أول من استعمل الكلمة هو الفيلسوف الفرنسي مان دوبيران سنة 1818 وعرّفها بأنها “العقيدة الداعية لتطوير الحريات”. من يومها لم يتوقف الجدل حول المفهوم، تفسيرا وتعريفا، توسيعا إلى المجال الفكري والسياسي، أو حصرا في الميدان الاقتصادي وحده. هكذا أصبحت الليبرالية، تكاد تكون مرادفة للديمقراطية عند المثقفين والسياسيين المصريين، وعند الشباب الأمريكي هي أقرب لما يُعرف بالديمقراطية الاشتراكية في البلدان الاسكندنافية، وهي أكبر شتيمة في أفواه اليساريين.
لن ندخل هذا الجدل وسنعني بالليبرالية وجهَي قطعة النقد أي:
– النظرية القائلة بأن بناء أفضل اقتصاد ممكن يمرّ بقداسة الملكية وحرية المبادرة الاقتصادية، في ظل المنافسة وآليات السوق، وبأقل تدخل من الدولة.
– النظام الرأسمالي الذي يضع هذه “المسلّمات” حيّز التطبيق عبر ما لا يُحصى ولا يعد من الشركات الخاصة، وعلى قمة الهرم الخمسمائة شركة الكبرى التي تتحكم في اقتصاد العالم وكبرى البنوك الخاصة. أما الهدف الأساسي لهذا النظام أيا كان مجال الإنتاج وظروفه، فتحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح، دون أدنى اعتبار للتكلفة الإنسانية أو البيئية، ثم إعادة توظيف جزء منها بما يضمن مزيدا من الإنتاج ومزيدا من الأرباح وهكذا بلا نهاية.
قيل كل شيء في الليبرالية، مدحا لِما أنجزت من تحسين مستوى عيش مئات الملايين، وقدحا لما كلّفته العملية من ثمن باهظ. جدل عقيم هو الآخر لن ندخله. ما يهمنا هو السؤال الوحيد الذي يجب أن يُطرح عند تفحّص أي منظومة، سياسية كانت أم اقتصادية: هل بإمكان هذا الكيان، بالحال الذي هو عليه وفي هذه الظروف، أن يتواصل، أم إنه محكوم عليه بالانهيار عاجلا أو آجلا؟
انظر للنظام السياسي السويدي بكل ما فيه من عيوب الديمقراطية التمثيلية، لكن أيضا بكل آليات التعديل التي يمتلكها، وبما يحققه من استقرار نتيجة التفاهم حول طريقة التداول على السلطة، ولا يَفُتك القبول الواسع الذي يتمتع به من طرف الشعب. تستطيع أن تقول إن هذا النظام قابل للتواصل لمدة طويلة.
خذ الآن النظام المصري الحالي، بكل ما فيه من قنابل موقوتة، وغياب أي آلية للتدارك والإصلاح الداخلي، ناهيك عن أدائه الأقل من متواضع والرفض المتعاظم له من قِبل شرائح مجتمعية تتوَسع دائرتها يوما بعد يوم. لن تكون بحاجة للقراءة في فنجان ولن يكذّبك التاريخ إن قلت: السؤال بالنسبة لهذا النظام ليس هل سينهار وإنما متى.
*
عندما نتفحص النظام الرأسمالي، وعلى ضوء الجائحة التي ضربَته كما يضرب الزلزال أفخم عمارة اعتقد مَن بنَوها أنها باقية للأزل، تتدافع للذهن جملة من الأسئلة:
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل بسلسلة إنتاج مفككة حلقاتُها موزّعة في العالم أجمع وفق أرخص يد عاملة، فإذا ضربَت جائحة كالتي نعرف اليوم تعطّلَ الإنتاج وأُلقيَ بملايين العمال إلى البطالة؟
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل وكبرى الشركات العالمية في ميدان التبغ والمشروبات الغازية والأكلات الجاهزة متهمة من قِبل كل أخصائيي الصحة العمومية أنها تتربح من السرطان والسكري وأمراض القلب، وأنها سبب مرض مئات الملايين من البشر؟ حدّث ولا حرج عن دَور شركات الأدوية والسلاح.
