في الجزيرة نت
إنه المنعطف في معركة الاستقلال الثاني
mercredi 12 janvier 2011
من منّا لم يشارك يوما في نقاش عاصف حول “جبن” الشعوب العربية وانبطاحها وخمولها واستقالتها ؟ من منا لم يسمع يوما أو لم يمارس هو نفسه خطاب تحقير الآخر وجلد الذات؟ مثل هذا الخطاب كاد أن يكون اختصاصا عربيا . الغريب في الأمر أنه لو تجاسر غربي واحد أو إسرائيلي على التفوّه بعشر ما نتفوّه به بخصوص أمتنا لقامت الدنيا ولم تقعد ولانهالت عليه الاتهامات بالعنصرية وربما لنزل الناس للشارع لإحراق القنصليات .
كان ولا يزال مثل هذا الخطاب واحدا من أخطر مظاهر الأزمة النفسية التي نمرّ بها أفرادا وشعوبا وكان الرأي ولا يزال أننا لن نستطيع أن نتقدم إن لم نرفضه بقوة جملة وتفصيلا . ومن ثمّ تردّدي في المشاركة في برنامج الاتجاه المعاكس الذي خصّصه فيصل القاسم السنة الماضية لموضوع خمول الشعوب العربية . أذكر سيل الشتائم التي كالها محاوري السيد محمد الخضري لشعوبنا المسكينة وأنه وصفها بأقذع الأوصاف نافيا حتى أن تكون شعوبا حية وجعلها ميتة وفي نفس الوقت تتمرغ في وحل العبودية التي يبدو أنها خلقت لها من الأزل.
للأمانة لم أشعر باستنكار أو غضب أمام خطاب سمعته مليون مرة وإنما بنوع من الرثاء للرجل . كان واضحا أنه لم يكن ينطق بالبغض وإنما بحب معكوس أي أنه كان يصب جام غضبه على شعوب وأمة من شدة ألمه على أنها على غير الحالة التي يريده لها. نفس الشيء بالنسبة “للاستفزازات الإيجابية ” التي حاصرني بها فيصل القاسم وأنا أدافع عن شرف شعوبنا. كنا ثلاثتنا، المهاجمين والمدافع ، مجرّد أصوات ينطق بها اللاوعي الجماعي بحثا عن تقييم صحيح للوضع الذي نتخبط فيه أفرادا وشعوبا وأمة.
والآن وبالفم الملآن يمكن القول بعد الأحداث الأخيرة في تونس والجزائر، والبقية آتية لا ريب فيها ،أن التشخيص الصحيح هو الذي رفض دوما خطاب تحقير الآخر وجلد الذات وأن الذين انخرطوا فيه ارتكبوا في حق أنفسهم – البعض عن حسن نية والبعض بتخطيط مجرم- خطيئة وخطأ لا يغتفران .
* لفهم الخطيئة يجب العودة لتركيب النظام السياسي العربي . هو من ناحية الشكل جملكية أو ملكية . هو من ناحية الوظيفة نظام احتلال داخلي لأنه استولى على دولة الاستقلال الأول التي بناها آباؤنا وأجدادنا في خمسينات القرن الماضي لإنهاء تبعيتنا واستنزاف ثرواتنا لصالح الأجنبي .وعوض أن يواصل برنامجهم التحريري استعمل جيشنا وشرطتنا وقضائنا لقمع الحريات ولحماية عصابات النهب والسلب أي أنه استبدل الاستعمار الخارجي باستعمار داخلي .
من ناحية الهيكلة هو مبني على الثلاثي المدنّس المعروف :
الاستفراد بالسلطة المطلقة من طرف شخص واستفراد عائلته أو قبيلته أو طائفته بكل مغانمها وعلى رأسها المال العام .
التضليل عبر تزييف الانجازات الوهمية التي يطبل لها “الإعلام” الرسمي مع فبركة ” مؤسسات” سياسية مثل البرلمان تغطي على النواة الصلبة التي تحكم فعلا وهي العصابات والمخابرات ، أضف لكل ” السيرك” “انتخابات ” غير حرّة وغير نزيهة لإضفاء شرعية على ما لا شرعية له ولإدعاء تمثيلية غير موجودة إلا بصنف أو آخر من العنف والتدليس.
القمع بشتى أصنافه وعلى رأسه التعذيب الذي يجب أن يبقى حاضرا بقوة لإرهاب الناس . مشكلة مثل هذا النظام غير السوّي الاستمرار وهذا لا يكون إلا بكسر أي مقاومة يمكن أن تشكل خطرا عليه وتبدأ في العقول والقلوب كيف ؟ هناك مهمة أجهزة التضليل التي تسمى تجاوزا أجهزة الإعلام وذلك للخبطة الأفكار وتقديم الحق باطلا والباطل حقا . الأهمّ تحطيم الروح المعنوية لأن الخائف ، اليائس ، المحبط ، الفاقد الثقة في نفسه وفي الآخرين هو آخر من يتمرّد.
أنظر الآن لتعدّد وخبث تقنيات كسر هذه الروح المعنوية.
