وفي آخر المطاف.. هل هناك حلّ؟
الخميس 28 كانون الثاني (يناير) 2010
في كتابه “البقاء إبّان الأزمات” يستنتج جاك أتالي من استشراف المستقبل أنه زاهر بالنسبة لشعوب آسيا، لكن الأربعمائة مليون عربي سيتدنى مستواهم في كل المجالات إلى ما تحت المعدل العالمي وسيبقون خارج التاريخ.
كم غريب وصولنا لهذه الحالة ونحن نجري منذ النهضة وراء حلّ الإشكالية المزمنة: كيف نردم الهوة بيننا وبين الغرب وكيف الخروج من تخلف انجرّ عنه داخليا الجهل والظلم والفقر والعقم الحضاري وخارجيا التبعية؟
لنستعرض ما جربنا لحدّ الآن -أو حاولنا تجريبه- من حلول.
الحلّ الوطني: منطلقه تقديس الأرض المطوقة بحدود خيالية رسمتها صدف التاريخ وتعظيم كائن خيالي اسمه الشعب واعتبار بناء دولته المستقلة الطريق لإخراجه من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائه هم الوطنيون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتخليص الشعب من براثن الاحتلال الخارجي والسهر على قيادته وتربيته وتنميته.
الحلّ القومي: منطلقه تقديس الأرض التي تمتد من المحيط إلى الخليج وتعظيم الأمة العربية واعتبار بناء دولتها المتحدة الطريق لإخراجها من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائها هم القوميون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتوحيد الأمة وقيادتها وتربيتها وتنميتها فتعود لأولى الأماكن.
الحلّ الشيوعي: رغم أنه لم يجرب عندنا، فإنه يجب تذكّر الأفواج الهائلة من الشباب العربي التي احترقت لتحقيقه. المنطلق تقديس الطبقة العاملة حاملة مشعل التاريخ واعتبار بناء دولة العمال والفلاحين، الطريق لإخراج المجتمع من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائها هم الثوريون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتخليصها من براثن الإقطاع والإمبريالية.
كلنا نعرف النتيجة اليوم. لم يكن الاستقلال إلا سرابا. تعمقت التبعية. انقلب الوطنيون إلى محتلين داخليين لا يتورعون عن أبشع أصناف العنف للحفاظ على امتيازات مشينة. عامل المحررون الشعب كقطعان ماشية تورّث من الأب للابن. كان أداؤهم في ميدان التنمية الشاملة هزيلا. أضاف القوميون لموبقات الوطنيين تهشيم البلد الواحد. ساهموا في تكريه شعوبنا في بعضها البعض. أما فشل الشيوعيين فقد ثبت لحسن الحظ في بلدان غير بلداننا وديكتاتورية البروليتاريا تنقلب لديكتاتورية على البروليتاريا، مؤدية لانهيار شامل لدول خلناها أبدية.
ما الذي حدث لأحلام آبائنا وأجدادنا وكيف انقلبت للكوابيس التي نعرف؟
إن أكبر أسباب فعالية الطب –والعلم بصفة عامة- قدرته على التعلم من أخطائه خلافا للسياسة التي تكرّر نفس الأخطاء. لكن لنتصوّر أن كبار القادة الإسلاميين كلّفوا أكبر مثقف إسلامي بدراسة معمقة حول أسباب فشل الحلول الوطنية والقومية والشيوعية ثم بالبحث في أسباب نجاح الأمم المتقدمة وإصدار توصيات تقي المشروع الإسلامي من عثرات السابقين.
مؤكّد أنه سيكشف بسهولة العشرة قواسم مشتركة التي تفسّر هذا الفشل وهي أفكار مسمومة بذرت باكرا في العقول مواقف وتصرفات قادت إلى التهلكة.
1- سطحية تحليل أزمة المجتمع بالتركيز على عامل واحد كسبب كل المصائب ( الاستعمار، التجزئة، الطبقية) واتهامه بما فيه حقا، لكن أيضا بما لا يتحمّل والحال أن مشاكله نتيجة شبكة سببية معقدة تتداخل فيها العوامل البيئية والثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
2- الإيمان بوجود وصفة تستند على حقيقة مطلقة، يملكها الطرف المعني دون الجماعات السياسية الأخرى التي أفرزها نفس المجتمع ومن ثم حق مجموعة ضيقة في تحديد برنامج الخلاص وحسب رؤيتها هي لا غير.
