقاء خيالية بينهما.
لا تجوز المقارنة إلا بين الديمقراطية والإسلام السياسي، وكِلاهما مشروع سياسي دنيَوي لتنظيم المجتمع.
في هذا المجال لم ولن يحصل أي توافق بينهما لأنهما على طرفي نقيض في المنطلقات والوسائل والأهداف.
لا في تونس ولا في تركيا أخذ النظام الديمقراطي فكرة واحدة من الإسلام السياسي، لكن هذا الأخير في شكله المعتدل والعقلاني هو الذي بلع كل كبرياءه و “أشهرَ” ديمقراطيته متبنيا كل أفكار الديمقراطية وقيَمها وآلياتها.
يقول لك البعض منهم: ألسنا أقدم الناس ديمقراطية والشورى ما أمرنا بها الدين الحنيف منذ أربعة عشر قرنا؟ يا للتعسّف على اللغة والتاريخ وكأنّ الشورى طُبقت طوال الزمن أو كأنها تعطي السيادة للشعب بأكمله وتنظم التداول السلمي على السلطة أو تحفظ الحقوق والحريات حتى لأعدائها!
*
أخيرا وليس آخرا: التكلفة.
تعرّض الغرب لضربات ارهابية موجعة، لكن ما يتناساه دوما أن تسعين في المائة من ضحايا الإرهاب المحسوب على الإسلام السياسي المسلح، هم من العرب والمسلمين.
هنالك أيضا الثمن السياسي والاجتماعي والإنساني الذي دفعته بلداننا والإرهاب هديّة ملكية جادَ بها الشيطان على كل الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي استطاعت تحت يافطة محاربته حشد دعم الغرب والطبقات العليا والمتوسطة المحلية، وإطالة عمر حكمها، ناهيك عما أعطته من حُجج لعودة الاحتلال المباشر كما وقع في أفغانستان بعد أحداث سبتمبر 2001.
لا ننسى الدور المدمّر للربيع العربي الذي لعبه الإسلام السياسي المسلح بتدخّله في مسار الثورة السورية أو الضربات الإرهابية في تونس، التي لعبت دورا كبيرا في عودة النظام القديم في انتخابات 2014.
قلّ من يقدّر أيضا إلى أي مدًى ضيّقَ الإرهاب المحسوب على الإسلام السياسي فضاء الحريات حتى على أعرق الشعوب الديمقراطية. فالقانون الذي سنّه الكونغرس الأمريكي تحت اسم Patriot Actمباشرة بعد أحداث سبتمبر 2001، والذي لا زال ساري المفعول، أعطى سلطات واسعة للبوليس وقيّد حرية الأمريكيين بكيفية لم تُعرف من قبل. من ثمار هذه العمليات الإرهابية أيضا خارج حدودنا هذا العدد الهائل من الكاميرات التي تحصي على الناس أنفاسها في كل المطارات والشوارع في بلدان العالم.
الأكثر إيلاما تشويه صورة المسلمين وجعلهم في كل أنحاء العالم محلّ شبهة وعداء. مما لا شك فيه أن وضعية ملايين المسلمين في الغرب أو في الصين أو في الهند لم تكن سهلة قبل بروز الإرهاب المحسوب على الإسلام السياسي، لكن ظهور هذا الأخير سمّم حياتهم بكيفية غير مسبوقة. ليست معاناة المسلمين في الهند جديدة لكن اعتداء بومباي سنة 2008 ساهم في رفعها إلى درجة بالغة الخطورة. تصوَّر أن غاندي -سبعين سنة بعد موته-يدفع ثمن دفاعه عن المسلمين، والحركاتُ الهندوسية المتطرفة تؤلّه اليوم قاتلَه لأجل هذا الموقف.
للتلخيص يمكن القول إن الإسلام السياسي المسلح قد تسبّب في قفزة للوراء في مجال الحريات في العالم كله وأضرّ كثيرا بالتقارب بين الشعوب والحضارات، ناهيك عن الضرر الفادح الذي ألحقه بصورة الإسلام نفسه، ولا أحد يعلم كم من الوقت سيمرّ قبل ترميم كل الخراب الذي أحدثه.
*
الإشكالية الكبرى ليست الفشل وثمنه، وهذه ظاهرة لا يكابر فيها عاقلان، وإنما سببه.
كان رأيي ولا يزال أن الفشل لا علاقة له، لا بالإسلام ولا بنوايا لا يشك أحد في أنها كانت تنبع من غيرة حقيقية على المسلمين.
مأساتنا التاريخية أن الوطنية والقومية والتقدمية أعطت للأسئلة التي طرحها تخلفنا السياسي والاقتصادي والتكنولوجي أجوبة خاطئة، أما الإسلام السياسي فكانت أجوبته خارج الموضوع.
لا شيء قدر تجربة الحكم يضع الإنسان في موقع يمكنه التمييز بين الواقع والأوهام، وما هي ألحّ الحاجيات بالنسبة للمجتمع. لن أستعرض إلا بعض عناوينها.
