إن حالة تفاقم الفقر والبطالة وانهيار الطبقة الوسطى (ومن ثم الحالة النفسية الكارثية لشعبنا) نتيجة جملة من العوامل السياسية الداخلية والخارجية والعوامل الاجتماعية والثقافية والتعليمية الخ… لكن أكبر عامل في شبكة الأسباب المعقدة عطالة وهشاشة ورداءة النظام الاقتصادي.
هذا النظام -خاصة في ظل عدم الاستقرار السياسي-يزداد كل يوم عجزا عن انتاج ما يفي بحاجياتنا فما بالك بالتصدير واثراء البلاد. هو مثل معاق يمشي على رجلين كسيحتين: مؤسسات دولة نخرت فيها الرداءة والبيروقراطية والاتحاد (تونس الجوية نموذجا) ومؤسسات اقتصاد ريعي فاسد أصبح عالة حقيقية على البلاد.
المصيبة أن حالة هذا النظام لا تختلف في شيء عن حالة الثمانية الأنظمة المجتمعية الأخرى أي
النظام السياسي والتعليمي والقضائي والثقافي والإعلامي والصحي والتضامني الاجتماعي والديني –الروحي.
يفترض منها كلها أن تكون بصحة جيدة وأداء مقبول لتوفر للمجتمع الخدمات التي تمكن من العيش الكريم ولم لا للتمتع بالحياة .
كلها على العكس في حالة متقدمة من الترهل والضعف والعجز والوهن ومن ثم هذا الوضع الخدماتي الكارثي الذي تعيشه تونس في كل المجالات.
*
حتى نفهم مكمن الداء يجب العودة لمفهوم النظام المجتمعي.
عندما كنت أدرّس النظام الصحي في الجامعات التونسية والفرنسية كنت أرسم على السبورة هرما بخطوط افقية أقسمه إلى جملة من الأقسام التي ترتكز على بعضها البعض. القاعدة العريضة التي يرتكز عليها كل ثقل الهرم هي القيم (الوطنية الحقيقية في النظام السياسي، الإنسانية في النظام الصحي، محبة العدل والانصاف في النظام القضائي الخ)
فوق هذه القاعدة طبقة القوانين التي تسير بيروقراطية النظام (والمبنية على قيم قاعدة الهرم)
وفوقها طبقة المعارف والعلوم والقدرات التقنية المتجددة طول الوقت
ثم طبقة الموارد المادية الكافية والحسنة التوزيع
ثم طبقة الموارد البشرية التي تعمل كل ما في وسعها لتقديم أحسن الخدمات مدفوعة بشرفها الشخصي والمهني.
انظر لأنظمتنا وتفحص حالة هذه الطبقات وستصاب بالهلع ثم بالقرف ثم بالإحباط.
فكل هده الأنظمة مبنية على قاعدة رخوة من القيم وعلى قوانين بالية وعلى معارف قديمة لا تتجدد وعلى ندرة وسوء توزيع الموارد وعلى بشر همهم استخدام النظام لا خدمته (طبعا إلا من رحم ربك)
من يريد نقد هذا التشخيص ما عليه إلا ان يراجع حالة الخدمات التي تقدمها الأنظمة التسع للمجتمع التونسي ولا داعي لتحطيم معنوياته بالمقارنة مع ما تقدمه نفس الأنظمة لمجتمعات عرفت كيف تبني دولا تكون في خدمتها لا دولا تكون هي في خدمتها.
ذلك أن أسباب الانهيار المتسارع لأنظمة لم يقع تعهدها واصلاحها مند نصف قرن مسؤولية النظام السياسي اساسا.
المفروض فيه أن يكون قائد الجوق يمرن كل عازف وينسق بينهم لكن من أين له ذلك وهو الذي لم يكف عن إعطاء القدوة السيئة عندما استولى عليه بشر مهمتهم استخدام النظام لا خدمته فاستشرت العدوى في كل أعضاء جوق لم يعد له من الجوق شيء.
*
ما المطلوب حتى لا تسقط هذه الأبنية المتداعية على رؤوس الأجيال القادمة؟
لنتخيل عالما مثاليا فيه رئيس مسؤول يخدم النظام ولا يستخدمه
وطبقة سياسية واعية ومسؤولة والشرف الشخصي قبل كل التشريفات محور كل موقف وتصرف
ونخب مهنية مرتعبة من الحالة للنظام الذي تعيش به ويعيش بها،
أضف لكل هذا نخبة من الباحثين الذين لهم دراية بكل مواطن الضعف في طبقات الهرم وحلول آنية ومتوسطة المدى وبعيدة المدى لا فقط للإصلاح وإنما لولادة جديدة.
لا ننسى شعبا من المواطنين منخرط كل في ميدانه في إصلاحات يساهم في تكلفتها ماديا ومعنويا لمعرفته أنه هو من سيربح في العملية.
أنظر الواقع: العكس هو الموجود ولا داعي للتفاصيل لمزيد من تعكير مزاجكم خاصة وهو في الحضيض كما أتصور.
هل نبقى مكتوفي الأيدي بانتظار معجزة ما أو منقذ -دجال جديد؟
*
ما أردده دوما على قناعة مطلقة أن تيار التاريخ (الذي قد يعطله لكن لن يوقفه دجال أو نخبة فاسدة أو تآمر خارجي) يقودنا من حالة شعوب الرعايا إلى حالة شعوب مواطنين ومن دول الفرد والأجهزة واللوبيات إلى دول القانون والمؤسسات.
حقا لا زلنا بعيدين عن بر الأمان ونسبة الرعايا أكبر بكثير من نسبة المواطنين
لكن تسارع التاريخ يبشر بكل أمل. ثمة اليوم حراك داخل النظام السياسي لتأهيله وجعله في مستوى الحالة الاستعجالية التي تعيشها البلاد.
لكن على الشعب أن يجد نفس الحراك الخلاق داخل الأنظمة الأخرى مما يعني أن على الأطباء –المواطنون والاعلاميون –المواطنون ورجال الاعمال-المواطنون والمثقفون الخ أن يستفيقوا من حالة الذهول التي قد تأخذهم وهم يرون انهيار النظام الذي يخدمونه ولا يستخدمونه. عليهم التنادي اليوم قبل غد للتفكير في الإصلاحات الضرورية الآنية والمتوسطة والبعيدة المدى.
إنه الحوار الوطني الحقيقي الذي نحتاج داخل كل نظام مجتمعي وبين كل الأنظمة للتنسيق بينها. ويوم تكون البدائل واضحة انتجتها مؤتمرات وطنية قطاعية
وإذا تم اللقاء بينها وبين نظام سياسي تعافى فسيمكن إعادة البناء على قواعد تمكننا من مواجهة التسونامي الثالث من المشاكل والتحديات.
بادروا ولا تنتظروا أن يأتيكم أحد بالحلّ على طبق من ذهب
يتبع
الحلقة الثالثة والأخيرة: الأولوية الأولى مكرر-مكرر