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل رغم ثمن تدمير البيئة عبر ما تنتجه شركاتها من مواد كيماوية تسمم بها الأرض والسماء والبحر؟
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل في ظلّ توسع الهوة الطبقية بين البلدان وداخل كل بلد، واضعة بين يدي واحد في المائة من السكان خمسين في المائة من ثروة العالم، مما يمكن اعتباره وضع بذور كم من حروب وكم من ثورات قد تأتي على الأخضر واليابس؟
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل بعد الطلاق بين رأس المال المستثمر في الصناعة ورأس المال المستثمر في المال، أي في المضاربة بالبورصة؟ أيّ تبرير اقتصادي -ناهيك عن الأخلاقي-لوضع الأرباح الخيالية السريعة لحفنة من المضاربين -وأكثرهم لصوص ومحتالون-فوق مصالح ملايين من البشر يمكن أن يفقدوا كل مدخراتهم في لمح البصر؟
– هل يمكن لليبرالية أن تتواصل في ظل الحرب التجارية الطاحنة اليوم بين الصين وأمريكا، وفي ظل شبح عودة الحدود الجمركية التي ستؤدي، أمام الشركات العالمية، لكمّ هائل من القيود والعراقيل، لتضع حدا للسوق الواحدة المفتوحة؟
في إطار الوضع الحالي في العالم و ما نعرف عن تاريخ الليبرالية، قد يكون أقرب ردّ موضوعي على كل هذه الأسئلة هو لِمَ لا؟
لو كانت جرائمها تجاه البيئة كافية لانهيارها للفظت أنفاسها في القرن التاسع عشر، حيث وصل التلوّث للصناعات الجديدة في كبرى المدن الغربية إلى درجة من الخطورة أدت لولادة فرع جديد في الطب اسمه “طب الشغل”، والحال أنه كان طبّ آثار الشغل الذي دمّر ولا يزال يدمّر صحة الملايين.
لو كانت جرائمها تجاه الإنسان كافية لانهيارها للفظت أنفاسها على أقصى تقدير في بداية القرن العشرين. لا نتخيل اليوم حجم الظلم الذي سُلّط في القرن التاسع عشر على ملايين الفلاحين الذين انتُزعت أراضيهم كما حدث في اسكتلندا، أو أجبرهم الفقر -كما حدث في فرنسا وألمانيا-على الالتحاق بالمصانع للعمل أكثر من اثنتَي عشر ساعة بأجر لا يكاد يسد الرمق.
لذلك لمّا ألغت بريطانيا الرق في مستعمراتها سنة 1933 تعالى الصراخ بأنه على الدولة أن تبدأ بإعتاق الرقيق الأبيض أي عموم الشعب البريطاني. لم يكن في ذلك المطلب أيّ مبالغة لأن الليبرالية كانت تستغل الطبقة الكادحة المحلية بنفس العقلية التي كانت تستغل بها عبيد المستعمرات. وعندما كان هذا الرقيق الأبيض يثور رفضا لتشغيل أطفال في الخامسة من العمر في مناجم الفحم، كانت الدولة تبعث له بالجيش وبالخيّالة تحديدا لتقتيل جماعي لمتظاهرين سلميين، كما وقع سنة 1817 في حادثة سان بترز فيلد الشهيرة في مدينة مانشستر.
ومع هذا ورغم كل الجرائم في حق الإنسان والبيئة، استطاعت الليبرالية أن تتواصل عبر توزيع الفتات ، وبما أظهرته طوال القرنين الأخيرين من قدرة على المناورة والتأقلم والتنازلات للطبقة الشغيلة، وخاصة من براعة هائلة في غزو مراكز القرار السياسي والثقافي، والتأثير عليها لحماية مصالحها، المشروعة وغير المشروعة.
