أبشروا… انتهى النظام السياسي العربي القديم
الاربعاء 24 آب (أغسطس) 2011
النظام السياسي العربي مثل عمارة مادت بها الأرض فإذا بها تتهاوى طابقا بعد طابق ويا لها من مناظر تثير الحزن عند أمثالي لكل ما ضاع لشعوبنا من دم وطاقة, وتثير الشماتة عند من كانت له هذه العمارة أكبر سجن. كيف لا يتشمت الشامتون أمام بؤس نهاية المستبدين الذين بدوا أحيانا أو حاولوا لعب دور أنصاف الآلهة والأنبياء. دكتاتور يخرج كالجرذ من جحره ويتفحصه طبيب القوات الغازية التي فتح لها الباب بغبائه وتهوره ثم يشنقه أناس من نفس طينته, دكتاتور ثان يهرب كالجبان ويكتشف الشعب أنه لم يكن إلا لصا من أعلى وأخطر طراز وأنه كان يستهلك المخدرات, ودكتاتور ثالث ظن نفسه فرعون مصر فإذا به يواجه قضاته مضطجعا وكان المثول واقفا ولو على العكاكيز ضرورة وهو الرجل العسكري الذي يعرف مبدئيا ما هي شروط الهيبة, دكتاتور رابع حرقوا وجهه فلاذ بالفرار مهددا بطريقة تثير التقزز بأنه عائد للبلد الذي رماه كما يرمى المنديل الملوث. ها هو الدكتاتور الخامس يتهاوى وينهار بعد أن استكمل الشعب الليبي العظيم ثورة كم نأسف أنها لم تتواصل سلمية لأن القذافي قرّر أن يقاوم مدّ التاريخ وكان مثل القشة التي تدّعي إيقاف العاصفة.
المهمّ أن لسقوط الدكتاتور الليبي دلالة أهمّ من سقوط أي دكتاتور عربي آخر وذلك لسببين اثنين,الأول متعلّق بطبيعة الشخص لأن هذا الرجل مثّل ذروة النظام القديم وأحيانا شكله الكاريكاتيري. ففي ميدان تسلط الفرد، فإن القذافي هو من ذهب أبعد شوط حيث تجاوز تضخم الأنا كل الحدود التي توقف عندها بقية المستبدين العرب، فالرجل كان يطمح في الواقع لدور النبي وكتابه الأخضر كان بالنسبة إليه القرآن الثاني. ربما حلم أن يكون الأول. وفي ميدان الفساد جعل النظام من ليبيا أغنى دولة وأفقر شعب لأنه تجاوز كل الحدود في تبذير موارد الشعب الليبي. أما حجم الفساد الذي مكّن أحد ابنائه من شراء نادي كرة قدم أوروبي فشيء غير مسبوق حتى في تاريخ أمة عرفت من الفاسدين ما لم تعرفه أمة سواها. أما بخصوص القمع فمجزرة سجن أبي سليم ليست إلا الجزء الطافي من جبل الجليد لحكم لم يتورع عن شنق المعارضين في الشوارع العامة واغتيالهم في الخارج باعتبارهم مجرّد كلاب ضالة. حدّث ولا حرج عن التعذيب الوحشي وعن جو الرعب الذي عاش فيه الشعب عقودا. في الدكتاتوريات ’’المعتدلة’’ حاول النظام حصار مؤسسات المجتمع المدني واستخدامها أما النظام الليبي فقد سحقها سحقا ومنع حتى فكرة وجودها تحت شعار “من تحزب خان ومن حاول التنظم خارج اللجان الشعبية خرج عن الإجماع وحقت عليه أقصى العقوبات”. إن كانت قلة الفعالية في مؤسسات الدولة الاستبدادية هي الخاصية الأولى نتيجة تطبيق مبدأ الولاء قبل الكفاءة، ففي ليبيا اتخذت قلة الفعالية هذه صورة كاريكاتيرية في إطار الفوضى غير الخلاقة التي حكم بها الدكتاتور على شعبه وهو يدمر أجهزة الدولة ولا يكف عن العبث بها في إطار هوس أيديولوجي متقلب. ومن خاصيات النظام العربي البالي أيضا العمالة وهذه كانت إحدى ركائز هذا النظام الفذ الذي بدأ ممانعا وانقلب عنصرا نشيطا من عناصر الحرب ضدّ الإرهاب لينتهي في القمامة بعد أن قرر الغرب الذي استعمله طويلا أنه لم يعد يصلح لشيء. أخيرا وليس آخرا الرفض الأخرق لكل صلح وإصلاح ومصالحة، والذهاب في المحافظة على السلطة إلى حدّ التنكيل بالشعب الثائر عبر جيش احتلال داخلي جلّه من مرتزقة أجانب يقتلون لأجل المال.
الأهمية الثانية لسقوط الطاغية وتبعاتها على مصير النظام العربي القديم ككلّ، الرسالة التي بعثتها الحالة الليبية لبقية الطغاة العرب الذين يتصورون إمكانية التحايل على الشعوب ووقف مسار نهر التاريخ
هي كالآتي: حتى ولو استعملتم كل ما في جعبتكم من أموال لرشوة النخب وكل جيوشكم ومرتزقتكم لقتل عامة الناس كما فعل القذافي، فإن الشعب يوم يقرر الحياة سيقتلعكم من جذوركم لأنكم وضعتم الشعوب أمام خيار مصيري: بقاؤه أو بقاؤكم وقد قرّر اليوم أنه هو الذي سيبقى وأنتم الراحلون، كلّف ذلك ما كلّف.