3- فرض الوصاية على المجتمع من منطلق أن الحزب القائد والزعيم الملهم والدولة العتيدة هم الوطن أو الأمة والمستقبل، ومن ثم جعلهم مسؤولين عن المجتمع لا مسؤولين أمامه… والموقف غطاء سهل على ما يعتمل داخل النفوس من جشع وظلم ونرجسية وتسلّط.
4- إساءة تقدير صعوبة التغيير وطول مدته وحدود الإرادة الفردية.
5- قطع خطّ الرجعة على النفس بمنع التقييم الذاتي والتعلّم من نقد الآخرين لأن من يملك الحقيقة المطلقة لا يخطئ.
6- تخريب الدولة بفعل قانون الاصطفاء العكسي، فخلافا للطبيعة التي تكافئ أحسن التصرفات، يصطفي الاستبداد أسوأها لأن من طبيعة المستبدّ إزاحة كل منافس كفؤ، وجعل الوفاء له -أو ادعائه– قاعدة اختيار أعوانه. هكذا يزاح الأكفاء لصالح المتملقين والانتهازيين. وهؤلاء يفعلون نفس الشيء عند وصولهم الحكم. وعلى منوالهم يسير المكلفون بالأنظمة الاجتماعية الكبرى كالتعليم والصحة والأمن، فتنتشر من القمة إلى القاعدة المواقف والتصرفات السلبية التي تؤدي إلى ضعف أداء هذه الأنظمة الحيوية. كل هذا بجانب الثمن الباهظ للقمع والثمن الأغلى لشلّ الطاقات الخلاقة.
7- انتشار الفساد الناجم عن طول الاستئثار بسلطة مطلقة ولا مسؤولة ومن أخطر مضاعفاته ضرب قيم النزاهة والاجتهاد والثقة بالعدالة وكلها من شروط المجتمع السليم.
8- الاستماتة في كسر مقاومة الواقع واحتجاج المجتمع على هزال النتائج بالإنكار في الفكر والعنف في الممارسة فلا يزداد الطين إلا بلة.
9- اعتماد تزييف الأفكار والقيم والمؤسسات والأشخاص كآخر حيلة للتغطية على فشل تام أصبح من المستحيل تداركه، فتتفاقم مشاكل المجتمع وهو يتخبط في واقع زاد غموضه بالأساطير والأكاذيب.
10- الرفض إلى النهاية لبديهيات تعمي الأبصار وأهمها. إنه لا تقدم دون تقييم أي دون حرية النقد أي دون الحرية.. إن تكبيل طاقات المجتمع المدني بالقيود يفاقم ضعف المجتمع والدولة.. إن البطش بالجماعات السياسية المخالفة كقطع اليد لليد الأخرى في محاولة تخليص الجسم من الروماتيزم.. إن الإفلاس آت كالموت لا ريب فيه.
هنا ينتبه مثقفنا أن مشروع “الإسلام السياسي هو الحل” جبة رابعة من لون مختلف لكن على نفس الهيكل العظمي، فكل الخصائص الفكرية والنفسية التي أجهضت المشاريع الوطنية والقومية والشيوعية متواجدة فيه بصفة واضحة أو جنينية، منها سحب قداسة العقيدة على دعاته الذي يظهر في عنف الردّ على كل نقد.
هو يعلم أيضا أن التقييم الموضوعي الوحيد للمشاريع السياسية لا يبنى على بلاغة أصحابها أو صدقهم أو وعودهم وإنما على أفعالهم، وأن عليه تقييم أداء الإسلاميين في الحكم بنفس المنهجية التي طبقها على الحلول الثلاثة. يا للهول وهو يتفحص ثلاث تجارب معاصرة: طالبان والوهابية ونظام الملالي. كيف ينكر شدة قهر النساء والتعصب والجهل في النموذج الأفغاني، وعمق الفساد والقمع والتبعية في النموذج السعودي، وحدة الصراعات داخل نفس المنظومة في إيران إضافة لغليان المجتمع بالثورة ضد الثورة.