ألم تخرج سليمة ومعافاة وأكثر حيوية أو قل شراسة من أيّ وقت مضى، بعد أزمة 2008 وقبلها أزمة 1929؟ ما الذي يجعلنا نأمل أن يختلف مصيرها بعد كورونا وقد تكون مجرد أزمة من بين أزمات، وإن كانت أضخمها؟
*
رسميا انهار الاتحاد السوفياتي يوم 26 ديسمبر 1991 عندما أنزِل العلم السوفياتي ورُفع العلم الروسي على الكرملين لأول مرة. ثمة من لا زال يظن أن هذا الانهيار لأشرس خصوم الليبرالية كان الهدية الملَكية، وسيتضح يوما أنها كانت هدية مسمومة لأن منظومة دون رادع يحفظ نوعا من التوازن، هي مثل ثدييات في الطبيعة حين تختفي منها الحيوانات الكاسرة، فتأكل كل العشب الذي لا يستطيع التجدد لكثرتها فتموت في الآخر من الجوع. كذلك الأمر مع الأنظمة السياسية والاقتصادية عندما لا تجد من يجبرها على التوازن فتغلو وتتسبب في هلاكها.
هل نحن اليوم في مثل هذه الوضعية؟
طبعا لا، لكن ثمة أكثر من ظاهرة تنبؤنا بأن عهد العجرفة قد ولى وأن أذكى حراس المعبد بدأوا يشعرون بميدان الأرض تحت أرجلهم. ما معنى أن يُمضي في أغسطس الماضي 181 رئيس شركة أمريكية كبرى، عريضة يتعهدون فيها بأنهم سيأخذون بعين الاعتبار مصالح العمال والمجتمع، وليس فقط مصالح مالكي السندات؟ لماذا نقرأ اليوم في الجرائد الأمريكية مقالات تطرح بصيَغ مختلفة سؤالا ما كان يُلقى قبل سنة: كيف نمارس رأسمالية مختلفة؟
كأن هناك داخل جزء من الطبقة الأكثر إيمانا بالليبرالية، بداية مراجعات أكثر من موجعة. ربما لأن أنضج كبار القوم يشعرون أن كارثة التغيير المناخي التي تترصدنا والتي يتحملون جزءا كبيرا من مسؤوليتها قد لا تترك أرضا قابلة للسكن لأحفادهم ولا حتى لأبنائهم.
لكن، ما هو مستوى استعدادهم للمراجعة وما هو حجم تلك المراجعة؟ ما أقرأ بين السطور هو أن المراجعة -الموجعة جدا بالنسبة لهم-هي القبول بِدور ما للدولة، ذلك الكيان الذي تقول مقدساتهم بضرورة بقائه بعيدا عن الشؤون الاقتصادية.
ربما لا توجد أكذوبة أكبر من التي أشاعتها الليبرالية، حيث ادعت دوما أن كل ما تريده من الدولة هو نوع من الحياد الإيجابي وترك المؤسسات الاقتصادية تعمل لخلق الثروة التي سيجني المجتمع ثمارها.
عندما تتفحص العلاقة الحقيقية طوال القرنين الأخيرين، ستكتشف أن الليبرالية طلبت كل شيء من الدولة وأخذت منها كل شيء، ولم تعطِها في المقابل إلا القليل، وأنها لم تعش وتترعرع بفضل اليد الخفية لصاحب القداسة السوق، أو بفضل حرية المبادرة، وإنما بفضل حماية الدولة التي كانت تحتقرها.
فطِوال القرن التاسع عشر، عندما كانت الاحتجاجات العمالية في أوروبا أو أمريكا لا تتوقف، كانت الشركات تستصرخ الدولة فتبعث بشرطتها وأحيانا بالجيش لتخليصها من ورطتها.
وطوال القرن العشرين شاهدنا كيف استصرخت الشركات الغربية المنتصبة في بلدان العالم الثالث دولها لمواصلة سرقة موارد الشعوب الفقيرة. هكذا حصل الانقلاب في إيران سنة 1953 للمحافظة على ضرع البترول الرخيص، وفي غواتيمالا سنة 1954 للمحافظة على مونوبول الموز وسنة 1956 لاسترجاع بقرة حلوب اسمها قناة السويس، وأخيرا وليس آخرا الانقلاب في الشيلي وقتل رئيس منتخب لأنه كان يريد ثروات بلاده لشعبه لا للشركات الكبرى.
وفي القرن الواحد والعشرين رأينا سنة 2008 نظاما مصرفيا مجنونا يتهاوى من كثرة تلاعبه بأموال الناس، وفي الأخير لم يجد من ينقذه من الإفلاس إلا الدولة.
على الأقل يمكن أن نعترف للصين بأنها لا تمارس النفاق السائد في الغرب، حيث لا أكثر وضوحا في هذا البلد من الحلف بين دولة في خدمة تامة لليبرالية، وليبرالية في انصياع تام للدولة.