كيف نبني نظاما ديمقراطيا لا يستولي عليه الشعوبيون والفاسدون بسهولة؟ كيف نخلق اقتصادا تضامنيا في ظل الليبرالية المتوحشة؟ كيف نقاوم بطالة الشباب؟ كيف نخلق آلة مستديمة تقطع دابر الفساد ولا تفسد بدورها؟ كيف نعيد بناء النظام العربي بكل تعددية شعوبنا ليكون لنا مكان ومكانة بين الأمم؟ كيف سنواجه نظاما جديدا للأنترنت كالذي تسعى له الصين وإيران وروسيا والسعودية أي نظام مراقبة مطلق يعطي للاستبداد طاقات رهيبة، وفي المقابل أيُقبل أن يتواصل النظام القديم الذي يعطي لحفنة من الشركات الامريكية سلطة التحكم في عقول وقلوب (وانتخابات) أمم بأكملها؟ ماذا سنفعل تجاه الخطر الداهم المسمَّى الذكاء الاصطناعي الذي سيضعنا كعرب ومسلمين سنوات ضوئية وراء الأمم التي ستتحكم هذه المرة فيما هو أخطر آلاف المرات من البترول والمال؟ من أين نبدأ تدارك تبعات الكارثة المناخية التي تهدد وجود الأجيال القادمة؟
ويحدثونك عن الخلافة والشريعة وعلاقة الدين والدولة وخلافات الصحابة ومنهم من يصرّ على مواصلة معارك القرن الأول من الهجرة وكأنها وقعت البارحة.
لقائل إن يقول وهل من مسؤولية الإسلام السياسي أن يقدم حلولا للبطالة والانترنت والتغيير المناخي وخطر الذكاء الاصطناعي؟ طبعا. ألا يدّعي أنه هو الحلّ؟ عن أي حلّ يتحدث إن لم يكن لأخطر المشاكل التي تهدد مئات الملايين من المسلمين؟ قد يضيف محاورنا وهل الليبرالية أو الديمقراطية هي الحلّ؟ طبعا لا، فالليبرالية هي أكبر مشكل والديمقراطية لا تلعب إلا دور السماح لكل الآراء بالوجود وتجربة كل الحلول المقترحة.
الثابت أننا أمام إشكاليات غير مسبوقة، ليس من بينها واحدة لها حلّ إسلامي جدّي يتميّز به ويكون على يديه الخلاص منها. إنها قاعدة تنطبق على الجميع حيث لا يوجد لمثل هذه التحديات الضخمة أي حل مسيحي أو يهودي أو بوذي أو هندوسي. حتى الايدولوجيات العلمانية تراها في حالة تقادم متسارع مما يتطلب منها تجددا كاملا أو الإفلاس هي الأخرى.
*
لهذا قدر الحركات الإسلامية في العقد المقبل مواجهة خيارين أحلاهما مرّ.
الأول هو التمسّك بالثوابت وآنذاك طلاق بلا رجعة مع مجتمعات تعددية وفي أسوأ الحالات تأسيس أنظمة داعشية أو طالبانية خارج نسق التاريخ.
الثاني هو الانخراط في كبرى المنظومات الفكرية السياسية التي تصنع عالم اليوم والغد، أساسا الأشكال المرتقبة للديمقراطية والتقدمية والقومية والعالمية.
لقائل إن يقول نعم وستضيف لها قيم الإسلام. خطأ فهذه المنظومات الفكرية السياسية ليست منعدمة القيم لتنتظرها من الإسلام السياسي. أضف لهذا أن قوانين السياسة تنطبق على كل الأحزاب السياسية مهما كانت مرجعيتها كما تنطبق قوانين الجاذبية على الصواريخ والطائرات الشراعية. مما يعني أنك ستجد ضرورة داخل الأحزاب الإسلامية ما تجده في الأحزاب الأخرى: بشر من كل الطيف الأخلاقي وممارسات حزبية تمتد من أقصى المكيافيلية إلى أقصى المثالية.
ويبقى أنه لا شيء أهمّ فعلا من مكارم الأخلاق التي جاء بها خير البرية والقدوة الأولى، لكن فضاءها ليس أحزاب تدعي تمثيلها دون بقية المسلمين، إنما مجتمع بأكمله يجب أن يسعى لتحقيقها. آنذاك لا يهمّ أن تفرّق بيننا الأفكار ما دامت تجمعنا القيم لنتقدم معا ولو خطوة في تحقيق الأمر الذي لا يعصى: أن نكون خير أمة أخرجت للناس.
*
ختاما، يخطئ من يتصور أنني أتحدث عن فشل الإسلام السياسي من باب الشماتة. ذلك لأنني أتحرك داخل رؤية تؤمن بأننا جميعا خلايا نفس العقل الجماعي البالغ الذكاء، البالغ الحيوية، والذي لا يتوقف عن التجربة جيلا بعد جيل بحثا عن حلول لمشاكل الشعوب والإنسانية، وكل تجربة ناجحة هي نجاحنا جميعا وكل تجربة فاشلة هي فشلنا جميعا.
علينا ألا نبتئس من فشلنا أو نشعر بعقدة الذنب أمام إخفاق ما جرّبنا من حلول وطنية وقومية واشتراكية وإسلامية، فباب الاجتهاد لا زال مفتوحا على مصراعيه والشعار الضروري للمرحلة: العقل لا النقل.
كل ما علينا ألا نكابر، ألا نُحبَط وأن نجَنّد أحسن ما فينا لبلورة منظومة فكرية جديدة نتعلم من كل أخطأ الماضي وتجاربه الموجعة والرهان أكثر من أي وقت مضى أن نكون أو لا نكون.
**