قد يحاول البعض طمأنته -أو خداعه- قائلين له: ردّد للناس أن عليهم انتظار تحقيقنا نحن “للإسلام الحقيقي” وسيرون. المشكلة أن مثقفنا النزيه يعرف أنه جواب سخيف والشعوب المتخبطة في أزمات تغرق فيها يوما بعد يوم، حتى لا نقول ساعة بعد ساعة، ليس لها الوقت لانتظار تمكن الإسلاميين “الحقيقيين” لإعلاء راية الإسلام “الصحيح”، خاصة وأن تعريفه موضوع صراع متواصل منذ معركة الجمل وسيتواصل إلى يوم يبعثون.
لقائل أن يسرّ في أذنه: لا تترك هذا العلماني المغرض يحبطك، ذكّر بالنموذج التركي. نعم لينظر له مليا وسيكتشف أن نجاحه نتيجة تباينه مع فكر وممارسات أغلب الحركات الإسلامية “العادية”.
المهم بقية البحث أي أسباب نجاح القادمين الجدد ومنهم تركيا والهند وماليزيا وكوريا وكلها بلدان انطلقت نحو القمم من وضع أصعب بكثير من وضعنا، ناهيك عن تواصل صعود خصومنا الأزليين.
لن يجد صعوبة في فهم سرّ نجاح الأوروبيين.
هم أربعمائة مليون نسمة يسكنون على مرمى حجر منا، لكنهم أغنياء، متعلمون، أحرار ومتحدون، ونحن أربعمائة مليون عربي نسكن على مرمى حجر منهم، لكننا فقراء جهلة مستعبدون ومتفرقون.
بديهي أن قاسمنا المشترك الاستبداد وقاسمهم المشترك ديمقراطية حررتهم ومكنتهم من بناء اتحادهم.
هو يستطيع الآن أن ينظر لتجربة أميركا، الناجح الآخر، ليجد داخل شبكة الأسباب: الجشع الليبرالي+ الإمبريالية إلخ … لكن بخصوص ما يهمنا تقديس العلم والعمل.
لينظر الآن نحو الهند وتايوان وماليزيا والصين وكوريا الجنوبية وسيكتشف مع الباحثين سرّا أقلق الغربيين كثيرا لأنه ينذر بنهاية سيطرة دامت خمسة قرون.
القاسم المشترك بين كل هذه الدول -واليابان قبلها بقرن- سياسة التعليم فالتعليم ثم التعليم عشرون سنة على الأقل قبل الإقلاع الاقتصادي المذهل.
يا للفرق الهائل بين نسب الأمية ومستوى الجامعات والبحث العلمي عندهم وعندنا وذلك بعد نصف قرن من انتصاب دولهم التي استثمرت أين يجب الاستثمار ودولنا التي أهدرت مواردنا القليلة في الفساد والتسلح العبثي والأجهزة “الأمنية”.
لنتصور الآن فحوى تقرير في ظرف مختوم بالشمع الأحمر كتب عليه سرّي للغاية، سيجده على مكتبهم ذات صباح زعماء الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب.
حتى يكون الحل الإسلامي بديلا لا تكرارا. لفشل الوطنيين والقوميين والشيوعيين أسباب كثيرة لكن أولها الاستبداد. لنجاح الغربيين أسباب عدة لكن الديمقراطية قطعة أساسية من المحرّك الذي رفعهم إلى الأعالي. لذلك يجب أن نكون ألدّ أعداء الاستبداد أيا كان غلافه العقائدي خاصة إذا كان إسلاميا ولتكن أولى أولوياتنا تقويض صرح الاستبداد الحالي بالتنسيق مع كل القوى المناهضة له ومشاركتها من موقع نسعى ليكون متميزا بعطائه، في عملية بناء دولة ديمقراطية حقيقية.
يتطلب هذا ثورة ذهنية تمرّ بالتخلي عن الإيمان بامتلاكنا الحقيقة المطلقة وسحب قداسة الإسلام على أحزابنا وتطليق الاستبداد في الفكر وتطليقه أيضا في مواقفنا من الحركات السياسية الأخرى باعتبارها ظاهرة طبيعية تترجم للتعددية الوطنية وتملك مثلنا جزءا من الحقيقة ومن الخطأ وتقديم الوفاق السياسي معها على الخلاف العقائدي.
أما بخصوص نجاح القادمين الجدد فإنه يتبيّن أن صعود الهنود والكوريين ليس نتيجة تطبيق الهندوسية أو البوذية “الحقيقية”، مثلما لم يكن صعود الغربيين نتيجة تطبيق “المسيحية الحقيقية”.