الحديث عن ”عودة” الدولة إذن لا معنى له لأن الدولة لم تكن غائبة يوما واحدا من اللعبة وإنما كانت في أغلب البلدان التي تدين بالليبرالية مثل كلب الحراسة، ما إن تصفّر عليه حتى يحضر للدفاع والهجوم على كل من يمثل خطرا، أو مثل الجسم الضروري لحياة الطفيلي الملتصق بالأحشاء يمتص طاقتها ولا يضيف لها شيئا.
للتذكير قبل مواصلة الحديث، الدولة بالمفهوم التقني المحدَّد هي هياكل ومؤسسات تملك موارد بشرية ومادية ومعرفية، محركها النظام السياسي وهدفها الأساسي الصالح العام. على خلاف هذا، الليبرالية هي شركات تملك موارد بشرية ومادية ومعرفية محركها أشخاص ومجالس إدارة وهدفها الأساسي الصالح الخاص.
قد يكون من الإجحاف القول إن هناك دوما تضارب بين المصلحتين، لكن المؤكد أنه لا أكذب من شعار “ما هو صالح لجنرال موتورز صالح لأمريكا”.
كلنا نعرف اليوم ما هو في صالح العالم والبشرية: وقفُ مصانع الفحم والغاز، تحريم المبيدات الكيماوية ، تأميم شركات الأدوية لتصنع ما يحتاجه العالم لا ما تحتاجه الحسابات البنكية، وضع قيود صارمة على المعاملات في البورصة حتى لا تتجدد كارثة 2008، منع المشروبات الغازية والأطعمة المعدّة والتبغ أو فرض ضرائب قاصمة للظهر ، وضع غابات البرازيل والكونغو وإندونيسيا تحت الحماية الدولية لدورها الهائل في التقليص من الاحتباس الحراري وتعويض الدوَل والسكانَ المحليين عن خسارة صناعة الخشب ، وضع القطب الشمالي كله، مثله مثل القطب الجنوبي، تحت حماية اتفاقيات دولية تحرم أي استثمار غازي أو بترولي فيه، ومنعه حتى على الملاحة عندما يفتح فيه الاحتباس الحراري طرقا بحرية لخطورة التلوث فيه، تمويل البطالة الناجمة عن هذه الإجراءات وبناء اقتصاد تضامني مركز على الطاقات النظيفة من ضرائب على الثروات التي تزيد عن حدّ معيّن وعلى الشركات الكبرى مثل غوغل وآمازون وفايس بوك وآبل ومن مردود إغلاق الملاجئ الضريبية في كل العالم التي هي اليوم أكبر الخزائن لجمع السرقات التي تذهب حتى كبرى الأمم ضحيتها.
عندما تنظر لهذه القائمة، تتضح لك استحالة تطبيقها لأن الليبرالية ستختار انهيار العالم على انهيارها هي بمثل هذه الاجراءات.
على الأقل هل يمكن إدخال بعض التحسينات وكل ما لا يدرك كله لا يترك جلّه؟
يتطلب حتى هذا أوسع حلف دولي لمواجهة الأخطبوط الليبرالي. ما أبعدنا عن شيء كهذا ونحن نرى أن الاتحاد الأوروبي نفسه عاجز عن المواجهة. أيّ دولة اليوم قادرة ولو على الصعيد المحلي، أن تأخذ إجراءات للحفاظ على صحة مواطنيها وحماية بذورها، وهو ما يضعها مباشرة في موقع صراع مع كبرى شركات تدمير المحيط والإنسان؟ طبعا لا بدّ أن تكون دولة وطنية وديمقراطية تضع الصالح العام -كما هي مهمة كل دولة تحترم نفسها ووظيفتها-فوق كل اعتبار. لكن كيف يمكن اليوم للديمقراطية أن تواجه ليبرالية اخترقتها وطوّعتها في أكثر من مكان وزمان.
إنها المراجعات الموجعة التي ستواجِه الديمقراطية إذا لم تُرِد أن تغرق هي الأخرى يوم تغرق الليبرالية، ونغرق معها جميعا لا قدّر الله.
ما اعمق هذا التحليل. شكرا دكتور