تركيز كل الفضائل في شخص الطاغية واللامقول في خطاب التمجيد للقائد الفذّ أنكم كلكم لا تساوون شيئا أمام شخص كادوا أن يقولوا فيه استغفر الله” لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤ أحد”. أمام هذا العملاق يتضح ” قزمية” الجميع وحتى أقرب المقربين إليه .
وضع الجميع أمام خيارين أحلاهما مرّ ، إما تتمرّدوا ومصيركم أقبية المخابرات مع ما يعرف عنها من حسن الضيافة أو تسوّل حقوقكم بإظهار كل علامات الولاء والخضوع والتمسكن . مثل هذا الخيار يخلق نوعين من البشر . الأول هو صنف الانتهازيين المستعدين لكل التنازلات لجمع الفتات الذي يرميه لهم الطاغية والثاني هو صنف المتمردين . يتمّ التعامل مع الانتهازيين بالتشجيع ليتكاثروا كما تتكاثر الجراثيم ينشروا المرض الخبيث مع ما يصحبه من تخلّي عن الكرامة والرجولة والأنفة والاستقلالية وهي القيم التي لا يستطيع نظام كهذا تحملها. أما المتمردون فيجب كسر شوكتهم لا فقط بالقمع وإنما أيضا بإشهار الحرب النفسية ضدهم . هم إما خونة أو مجانين أو شرذمة ضالة أو في أحسن الأحوال معارضة مفككة وضعيفة وعاجزة وليس لها برنامج الخ .
استعمال كل وسائل الترويع حتى يعيش الناس تحت تهديد الإيقاف والطرد من العمل أو الجامعة ليبقى الخوف من السلطة هو العامل الرئيسي في تعامل الناس مع السلطة .
بثّ البلبلة ومنع الثقة المتبادلة بزرع أكبر عدد ممكن من المخبرين حتى يشكّ الجار في جاره والأخ في أخيه وهكذا يمكن لدولة الاحتلال الداخلي مواصلة التعامل لا مع شعب وإنما مع غبار من الأطراف .
الضرب بقبضة من حديد على أي تحركات جماعية لبث الرعب والإحباط وتشجيع التسليم بأننا أمام نوع من القضاء والقدر لا إفلات منه إلا بالاستجارة بالعادل الذي في السماء لينقذنا من الظالم الذي على الأرض.
نحن هنا أمام سياسة مخطّط لها بخبث شديد وتستعمل كل الوسائل الإجرامية لتحقيق الهدف الستراتيجي وهو خلق مجموعة بشرية ينخر فيها اليأس والعجز والخوف ولا ترى وسيلة للبقاء غير الاستكانة والمذلة والانتهازية لتحقيق الحدّ الأدنى من شروط العيش ولو كان عيشا مهينا.
خطيئة النخب التي تنخرط في خطاب تحقير الآخر وجلد الذات هو خدمتها غير الواعية لهذا المشروع الجهنمي وهي بهذا كالطبيب الرديء الذي يقف أمام مريض هاجمته الجراثيم واستشرى فيه اليأس ليزيد من همّه بتقريعه على الحالة التي هو عليها بدلا من الانكباب على التشخيص الموضوعي للمرض والبحث له عن علاج أوّله رفع الروح المعنوية التي بدونها لا نجاح لأي علاج .
لفهم الخطأ يجب العودة للمعطيات التاريخية التي يجهلها أو يتجاهلها خطاب النحيب والسبّ :
أن زمن الطبيعة يقاس بملايين السنين والحضارات بالآلاف والدول بالمئات والأنظمة بالعشرات ولا يمكن أن نفرض زمن الأشخاص لا على الطبيعة ولا على الدول ولا على الأنظمة .ومن ثم على كل من يدخل في صراع مع نظام استبدادي أن يقبل أنه قد يأخذ منه العمر كله وإن لم يكن له ما يتطلبه الأمر من صبر ومثابرة فليبحث عن مجال آخر .
أن الأنظمة الاستبدادية تحفر قبرها بيديها وتموت بما تعيش به فترويعها للناس وإذلالهم والكذب المفضوح عليهم ينتهي بتمرد يبدأ بالأقلية ويتوسع للأكثرية وبما أنه ليس لهذه الأنظمة من أسلحة أخرى غير مزيد من القمع والتزييف فإنها تواصل انتحارها من منطلق وداوني بالتي كانت هي الداء لكن الدواء هو هنا هو سم زعاف لا يقود إلا للموت .
أن الشعوب الواقعة تحت الاحتلال الداخلي أو الخارجي تفرز من داخلها – وبدفع من النظام الفاسد نفسه- أفرادا يمكن مقارنتهم بوحدات المغاوير التي تنطلق في حرب استنزاف ضدّ العدوّ وتفتح الطريق لبقية الجيش الصعب التحريك لكن القادر وحده على حسم المعركة .