كل هذا يفنّد جدية الوعد بأن تطبيق “الإسلام الحقيقي” يوما ما بقيادة أحزاب دينية هو الطريق. خلافا لهذا التوجه الفارغ من كل مضمون عملي، يجب من جهة التركيز على الإسلام كمحور الهوية الجماعية وخزان القيم والدعامة الروحية للأمة وعدم إقحامه في الصراعات السياسية وهي صراعات بشر ضد بشر، ومن جهة أخرى حث الإسلاميين على حلّ مشاكل الناس اليومية فهذه المعادلة هي التي ساهمت في إنجاح تجربة تركية يجب ألا تبقى الشاذة التي تحصى وإنما القاعدة التي يقاس عليها.
ثبت لنا أيضا أن سرّ نجاح الأمم الصاعدة هو جعلها التربية أولوية الأولويات. لذلك يجب أن ندفع الدولة الديمقراطية التي سنشارك في صنعها أن تكون أولويات الأولويات التعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم، كما يجب أن نتميز بتشجيع كل القيم والمؤسسات التي تعيد للعلم والعمل مكانتهما المركزية في المجتمع.
وفي آخر المطاف فإنه لا أحد يعرف “الحلّ” بمعنى الوصفة الكاملة والنهائية للتعامل مع مشاكل بخطورة وتعقيد التي تعرفها كل المجتمعات، بل ومن الأرجح أن المفهوم أسطورة عقيمة. إن المطلوب للتعامل الأسلم معها عقلية علمية عملية متواضعة، تقدّر حق قدره تعقيد الواقع، تبحث وتقيم وتحسّن باستمرار لخلق التراكمات الكفيلة بتذليل صعوبات تغير طبيعتها ولا تنتهي. لكن حتى هذه المنهجية عاجزة عن التأثير بعمق إن لم يجعل دعاتها القيم رائدهم لأن سيد القوم ليس من يعطي الأوامر وإنما من يعطي المثل وبالتالي نكون قدوة أو لا نكون.
من خبر البشر عموما والعقائديين خصوصا لا يخالجه الشك أن أغلبية متلقي التقرير سيرمونه في سلة المهملات ومنهم من سيكفّر صاحبه وقّلة ستعيد قراءته. هل لا فائدة إذن في البحث عن أي علاج وقد استعصى المرض على الدواء والنطاسي؟ هل يصدق جاك أتالي الذي تنبأ بأن التاريخ أسقطنا من حساباته وكأنه يئس منّا نهائيا؟
ما نسيه هذا المحلل قانون المؤرخ الشهير توينبي: التحديات الكبرى هي التي تصنع الأمم الكبرى. نسي خاصة أننا كائنات حية يتدفق في عروقها زخم الحياة وعنادها.
عناد الحياة هذا هو الذي يجعلنا لن نكفّ لحظة عن البحث عن حلول، ننهض بعد كل كبوة ونواصل الطريق مهما طال وتشعب ودمت عليه أقدامنا. حقا سيضيّع الجزء المتخلف من الإسلاميين وقتهم ووقت الأمة وقد يكلفونها ثمنا باهظا في تكرار الفشل، لكن الجزء الذكي منهم بادر وسيبادر أكثر فأكثر لتحديث المفاهيم والممارسات، كما فعل وسيفعل الجزء الذكي من الوطنيين والقوميين والاشتراكيين.
الأهم من هذا كله أن المجتمعات هذه الكائنات الحية الذكية –والتي لا يعكس نقاشنا الثري إلا تنامي وعيها– لن تنتظر “الحل” من المفكرين والسياسيين فقط وهم مجرد إفرازاتها في أعلى المستويات. هي ستبحث على صعيد الأشخاص والجماعات عن حلول جزئية بغض النظر عما يعتمل في صلب الدولة. ومن هذا الزخم الجبار ستبرز حلول مزدوجة وأخرى لم يتوقعها أحد.
أمة لها خمسة عشر قرنا من العمر ومعدل عمر أطفالها 22 سنة هي أمة لها حكمة الشيوخ وعنفوانية الشباب. لنثق فيها وفي أنفسنا وفي الله الذي حبانا بنعمة العقل ولنواصل سعينا نحو الأجمل والأرقى والأكثر حرية وإنسانية لنكون جديرين بمستقبلنا وليس فقط بماضينا.