إنها الرسالة التي يصرخ بها الشعب السوري البطل كل يوم وليلة في وجه أمير الجملكية البعثية الأسدية المسمى كذبا رئيس الجمهورية العربية السورية. ومن المرجح أن يكون هو الدكتاتور السادس الذي سيرقص الشعب فرحا برحيله هو ومن معه.
هل سيتلقى أصحاب الجلالة والسموّ الرسالة التي تبعث بها شعوب الأمة إلى كل الطغاة، أن اللعبة القديمة انتهت بانهيار صور الشعب النمطية التي طمأنوا بها أنفسهم طويلا، بانهيار الخوف، بانهيار المؤسسة الأمنية والعسكرية، بانهيار المؤسسات السياسية والإعلامية للاستبداد، بانهيار مشروع الحماة الغربيين بحماية الاستبداد مقابل الخدمات؟
عندما تنظر إلى ما يفعل البعض من ترقيع دستوري لإعطاء مزيد من الصلاحيات البسيطة للوزير الأول أو التشدق بضرورة الإصلاح داخل نفس المنظومة، تفهم أنهم كمن يحاول ترقيع القناع على نفس الوجه. هم لم يفهموا بداهة من سقوط الطغاة الست أن المسألة ليست صلاحيات البرلمان والوزيرالأول وإنما إنهاء الفساد وحكم البوليس وربما تعوّد الاستماع لكلام المعارضين قبل فوات الأوان.
تحضرني هنا حادثة لها أكثر من دلالة كان بإمكانها منع أكبر طابق من العمارة من الانهيار لو….. بطل هذه القصة محمد السيد سعيد واحد من أبرز رجالات مصر في الميدان الإعلامي والحقوقي، وافاه الأجل المحتوم منذ سنتين بعد مرض عضال ألمّ به وجاء به لباريس للعلاج، حيث أشرفت مع هيثم مناع وفيوليت داغر على مرافقته للأطباء الفرنسيين ومتابعة مرضه الطويل في مستشفيات المدينة قبل أن يقرر العودة للقاهرة ليموت في بيته. كم أثار الرجل احترامي وهو لا يشتكي أبدا و كل همّه إلى آخر لحظة ما يحصل في مصر. كم أثارت إعجابي حرمه نور الهدى وهي ترافقه كل لحظة في رحلة الآلام بما لا يصدّق من الصبر والشجاعة والتضحية. تذكّرت هذا الرجل الفاضل وأنا أشاهد حسني مبارك ممددا على فراشه وراء القضبان وكان السؤال: يا ترى هل كان سيعرف هذه المهانة لو قبل رسالة محمد السيد سعيد؟ والقصة أن هذا الأخير في اجتماع عقده مبارك ببعض الإعلاميين قدم له مذكرة فيها مقترحاته للإصلاحات الضرورية. لكن المخلوع أعرض عنه وقال له كلاما فظا بما مقتضاه ’’ضعها في جيبك أنت هذه الرسالة’’. نعم، هل كان التاريخ يأخذ مجرى غير الذي أخذه لو فتح الله في تلك اللحظة القلب المغلق والعقل المختوم عليه بالشمع الأحمر ليقرأ الرجل مذكرة واحد من أذكى من عرفت من البشر وأكثرهم طيبة ووطنية، ولينتبه للكنوز التي تنطوي عليها مقترحاته. لكن ما بالطبع لا يتغير ومن طبائع المستبدين الذين ابتُلينا بهم احتقار المثقفين وامتهان المعارضين وعدم التساؤل ولو لحظة هل في ما يقولون بعض من صواب استعمله لتقويم الأخطاء ولمصلحتي أنا قبل مصلحتهم؟ كلهم ركبوا رؤوسهم والنتيجة ما نتابع. سواء قرؤوا من هنا فصاعدا رسائل المثقفين وعملوا بها أو واصلوا طمأنة أنفسهم بأن وضعهم غير وضع البلدان العربية الأخرى التي تعيش أكبر زوابع تاريخها القديم والمعاصر فليتأكدوا أن النظام السياسي القديم الذي مات في العقول والقلوب منذ السبعينيات هو الآن بصدد الدفن وآخر جنازته التي حدثت البارحة في طرابلس . ليستبطنوا قبل فوات الأوان أنه لا حكمة في مواجهة المدّ الجارف لإرادة الشعوب وأن النظام السياسي الذي ستبنيه شعوب الأمة أحبوا أو كرهوا سيكون نظام: القانون فوق الأهواء، المؤسسات قبل الأشخاص، المواطنون بدل الرعايا، المؤسسات المدنية فوق وقبل المؤسسات الأمنية، الإعلام قبل البروبغندا، المحاسبة بدل اللا مسؤولية، الكفاءة قبل الولاء، الشعب قبل ممثله، وأن سيد القوم خادمهم وسيد الأسياد من يعطي المثل لا من يعطي الأوامر
الجزيرة نت