على فكرة ، آن الأوان لردّ الاعتبار للمغاوير العرب الذين خرجوا للحرب ضد الاحتلال الداخلي وقاموا بواجبهم على أحسن وجه وحفظوا القيم والشرف وفتحوا الطريق الذي ستتدفق فيه الجماهير قريبا، والكف عن الانخراط الأبله في دعاية الاحتلال الداخلي عن ضعف المعارضات وتشتتها وكأنه بوسع معارضة أن تتنظم تحت دكتاتورية . متى سيفهم الناس أن المعارضة مفهوم لا معنى له إلا في نظام ديمقراطي أما تحت دكتاتورية فلا وجود إلا لمقاومة إما مسلحة وإما مدنية كالتي يدعو لها منذ ربع قرن كاتب هذه السطور والتي أبلى فيها البلاء الحسن مئات الآلاف من الأبطال والبطلات المجهولين .
أن الشعوب كائنات حية بالغة الذكاء وحتى الدهاء والخبث . إن داهمها عدوّ من الخارج ومن الداخل فإن لها ما يكفي من الخبرة التاريخية لتقييم الوضع بمنتهى الدقة تعمل ببطء وبثبات على تدمير من يحاول تدميرها وأنها في آخر المطاف هي الأخرى تمهل ولا تهمل تنتظر اللحظة الملائمة لانقضاض النمر على فريسته .هذا بالضبط ما وقع في تونس في الثلاثة الأسابيع الأخيرة : خروج القمقم الجبار من حبسه وتفجّر البركان بما كان ينطوي عليه من حمم. * ما يقع في تونس اليوم منعطف في معركة الاستقلال الثاني ،لا لأنه سيعطي المثل للشعوب العربية الأخرى إذ هو نفسه أخذ المثل عن الشعب الفلسطيني البطل والشعب المصري العظيم، وإنما لأسباب أعمق أهمها.
تمرّد شعب من أكثر شعوب الأمة ميلا للمهادنة والاعتدال والوسطية مما يعني أن السيل بلغ الزبى . رسالة لكل الذين راهنوا ويراهنون على …على ماذا ؟ جبن الشعوب ، استكانتها ، تشبعها بأخلاق العبيد ….هاهاهاهاها !!!!!
انهيار كل آليات التدمير النفسي التي استعملها أخبث نظام استبدادي عربي . إن أخطر الشعارات التي ترفع في تونس وفي تظاهرات الجالية خارج البلاد منذ ثلاثة أسابيع ليست” الشغل استحقاق يا عصابة السراق ” ولا “تونس حرة وبن علي على برّة ” وإنما ” بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان .” وهذا الشعار استعمل بكل الصيغ الممكنة حسب المكان : بن علي يا جبان ، المحامي بوزيد ، الطالب الخ… لا يهان.
انهيار المشروع الغربي بحماية أنظمة مستبدة تمول بسخاء لإشاعة نوع من الرخاء يمكن من تخدير الشعوب بخصوص مطالبها الأخرى في الحرية والاستقلال والهوية . بسقوط الواجهة التونسية سقط كل أمل في توسيعها ولا شكّ أن هناك من يشغل دماغه في دوائر القرار لمحاولة تصور كيف يمكن تدارك تبعات الكارثة التونسية . إنها لحظة تاريخية يقول فيها الشعب للطاغية ولحماته كفى لن نرضى بالإهانة من اليوم ، نريد حقوقنا وكلها غير قابلة للتصرف وأولها حقنا في الكرامة وبلا شروط .
كل الدلائل تشير لقرب نهاية نظام سياسي ردّدت و سأردد أكثر من وقت مضى أنه إما تقضي عليه الأمة أو هو الذي سيقضي عليها. فهذه العصابات التي سرقت أموالنا وأهانتنا وباعت الاستقلال الأول الذي دفع من أجله الآباء والأجداد ضريبة الدم آيلة للزوال وبأسرع ما نتصور وقد سقط حاجز الخوف والشك في الذات، اليوم في تونس ومصر والجزائر وغدا في كل مكان.
نعم إنه أخطر منعطف في معركة الاستقلال الثاني وقد عادت الروح المعنوية لشعبنا ولأمتنا . لقد فتح باب الأمل مجددا ومن حقنا وواجبنا العودة لأحلامنا العظمى ومشاريعنا الكبرى حتى ولو كنا نعلم أن الطريق لا زال صعبا وطويلا وملآن بالأخطار . نعم يجب العودة بروح معنوية عالية لمشاريع بناء دول ديمقراطية ومواطنية ( وليس وطنية) تنتهي يوما باتحاد الشعوب العربية الحرة ، فنعود نحن العرب فاعلين في التاريخ لا عالة عليه. لكن ما يجب أن نفهم من الآن أنه لا تجدّد لنظامنا السياسي الذي هو بمثابة النظام العصبي للأمة إلا بثورة أخلاقية وبقدر ما بنيت أنظمة الاحتلال الداخلي على كل مفاسد الأخلاق فإن أنظمة الاستقلال الثاني إن لم تبنى على كل مكارمها فإنها لن تكون إلا فاصلا بين استبداد واستبداد آخر بين ثورة وثورة أخرى .