مناشدتان غير متكافئتين
السبت 28 آب (أغسطس) 2010
نشرت الصحافة التونسية في مطلع هذا الشهر مناشدة وقّعتها «شخصيّات» علميّة وثقافيّة لتناشد الرئيس زين العابدين بن علي الترشّح لانتخابات 2014. إنّه أمر مخالف لدستور سنّه الرجل بنفسه ويحدّد عمر المترشّح بخمسة وسبعين عاماً (وهو سيكون في الثامنة والسبعين عند حلول أجل «الانتخابات»)، ممّا يعني تغيير الدستور مرّة أخرى بعد تغيير 2002 الذي ألغى تحديد الدورات وسمح له بالترشّح سنة 2004.
ما العيب في هذا والكل يعلم أن الدستور في الوطن العربي عموماً، وتونس خصوصاً، خرقة لتلميع حذاء الدكتاتور؟ وفي المقابل، جاءت المناشدة الثانية التي وقّعتها نخبة من المواطنين ترفض التمديد والتوريث، وتنادي بالتصدّي لهما، ما يعني مطالبة الدكتاتور بالرحيل بعد انتهاء ولايته، وهي نفسها غير شرعية.
ثمّة فوارق مهمّة بالطبع بين العريضتين. فالأولى مفبركة من الألف إلى الياء ومن الياء إلى الألف، دفعت بها السلطة لجملة من الأهداف. والثانية تلقائية عفوية انطلقت من مصادر متعددة من داخل مجتمع مدني اكتوى بنار استبداد لم تترك شيئاً إلا وحرقته إلى الجذور. مناشدة السلطة أيضاً موقّعة من طرف أناس لا يخشون على مستقبلهم ولا يتوقعون مضايقات، بل بالعكس. ثمة من سيجني مكاسب هامّة، وآخرون سيتفادون على الأقل مشاكل من نوع مراجعة جبائية مفاجئة تقصم الظهر وتمثّل، إضافة إلى الطرد من العمل وفبركة الكاسيتات البورنوغرافية، أفضل تقنيات النظام لكسر شوكة المعارضين. الدستور في الوطن العربي عموماً، وتونس خصوصاً، خرقة لتلميع حذاء الدكتاتور
الفرق الأساسي هو أن عريضة المناشدة بالبقاء فعل، بينما عريضة المناشدة بالرحيل ردّ فعل. الأولى ذات مهمات متعددة. ثمة جسّ نبض الشارع وحتى الحماة الخارجيّين، وخصوصاً الأميركيّين والفرنسيّين. أما الإسرائيليّون، فدعمهم لا مشروط.
هناك أيضاً إنذار المعارضة: نحن هنا وباقون إلى الأبد. حتى لا يخطئ أحد فهم الرسالة، طلع علينا الصهر المسمّى صخر الماطري في 19 آب/ أغسطس بتصريح مفاده أن مشروع بن علي سيتواصل إلى ما بعد 2014، أي إن التمديد ليس إلا مدخلاً للتوريث، وهو ما كنّا نعلمه دون تصريح من هذا الشاب الذي كدّس ثروة هائلة بعد أربع سنوات فقط من زواجه من بنت الدكتاتور، وهو مع الزوجة المصون السيدة ليلي الطرابلسي، أحد المرشحين ليكون على رأس الجملكية التونسية.
قد يكون لمناشدة البقاء أيضاً أهداف أخرى. ربما تخفي صراع قوى بين جزء من النظام يناشد بن علي البقاء لقطع خطّ المناورة على الصهر والزوجة، وكلاهما متعطش للدور. وإلا كيف نفسّر انطلاق الحملة الرئاسية أربع سنوات قبل الموعد، وآثار الحملة الماضية لم تُمحَ بعد، ما يعني أننا أمام صراع داخلي أكثر مما نحن أمام نية جدية لترشيح رجل مريض ومرهق. إنها معطيات غامضة لن تتضح حقيقتها إلا بمرور الأيام. المهمّ أن مناشدة الرحيل جاءت كردّ فعل، والنظام سيقيس به متانة المعارضة وقدرتها على الوقوف في وجهه. الثابت والمهم في الأمر أنها تنخرط في مقاومة مدنية لم تتوقف يوماً، واتخذت طيلة العقدين الماضيين أساساً صبغة حقوقية فضحت النظام وزيف ادّعائه بالديموقراطية.
إضافة لهذه المقاومة التي قادتها بالأساس نخب المجتمع المدني، برزت ثورة الحوض المنجمي السنة الماضية، وأحداث الجنوب الشرقي هذا الشهر، كمظهر من مظاهر دخول الطبقات الشعبية على الخط. كذلك الأحداث المتفرقة المعزولة هنا وهناك من تململ وإضرابات، تشير إلى بداية حركة جماهيرية ما زالت جنينية غير منظمة وغير مسيسة.
هل ستكون هذه العريضة التاريخية، كما نتمنى، فرصة ثمينة لا تفوَّت تنتهي بإقامة جبهة سياسية موحّدة تقود المقاومة المدنية وتكسر مشروع التأبيد والتوريث الذي يتفق كل التونسيين دون استثناء على رفضه؟ هذا ما يتطلّبه الظرف وما يسمح به.
نعم المطلوب الآن أن تفرز تونس قيادة سياسية لجبهة تطلق وهم تغيير النظام من الداخل أو من الخارج، وتقطع معه نهائياً لكي تنظّم وتوحّد مقاومات لا تستطيع شيئاً، متفرقة وبلا هدف سياسي جامع. لا حلّ غير هذه الجبهة ذات الهدف الواضح ووسائل النضال السلمي المؤدّي إلى العصيان المدني، وإلا فسيؤدي نجاح التمديد والتوريث إلى دخول تونس في مستقبل غامض وبالغ الخطورة شأنها في هذا شأن أغلب شعوب الأمة التي تعاني تضافر الاستبداد بما هو استعمار داخلي، والاستعمار بما هو استبداد خارجي.
إن نهاية الدكتاتورية هدف لا مساومة فيه وحقوق شعوبنا غير قابلة للتصرف. وعندها تتوضح الصورة ويحدد الهدف وتتحد القوى الرافضة للموت البطيء. فالمسألة مسألة وقت، وكما قال الشاعر: «وما استعصى على قوم منال/ إذا الاقدام كان لهم ركابا».